فى عام 1997 كانت لبنان تحتفل بالذكرى الأولى لمذبحة «قانا» تلك المذبحة التى راح ضحيتها خمسة وستون طفلاً غير الكبار.. وكان الاحتفال بوضع أكاليل الزهور فى «قانا» على شواهد قبور الصغار الخمسة والستين، ثم إقامة ندوة عن الحدث، وقد شرفتنى الندوة بأن أكون المتحدثة الرئيسية، ذلك لأننى كنت قد كتبت ثلاث مقالات عن الحدث واعتبرته ليس إدانة لإسرائيل بقدر ما هو دافع على المقاومة، وأن إسرائيل جمعت بين الصلف والخسة بقتلها الأطفال فى مقر الأممالمتحدة، وأنها بهذا العمل أعلنت استهتارها بأى رد من لبنان أو الدول العربية، كالعادة شجبنا وأدنَّا. وفى «قانا» رأيت العجب.. رأيت المعوقين يستقبلوننا بالزهور والابتسامات.. ورأيت ماذا يفعلون فى يومهم إنهم يواصلون العمل.. جميع الأعمال مثل أى سليم معافى وينتجون ولا يسألون أين يسوق الإنتاج، إنه شرف العمل والمقاومة بالعمل.. فالعمل وحده إنتاج البشر.. إنهم معوقون نتيجة لآلة الحقد التى تركتها إسرائيل فى الأرض، كل يوم ينفجر لغم فى شاب يزرع الأرض فيتركه قتيلاً أو معوقاً، حينما رأيتهم أحسست أن الله لا بد أن يعوض الجنوب اللبنانى خيراً باستشهاد أبنائه أطفالاً ونساء وشيوخاً بضربات بربرية وحشية ليس فيها شرف الحرب. وفى الزيارة التالية شاهدت السيدة راندة برى تتسع ابتسامتها لتزرع الأمل فى أصدقائها المعوقين بالحب، سلاح الحب هو أسلوبها فى رفع روح المقاومة وحب الحياة والقدرة على العمل، وجدتهم يلتفون حولها التفاف الأولاد حول الأم، وكانوا يتكلمون بلغة واحدة، لغة المقاومة وليست المقاومة بالسلاح، ولكن المقاومة بتواصل الحياة والعمل وزرع الأرض. هنا فى الجنوب اللبنانى لا يترك العدو الإسرائيلى فرصة لالتقاط الأنفاس! لهذا قالت لى السيدة راندة برى: علينا فى الجنوب أن نزرع الأمل مع المقاومة.. وأن يتوقع الإنسان فى الجنوب الضرب فى أى وقت من عدو خسيس لا يحارب حرباً شريفة وفى داخله جبان، لأنه ليس على حق، لذلك معاركه ليس لها خطة بل تعتمد على الغدر والمباغتة، ويكفى ما تركوه من ألغام نحاول نزعها بكل الطرق. سألتها: وكيف تكيفين هؤلاء الذين سلبتهم إسرائيل الحياة الآمنة؟ قالت: بالحب.. فالحب يصنع المعجزات.. حب بلدنا.. حب الحياة والعمل من أجل استمرار الحياة. إننا هنا فى العمل الأهلى التطوعى كونا جيشاً من المتطوعات والمتطوعين، إن العمل الأهلى هنا أصبح مثله فى الأهمية مثل المقاومة تماماً، فنحن نقاوم بالعمل وبالإنتاج، هنا فى الجنوب لا نترك لحظة تسلمنا للألم أو انتظار غدر العدو.. إننا نعمل مع المعوقين والأرامل والأيتام بقوة دفع الحياة.. بالحب.. حب بعضنا لبعض وتقاسم المشاكل ولسنا مطلين على مشاكلهم.. لا إننا معهم فى ذات الخندق. وقد مضى على «قانا» أربعة عشر عاماً، وكبر الأطفال الذين فقدوا أعضاءهم وفقدوا إخوتهم وكل الذى يتذكرونه أن هناك عدواً غداراً!! وتواصل: إننا نعلمهم ألا ينتظروا الغدر ولكن نعلمهم أن يعطوا ظهرهم لما حدث ويعملوا بقدر طاقاتهم. لقد أمضت السيدة راندة برى 72 ساعة فى القاهرة تم تكريمها فيها فى جامعة الدول العربية، ثم تم تكريمها عشية السفر من جمعية الصداقة المصرية اللبنانية، وتكلمت فيها السيدة راندة عن مواجهة محنة الجنوب وكيف تعزف النساء هناك معزوفة المقدرة على تخطى المحن وعلى احتواء مشاكل مجتمع ينام مفتوح العين، لأن العدو على مرمى حجر وليس عدواً عادياً ولكنه عدو جبان. وتكلمت عن ضرورة الاستمرار فى العمل التطوعى فى مجتمع يحتاج إلى كل فكر خلاق. أما عن مصر فقد قالت إن العلاقات المصرية اللبنانية هى التى تقوى لبنان فى مقاومتها وإن مصر هى الدولة الضرورة التى لا تنسى مواقفها من لبنان فى كل الأزمنة. وإن العلاقات المصرية بلبنان تظهر دائماً فى المحن، ولم تمر أى محنة على لبنان إلا وكانت مصر مواتية مجيبة فى موقف يليق بهذا البلد الذى يعيش أمومة دائمة.. وإن اللبنانيين شعباً وحكومة حريصون كل الحرص على قوة العلاقات مع مصر فى ترابط يدعو إلى الاطمئنان، ونحن نواجه عدواً واحداً، والحب الذى يجمعنا هو الذى يقوى تلك الرابطة. كم كانت سعادتى بكلامها عن مصر وكم أحسست بالفرق بين من يجاهرون بالعرفان والحب لمصر، ومن يجاهرون بضرب العلاقات ونسف كل جهد بذلته مصر.. شكراً للسيدة راندة برى.. لأن العرفان يثلج الصدر ويدعو للاستمرارية ومنه ينبع الحب، ولكن النكران ينسف كل ما يحمله الزمن بين الإخوة، ويصبح الحب كأنه مصباح انطفأ فجأة! [email protected]