كثيراً ما كان يستقوى به.. يفر إليه حين يشعر بأن المحنة تقترب، وحين يسقط فى دواماتها، فتضرب أحلامه بقسوة جلاد يتلقى أمراً فرعونياً لا يقبل رداً.. يعرفه منذ تفتح وعيه على إدراك شكل الحرف، وطعم الصورة، وحلاوة موسيقى الشعر. لكنه حين استوعب وعيه معنى الكلمات، التصق بمقامه لا يبرح باب الحكمة، يبتعد وتقذفه موجات الترحال إلى أيام لا تعرف شكل الرحمة، لكنه يصمد، ويزيد حماسه لمقاومة مشروعة حين يحاوره ويستحضر رأيه.. يسأله: الموج العاتى لا ينقطع ولا يهدأ.. ولديه تصميم واضح أن يهزم فى قلبى العزم فماذا أفعل؟ ويرد حكيم العصر: «يأسك وصبرك بين إيديك وانت حر/ تيأس ما تيأس الحياة راح تمر/ أنا دقت من دا ومن دا عجبى لقيت /الصبر مر وبرضك اليأس مر». يحاول ألا ييأس لكنه يتحفظ فى الحركة، يحسب للخطوة ألف حساب، يفكر فى عاقبة الحركة قبل مكاسبها، لكنها يسمعه يحسم معه الأمر: «سمعت نقطة مية جوة المحيط/ بتقول لنقطة ما تنزليش فى الغويط/ أخاف عليكى م الغرق .. قلت أنا/ ده اللى يخاف م الوعد يبقى عبيط».. ويضيف عليه من الحكمة آفاقاً أخرى: «حاسب من الأحزان وحاسب لها/ حاسب على رقابيك من حبلها/ راح تنتهى ولابد راح تنتهى / مش انتهت أحزان من قبلها؟». أحياناً يصرخ معه: «يا باب يا مقفول إمتى الدخول؟».. لكنه يسمع منه التوجيه القاطع: «خوض معركتها زى جدك ما خاض/ صالب وقالب شفتك بامتعاض/هى كدة.. ما تنولش منها الأمل/ غير بعد صد ورد ووجاع مخاض». يجتهد ويشهر كل الأدوات ويهبط ميدان المعركة، لا يبحث عن نصر قاطع، لكنه يأمل فى مقعد تحت الشمس، مكان لائق بالحلم، لا ينفى الآخر، ولا يحتكر يقيناً، لا يملك إلا قدراً من صدق فى القول، وقدراً من حيوية أزهار ربيع يتفتح، وشيئاً من إيمان بالغد، لكن دعوته ل«شراكة عادلة» تلقى مقاومة لا تهدأ، ويثير دأبها عجب العم فيقول: «عجبى عليك حواليك مخالب كتار.. ومالكش غير منقار وقادر تعيش». يتعلم منه دأب التفكير الناقد، وصياغة أسئلة الشك الباحث عن قيم العدل، يتعلم منه القول الواحد دون حساب عواقب : «متخافش من غنوتك».. كان يعرف تماماً أن: «علم اللَّوَع أضخم كتاب فى الأرض / أما الصراحة فأمرها ساهل/ لكن لا تجلب المال ولا تصون عرض».. لكن ذلك لم يمنعه عن قول الحق، أو قل ما يعتقد أنه الحق، آمن عن صدق أنه: «لولا اختلاف الرأى يا محترم» ما كان قوس قزح. عندما يحتاج قراراً حاسماً يبحث عنه كلاجئ فيجيبه: «جالك أوان ووقفت موقف وجود».. لكنه يعلمه أن للمحاولة متعة وشرفاً حتى لو لم تأت بنتائج، علمه أن «يهوى الهوى» وألا يكترث إن كان هو «المحبوب» أم لا.. يحفزه أن يحاول ويحاول حتى لو كانت محاولته اغتواء بالمحال، وألا تهمه النتيجة لأن ارتواء قلبه بنشوة المحاولة فى حد ذاته نتيجة مهمة. فى عيد ميلاد العم صلاح جاهين.. باب الحكمة، وينبوع الموهبة، وفيلسوف الحياة الأهم.. يقف بجلال ويحتفل مثلما يحتفل الطفل ب«بابا نويل» وهو يناجيه: «كل سنة وأنت فى خلود يا عمنا».