ولد عبد الرحمن الكواكبي في مدينة حلب السورية عام 1854م، وكان أبوه أحد أعيان المدينة ومن كبار علمائها ويمتد نسبه للحسين بن علي (رضي الله عنه)، أما أمه فكانت ابنة مفتي أنطاكية، ويتصل نسبها بآل بيت النبوة أيضاً، وفي مدينتي حلب وأنطاكية تلقى عبد الرحمن الصغير علومه الشرعية والدنيوية، وورث عن أبويه الشرف والمكانة الرفيعة في المجتمع، حتى بلغ العشرين سنة فعمل بالتدريس في حلب، ثم اجتذبته صاحبة الجلالة، فعمل محرراً بالصحيفة الرسمية لولاية حلب، التي كانت تابعة آنذاك للسلطنة العثمانية، ثم أصدر صحيفتين خاصتين هاجم فيهما الاستبداد ونقد الحكومة بجرأة، فأغلقهما له الوالي العثماني تباعاً، فاضطر لترك الصحافة والعمل محامياً متطوعاً عن الفقراء والمظلومين، ساعده على ذلك الميراث الذي خلفه له والده، وبعد أن ضاق باضطهاد الولاة العثمانيين هاجر إلى مصر، حيث لقي الرعاية والتكريم من الخديوي عباس حلمي الثاني، الذي كان مناوئاً للسلطان العثماني آنذاك، وحيث تمكن من طبع كتابه "أم القرى"، ونشر مقالاته النارية التي تحولت بعد ذلك لكتابه الأشهر "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، كما أتيحت للرجل الفرصة للتلاقي والاحتكاك بكوكبة من العلماء الذين ترك فيهم جمال الدين الأفغاني بصمته الفكرية، أمثال: الشيخ محمد عبده، ورشيد رضا، والشيخ علي يوسف. ومن القاهرة قام الكواكبي عام 1901م برحلة سياحة في بلاد المشرق، أراد منها أن يطلع على أحوال العالم الإسلامي، وأن يدرس مشكلاته، وزار خلالها: إفريقيا الشرقية والجنوبية، والحبشة والصومال، وشبه الجزيرة العربية، والهند وإندونيسيا، وسواحل الصين الجنوبية. وبعد أشهر ستة عاد الكواكبي للقاهرة، وكانت علاقته بالخديوي عباس قد أخذت تسوء آنذاك، ولم يلبث أن لقي حتفه في ظروف مريبة إثر تناوله فنجاناً من القهوة في أحد مقاهى القاهرة، مساء الرابع عشر من يوليو 1902م، ويذهب بعض المؤرخين إلى أن الخديوي هو من دس له السم، بينما يرى آخرون أن عملاء السلطان العثماني في القاهرة هم من فعلوا ذلك، نظراً لموقفه من استبداد العثمانيين ومظالمهم! "أم القرى"، و"طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، هما أهم مؤلفات الكواكبي وأشهرها، يتناول الأول حال العالم الإسلامي، وسبب ما يعانيه من ضعف وتخلف، وكيفية نهوضه الحضاري، أما "طبائع الاستبداد"، فكان أول كتاب باللغة العربية يتصدى لتشريح الاستبداد السياسي، وتحليل أصوله ومكوناته وعلاقاته، وفيه اعتبر الكواكبي أن الاستبداد هو أصل الداء وعلة العلل في المجتمعات العربية والإسلامية، ومن المباحث التي عالجها: آثار الاستبداد السيئة على الدين، وعلى العلم، والمال العام والخاص، وعلى حقوق الإنسان، وأضراره على الأخلاق وتربية الأجيال، وقدم المؤلف في الفصل الختامي رؤيته لكيفية التخلص من الاستبداد وعلاجه! حتى الآن تظل رؤية الكواكبي من أنضج الرؤى التي أنتجها الفكر الإسلامي الحديث في قضية الاستبداد السياسي، بل إنك كثيراً ما تشعر وأنت تقرأ ذلك الكتاب متوسط القطع قليل الصفحات، أنه يُوّصف الواقع المصري، قبل وبعد ثورة 25 يناير، خاصة الجزء الذي يحلل فيه طبيعة الوزراء والمسئولين في النظام المستبد، واستمع إليه مثلاً وهو يقول في أحد المواضع :" والنتيجة أن وزير المستبد هو وزير المستبد، لا وزير الأمة كما في الحكومات الدستورية. كذلك القائد يحمل سيف المستبد ليغمده في الرقاب بأمر المستبد لا بأمر الأمة، بل هو يستعيذ أن تكون الأمة صاحبة أمر، لما يعلم من نفسه أن الأمة لا تقلد القيادة لمثله"!!.. ألا تشعر وأنت تقرأ هذه الكلمات أنه يشير إلى شخصيات مدنية وعسكرية بعينها في أيامنا هذه؟! Comment *