تلتقط عدسة الكاميرا وجه الجميل الراحل جلال عامر، ومن خلفه نخلة خضراء وارفة، ومن خلفهما تظهر سماء الإسكندرية الشتوية بزرقتها الخفيفة. تترقرق عينا جلال عامر بالأسى وتتقلص ملامحه بالبكاء. لم يكن ينظر إلى الكاميرا، لا شك أنه لم يكن يحب أن تسجل عدستها لحظة الحزن هذه. لكنه ليس انكسارا ذلك الذى أحس به الرجل الذى أضحكنا على أنفسنا وعرّى عيوبنا مثلما ربتت كلماته علينا وقت الحزن وبشرتنا بالأمل المقبل. وربما كانت تلك هى دموع وداع الأحبة الذين ينصهرون معا فى الحبيبة الأولى «مصر» التى اعترف لزوجته بحبها بعد ثورة يناير. لا تقلق علينا يا عم جلال، فنحن لم نعد ننسى أو نتناسى شيئا. وسلم لنا على كل الأحبة واحداً واحداً. لا يزال «أنس» يبتسم فى وجه الكاميرا. لم يستطع الموت أن يسرق تلك الابتسامة العريضة التى تضىء أركان الصورة. يتلامس رأسه مع رأس صاحبه فتمر بين الرأسين أفكار صغيرة: العجلة التى ستأتيهم مع النجاح والكمبيوتر الجديد، وهتافات الألتراس ضد الداخلية وضد العسكر. وجه أنس يحكى عن براءة سنوات العمر الأولى قبل أن يترك الزمن ندوبه على الوجوه ويكسر بعض الأحلام. وجه أنس المبتسم يقول «أعرف أنكم لن تتركوا دمائى تذهب هدرا»، وأكاد أسمعنا جميعا نرد عليه بأحد الهتافات التى كان يرددها هو «يا نظام غبى افهم بقى مطلبى.... حرية حرية». لا تذهب بعيدا يا أنس، حتى تشاهد النصر القريب وتحتفل به معنا. ليس فى هذه الصورة أشخاص. إنها فارغة تماما. التقطت العدسة سور وزارة الدفاع يوم الجمعة 10 فبراير 2012. السور نظيف جدا وقد تلقى حديثا «وش نظافة». وعلى السور جملة مكتوبة باللون الأحمر وبخط طفولى غير منتظم. «مبروك على البوية الجديدة.. يسقط يسقط حكم العسكر». أما هذه فهى صورة/ فيديو لمسيرة وزارة الدفاع فى نفس الجمعة. يهتف المصريون بقوة بسقوط العسكر. يرج الهتاف أركان الشارع ويتردد صداه فى الشوارع المحيطة. تصل المسيرة تحت بيت أحد شهداء مجزرة بورسعيد فيهتف الجميع «فى الجنة.. يا محمد. فى الجنة.. يا محمد». تظهر أم محمد فى شرفتها وهى ترتدى سواد الحداد فيهدر الحشد «يا أم الشهيد متعيطيش، ابنك بطل ميتنسيش». تتجمد الأم مكانها وتتساقط دموعها فوقهم. من موقعها فى الشرفة تكاد أم محمد ترى وجهه وقد أصبح آلافا من الفتيان والفتيات الذين لا يعرفون خوف الآباء. تفكر أن هذا الصوت الذى يهدر تحت الشرفة يتوعد الخونة بالعقاب هو صوت محمد. تسمعه يقول للحكام قساة القلوب إن زمنهم فى أفول مهما حاولوا محاربة الزمن. يقول إن الغد من صنع هؤلاء الذين يجوبون الشوارع بعرض «كاذبون» ويكتبون على الحوائط «خافى منا يا حكومة» وينزلون كل يوم فى المسيرات السلمية التى تؤكد عدم تنازلنا عن حق الدم وحق الوطن. اجمعوا صورا كهذه فى ألبوم صغير، وضعوه بحرص فى ركن دافئ فى القلب. عودوا إليها كلما ازداد عليكم الألم أو التعب أو الشك فى أن ثورة كثورتنا من الممكن أن تموت.