بينك وبين اليونان ساعتان بالطائرة، ولذلك، فما يجرى فيها هذه الأيام يجب ألا يغيب عنك، ليس فقط لأنها قريبة نسبياً منا، وإنما لأن ما يحدث هناك له علاقة قوية بنا بشكل أو بآخر، كما سوف نرى! فالدنيا كلها مشغولة حالياً، بهذه الدولة الأوروبية الهادئة، أو التى كانت هادئة، حتى أيام مضت.. وفجأة انقلبت الأحوال، وصارت اليونان مهددة بالطرد من الاتحاد الأوروبى، وقد قيل على جانب آخر إن أزمتها المالية المتصاعدة، يمكن أن تكون نهاية حقيقية لليورو، كاقتصاد، ثم كعملة ل16 دولة من دول الاتحاد! والحكاية، حتى نكون موضوعيين، ليست من صنع الحكومة التى تحكم الآن، برئاسة جورج باباندريو، ولكنها من صناعة حكومة سبقته، وظلت تحكم 7 سنوات، ولم تكن تهتم كثيراً بضبط إيراداتها مع مصروفاتها، وكانت قد فتحت المصروفات «على البحرى» وحين رحلت هى عن الحكم، وجاءت الحكومة القائمة الآن، وجدت نفسها فى مواجهة كارثة بالمعنى الحقيقى للكلمة! فالاتحاد الأوروبى يفرض على الدول الأعضاء فيه، ألا يتجاوز عجز موازناتها العامة، 3٪ من إجمالى الناتج المحلى، وأى تجاوز لهذه النسبة معناه أن الدولة مقبلة على خطر فعلى، وأن مصروفاتها قد زادت على إيراداتها، بما لا يجوز، وأنها يجب أن تعود سريعاً وتتوازن! وإذا كانت الحكومة السابقة عندهم، متهمة بعدم الانضباط، فى الإنفاق العام، فالحكومة الحالية متهمة بعدم الأمانة، لأنها كانت تقول للاتحاد طول الوقت، إن العجز 3.6٪، ثم فجأة تبين أنه 12.9٪، وهى نسبة صارخة، وتحتاج إلى خطة إنقاذ عاجل وإلا فإن إعلان إفلاس اليونان نتيجة حتمية، خصوصاً أن إجمالى الدين العام لديهم يجب ألا يتجاوز 60٪ من إجمالى الدخل القومى، ولكنه الآن 97٪، وحين توجه رئيس وزرائهم إلى ألمانيا، بعينيه، طالباً النجدة، قال وزير مالية ألمانيا، التى تظل عضواً بارزاً فى الاتحاد، إن بلاده لن تعطى أثينا سنتاً واحداً.. يعنى بالعربى الفصيح: ولا قرش!.. ويعنى بالعربى الفصيح، مرة أخرى، أن الذين صنعوا الأزمة، عليهم أن يعالجوها، والذين لم ينضبطوا فى إنفاقهم العام، عليهم أن ينضبطوا، والذين لم يكونوا أمناء مع الاتحاد، عليهم أن يدفعوا الثمن! ولم يكن أمام حكومة اليونان غير الإعلان عن خطة تقشف قاسية، وغير مسبوقة ليس أولها تجميد المعاشات، ولا أوسطها خفض علاوات الموظفين، ولا آخرها زيادة الضرائب على الدخل، ولكن الشىء الغريب حقاً، أن استطلاعاً جرى هناك لمعرفة رأى المواطنين، الذين كانوا قد تظاهروا احتجاجاً على إجراءات التقشف، فكشف عن أن 47٪ منهم يعارضون الإجراءات، بينما 46٪ يؤيدونها، بما يعنى أن النسبة تقريباً متوازنة، وأن كل مواطن غاضب من الإجراءات، وساخط عليها يقف أمامه، فى الوقت نفسه، مواطن آخر متفهم لأزمة بلاده، وراغب فى أن يشارك الحكومة البحث عن حل! وماذا عنا وسط هذا الصخب الذى يملأ وسائل إعلام العالم؟!.. إذا كان معدل العجز عندهم 12.9٪، فعندنا 8.4٪، وإذا كان الدين العام لديهم 97٪ بينما حد الأمان 60٪، فعندنا كان 120٪ منذ سنوات بعدد أصابع اليد الواحدة، وأصبح اليوم 80٪، بينما حد الأمان من 45 إلى 50٪! فما المعنى؟!.. المعنى أننا نواجه هماً واحداً تقريباً، ولكن هناك فارقاً مهماً يتعين علينا ألا نغفل عنه أبداً، وهو أنه إذا كان عندهم اتحاد أوروبى يقف لهم بالمرصاد، ويضربهم فوق رؤوسهم، كما فعلت الحكومة اليونانية السابقة، حتى إذا جاءتنا حكومة أخرى، فيما بعد، اكتشفنا عمق المأساة! أعراض المرض فى اليونان، هى ذاتها تقريباً عندنا، وليس هناك فارق كبير بيننا وبينهم، وإذا كان مستوى معيشة الناس لديهم يتحمل الخفض فى المعاشات، والدخل، والزيادة فى الضرائب عليه، فعندنا لا يتحمل بالنسبة لغالبية الناس، ولابد من إجراءات تتخذها الحكومة إزاء وجوه من الإنفاق العام السفهى الذى لا مبرر له، وهى وجوه نعرفها جميعاً ولا داعى للحرج بإحصائها وجهاً وراء وجه، ولو حدث هذا، وكانت الحكومة أمينة فيه معنا، فسوف يكون المواطنون، فيما أظن، سنداً لها، لا عبئًا عليها!