الدكتورة دلال البزرى أستاذة جامعية لبنانية، وقد كانت إلى فترة قريبة، كاتبة منتظمة فى صحيفة «الحياة» اللندنية، وكنتُ قد رأيتها فى البحرين قبل شهرين، ثم رأيتها الأسبوع الماضى فى بيروت، وكنت أقرأ لها قبل أن أراها، ولم أكن أعرف أنها أقامت فى القاهرة عشر سنوات كاملة، وأنها بعد السنوات العشر قررت أن تعود مرة أخرى إلى بيروت، وأن تقيم هناك.. فماذا حدث؟! سألتها فى لبنان عن السبب الذى جعلها تقرر قبل تسعة أشهر من الآن، أن تهجر القاهرة، وأن تُغلِّق بيتها فيها، وتذهب لتبحث عن مكان فى العاصمة اللبنانية!.. وكان ردها أن أحداً لم يضايقها فى عاصمة بلدنا، وأن كل ما حدث، أن القاهرة كمدينة لم تعد مدينة، ولم يعد من الممكن احتمالها، وأن زحامها، ومرورها، وصخبها، وضجيجها، وتلوث هوائها، فوق طاقة أى بشر، وأن ما كانت تحتمله هى، فى القاهرة، فى بدء السنوات العشر، لم يعد فى طاقتها الآن، وهى قد قاومت طويلاً، لتبقى فى القاهرة، لولا أن أعصابها لم تسعفها، فأخذت أشياءها، واستقرت فى بيتها فى لبنان، إلى أن يرى المسؤولون عن العاصمة المصرية، حلاً لها! والمؤكد أن الدكتورة دلال، ليست حالة فريدة، وأن ما قامت به، مؤشر جديد، على حالة القاهرة وعلى أن هذه الحالة تسوء يوماً بعد يوم.. فزمان، كان المقيم فيها، إذا زهق منها، أو ضاق بها، فإنه يخرج أسبوعاً، أو أسبوعين، ليريح أعصابه، ثم يعود ليواصل حياته فيها.. ولكننا الآن، من خلال حالة حية، أمام نموذج آخر، يأخذ أشياءه، ويترك القاهرة لأهلها، ويبحث له عن مكان آخر، يليق به كإنسان، ليعيش فيه! وربما لم يستوعب المسؤولون المعنيون لدينا، إلى الآن، معنى أن يعقد رئيس الجمهورية، اجتماعين بنفسه، خلال 72 ساعة، ليبحث الأزمة، ولا حتى رئيس الوزراء. وأن ما نتصوره، أن هناك مائة جهة تسبقهما فى التفكير من أجل عاصمة تنتحر كل يوم، ولا أحد يريد أن ينقذها، ولا أن يبحث عن حل عملى لأمراضها.. رغم أن الحل معروف! وإذا كانت الصديقة اللبنانية، قد قررت الخروج، فإن حالتها يجب أن تكون محل دراسة، لسببين، أولهما أن هناك ملايين غيرها طبعاً، يقيمون فى القاهرة، وهؤلاء لا بديل آخر أمامهم، وإنما كتب الله عليهم أن يعانوا يومياً فى شوارع المدينة، وأن يظلوا محبوسين فيها، ولو استطاعوا لكانوا قد فروا منها.. ولكن إلى أين؟! والسبب الثانى أن علينا أن نضع كل سائح يأتى إلى القاهرة، فى مكان الدكتورة البزرى، ثم نتصور ما سوف نخسره، سياحياً، لو أنه فكر بطريقتها، وخرج من عاصمتنا، على ألا يعود إليها، ثم كان فى الوقت ذاته، مادة دعائية متحركة، ضد القاهرة، وضد مجىء أى سائح آخر يقابله فى الطريق إليها! إنها فى بيروت، الآن، تمارس هواية المشى فى شوارعها، ولم تكن تستطيع أن تمارسها فى شوارعنا، وهى الآن تخرج لتمشى فى الشارع براحتها، كامرأة، دون أن يحاول أحد أن يتحرش بها، وكانت وهى مقيمة فى المعادى، لا تشعر بأمان، إذا سارت فى شوارعها، بالطريقة التى تتمشى بها، فى الوقت الحالى هناك، وإذا أرادت أن تذهب فى مشوار يستغرق ربع ساعة على قدميها، فإنها تصل إليه بعد ساعة بالتاكسى، وإذا.. وإذا.. لتكتشف فى النهاية، أن الحياة التى هى متعة للإنسان فى بيروت، إنما هى عقوبة له هو نفسه فى القاهرة! الحل قلناه، وسوف نظل نقوله، وهو إخلاء القاهرة من المكاتب الإدارية، والشركات، والورش التى تحتل شققاً وعمارات سكنية بلا عدد، ولن يكون الإخلاء مجدياً، ولا عملياً، إلا إذا كان على مُهلة زمنية تتحدد مُسبقاً، ولتكن خمس سنوات مثلاً.. ووقتها سوف تعود القاهرة، قاهرة، وسوف تجذب الناس، لا أن تضطرهم إلى أن يطفشوا منها، إذا استطاعوا!.. انتبهوا إلى عواقب حالة الدكتورة دلال، قبل أن تتحول حالتها إلى ظاهرة!