حسين أبو حجاج يعلق على واقعة محافظ المنيا ومدير المدرسة: «الدنيا بخير»    الجامعة المصرية للتعلم الإلكتروني الأهلية تشارك في بطولة العلمين للجامعات    محافظ الفيوم: النزول بالحد الأدنى للقبول بالتعليم الثانوي إلى 221 درجة    الفجر في القاهرة 4.46.. جدول مواعيد الصلوات الخمسة بالمحافظات غداً الثلاثاء 12 أغسطس 2025    ضوابط صرف الكتب المدرسية للمدارس الخاصة والدولية للعام الدراسي 2025-2026    طلعت مصطفى تسجل أداءً ماليًا تاريخيًا في النصف الأول من 2025 بمبيعات 211 مليار جنيه وأرباح قياسية    إصدار 1188 ترخيص إعلان.. والمرور على 1630 محلا ضمن حملات إزالة الإعلانات العشوائية بالمنيا    الحجز متاح الآن.. شروط التقديم على شقق سكن لكل المصريين 7    رجل السياحة الأول في مصر.. هشام طلعت مصطفى يواصل التألق في قائمة فوربس    لأول مرة من أسبوع.. هبوط المؤشر الرئيسي للبورصة بختام التعاملات اليوم    محافظ الإسكندرية يتفقد بدء تنفيذ مشروع توسعة طريق الحرية    رئيس الوزراء البولندي يعلن تخوفاته من لقاء بوتين وترامب بشأن الحرب مع أوكرانيا    حزب الله: لن تستطيع الحكومة اللبنانية نزع سلاحنا    «تضم 27 لاعبًا».. مسار يعلن قائمة الفريق استعدادًا ل دوري المحترفين    فيبا تضع مباراتي مصر ضمن أبرز 10 مواجهات في مجموعات الأفروباسكت    تعرف علي موعد مباراة منتخب مصر وبوركينا فاسو فى تصفيات كأس العالم 2026    الشربيني رئيساً لبعثة الشباب إلى المغرب    مصرع شخص في تصادم على الطريق الزراعي بطوخ    إحباط تهريب 32 طن بنزين وسولار بمحطات تموين بالإسكندرية (صور)    لحمايتهم من ارتفاع درجات الحرارة.. وقف عمل عمال النظافة خلال ساعات الذروة في المنيا    جدل بعد مشاركة محمد رمضان في حفل نظّمته لارا ترامب.. دعوة خاصة أم تذكرة مدفوعة؟    ذكرى رحيل نور الشريف.. تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياته وموقف عائلته من السيرة الذاتية    12 Angry Men وثيقة فنية دائمة الصلاحية |فضح الحياة .. لا تمثيلها!    هل يُسبب الشاي أعراض القولون العصبي؟    نجم الدوري الألماني يختار النصر السعودي.. رفض كل العروض من أجل كريستيانو رونالدو    "هل الخطيب رفض طلبه؟".. شوبير يفجر مفاجأة بعد مكالمة وسام أبو علي    15 صورة وأبرز المعلومات عن مشروع مروان عطية الجديد    حريق ضخم فى "آرثرز سيت" يُغرق إدنبرة بالدخان ويُجبر الزوار على الفرار    وزير الزراعة و3 محافظين يفتتحون مؤتمرا علميا لاستعراض أحدث تقنيات المكافحة الحيوية للآفات.. استراتيجية لتطوير برامج المكافحة المتكاملة.. وتحفيز القطاع الخاص على الإستثمار في التقنيات الخضراء    التعليم تصدر بيانا مهما بشأن تعديلات المناهج من رياض الأطفال حتى ثانية إعدادي    جريمة أخلاقية بطلها مدرس.. ماذا حدث في مدرسة الطالبية؟    سحب 950 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكترونى خلال 24 ساعة    وزير الري يؤكد أهمية أعمال صيانة وتطوير منظومة المراقبة والتشغيل بالسد العالي    هآرتس: نتنياهو يواجه صعوبات في تسويق خطة احتلال غزة    رغم رفض نقابات الطيران.. خطوط بروكسل الجوية تُعيد تشغيل رحلاتها إلى تل أبيب    فتوح أحمد: الإعلام الرياضي ومَن يبثون الفتن هاخدهم معسكر بسوهاج 15 يومًا- فيديو وصور    بفستان جريء.. نوال الزغبي تخطف الأنظار بإطلالتها والجمهور يعلق (صور)    "رٌقي وجاذبية".. ناقد موضة يكشف أجمل فساتين النجمات في حفلات صيف 2025    خالد الجندي: كل حرف في القرآن يحمل دلالة ومعنى ويجب التأدب بأدب القرآن    أمين الفتوى يحذر التجار من هذه التصرفات في البيع والشراء    ما يقال عند المرور على مقابر المسلمين.. المفتي يوضح    فريق مصري في طريقه.. الاتحاد الليبي يتأهل للكونفدرالية بمشاركة كهربا    «عبدالغفار»: «100 يوم صحة» قدّمت 40 مليون خدمة مجانية خلال 26 يومًا    الصحة: 40 مليون خدمة مجانية في 26 يومًا ضمن «100 يوم صحة»    ضبط 8 أطنان خامات أعلاف مجهولة المصدر بالشرقية    ترامب يطالب بالتحرك الفوري لإبعاد المشردين عن العاصمة واشنطن    بعد تعنيفه لمدير مدرسة.. محافظ المنيا: توجيهاتي كانت في الأساس للصالح العام    الشاطر يكتسح شباك التذاكر.. وأمير كرارة: من أحب التجارب لقلبي    بعد مصرع شخصين وإصابة 7 آخرين .. التحفظ على كاميرات المراقبة فى حادث الشاطبى بالإسكندرية    الرعاية الصحية: إنقاذ مريضة من فقدان البصر بمستشفى الرمد التخصصي ببورسعيد    «لمحبي الصيف».. اعرف الأبراج التي تفضل الارتباط العاطفي في أغسطس    ضبط عاطل بالجيزة لتصنيع الأسلحة البيضاء والإتجار بها دون ترخيص    نائب ترامب: لن نستمر في تحمل العبء المالي الأكبر في دعم أوكرانيا    لليوم ال 11.. «التموين» تواصل صرف مقررات أغسطس    طب قصر العيني تطلق أول دورية أكاديمية متخصصة في مجالي طب الطوارئ    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 11-8-2025 في محافظة قنا    أمين الفتوى: رزق الله مقدّر قبل الخلق ولا مبرر للجوء إلى الحرام    بقوة 6.1 درجة.. مقتل شخص وإصابة 29 آخرين في زلزال غرب تركيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية مولانا - الفصل الأول
نشر في شموس يوم 02 - 01 - 2012

كانوا يعرفون أنه يبكى ، ظلوا فى أماكنهم يرقبونه من بعيد وهو يقف وحيداً عند شاطىء البحر ، بينما تسود حولهم حالة من الارتباك و الحركة السريعة لإعداد المكان ، كل رجل يعرف مهمته و يؤديها وفق نظام صارم و بخفوت دون أن تصدر كلمة واحدة ، مجرد همسات مصحوبة بإشارات الأيدى التى لا تخلو من عصبية تعبر عما يجيش فى صدور أصحابها من قلق لمجيئه المفاجئ ، فهم يعلمون جميعاً أنه لا يجوز مجرد الهفوة مهما كانت تافهة فيما يتعلق بطعامه وشرابه و إعداد مائدته ، مع علمهم أنه قد لا يمس الطعام و يكتفى بنظرة عابرة إلى المائدة من بعيد وهو يمر ، و قد يجلس ليأكل بشهية تكفى ثلاثة أو أربعة رجال ، لا يمكن التنبوء بما سيفعله ، يعرفون أن طبيعته متقلبة ، لكنه سواءً جلس إلى المائدة أم لا فيجب أن يؤدوا عملهم على أكمل وجه ثم يظلون جميعاً فى انتظار ما سيقرره ، فهو من هذا النوع من الرجال الذين يدققون فى الأشياء الصغيرة و يهتمون بها إلى حد بعيد .
على الرغم من الأسوار العالية المحيطة بالمكان جميعه بما فيه من مبان وحدائق شاسعة تمرح فيها غزلان صغيرة رشيقة الحركة ، ووحدات الحراسة الدائمة التى ينتشر رجالها بتوزيع مُحكم فى الداخل و الخارج و البوابات الخارجية الضخمة المدججة بالسلاح الثقيل و البوابات الداخلية التى يحرسها جنود مذودون بالأسلحة الخفيفة ، بالأضافة إلى جو الأمان الذى يخيم على المكان المطل على شاطئ البحر مباشرة فى هذه الساعة المبكرة من الصباح ، السابعة تقريباً ، لكن الرجال الثلاثة الذين حضروا معه ظلوا واقفين لا يرفعون أعينهم عنه ، برغم حالة الأرهاق الواضحة عليهم ، فهم تقريباً لم يناموا طوال الليل إلا خطفاً داخل السيارة أثناء الرحلة الطويلة التى قطعوها خلف سيارته ، لكن ولائهم الكامل له جعلهم متيقظين لأى حركة تصدر عنه ، خاصة عندما يسير مبتعداً عن الشاطئ ، هم فقط يعرفون أنه يبكى الآن وهو يقف وحيداً عند البحر الذى يعشقه خاصة عند هذه المنطقة .
فى الفترة الأخيرة ، منذ عام تقريباً ، عرفوا عنه هذا الأمر ، وهو ما زلزلهم و كان له وقع مفاجئ شديد القسوة على نفوسهم ، ليس هؤلاء الثلاثة تحديداً و لكن رجال الحرس الخاص جميعهم ، باغتهم صوت نهنهة البكاء القادم من المقعد الخلفى حيث يجلس ، كان الجالس منهم فى المقعد الأمامى بجوار السائق ، كثيراً ما يصله هذا الصوت الخافت المكتوم بمجرد أن تنطلق السيارة فى ليل القاهرة الهادئ و تقطع الشوارع و الميادين الواسعة ، المزدانة بالأشجار و النباتات و تسير وسط العمارات الأنيقة و الحدائق المنتشرة وفق نظام راعى إلى أبعد حد مقاييس الجمال و الذوق ، وهو ما أدى إلى اختيارها قبل سنوات قليلة كأجمل عاصمة فى العالم .
هذا الجمال المحيط ربما كان يُزيد الأسى فى نفسه ، الليل الذى أصبح يخشاه و يحاول مغالبته بالسهر و اللهو حتى مطلع الفجر ، لكنه ما أن يخلو إلى نفسه بعد انقضاء السهرة و انفضاض الصحبة حتى تعاوده أحزانه ، فتسيل دموعه رغماً عنه فى ظلام السيارة ، وهو ما جعل رجاله يشعرون نحوه بالشفقة و يغفرون له نزواته و يكتمون فى أنفسهم أمر هذه الحالات التى تعتريه كسر مقدس لا يبوحون به .
مرت نصف ساعة وهو واقف على الشاطىء ينظر إلى البحر ، يتأمله بعشق و يسرح بأفكاره بعيداً ، زواجه الذى وصل إلى منطقة اللاعودة ، لا يعلم برغم الأجهزة البوليسية العديدة التى تحوطه لتحميه و توفر له الأمن إن كانت زوجته وفية له أم لا ، إشاعات كثيرة تدور مست سمعتها ، لكنه لا يعرف .. لا يستطيع التأكد، المشكلة أنه لم يعد قادراً على التفاهم معها... مجرد الحوار ناهيك عن الحب ، الذى بدأ كبيراً و جميلاً و ظل يتناقص مع الأيام ، أقل من عشر سنوات ، مضت و معها كل المشاعر ، يعرف الآن فقط أنها كان يجب أن تتزوج رجلاً عادياً و ليس هو ، إن حياته المحاصرة قاسية و جافة من الصعب تحملها ، هو نفسه أصبح يمل منها ، يبحث عن الحرية بلا جدوى ، لم يعد يطيق الغرف المغلقة ، لهذا السبب تحديداً اتخذ هذا القرار المفاجئ بالحضور إلى الإسكندرية فى الوقت الذى كان يجب أن يذهب فيه إلى سريره لينام ، لكن أين النوم ...! إنه لا يقترب منه أثناء الليل مهما بلغ به التعب و الإرهاق ، لم يعد يستطيع النوم ليلاً ، هذه المقدرة الطبيعية التى يمتلكها أبسط الناس ، فقدها هو نهائياً ، إنه يجبر الرجال على السهر معه حتى يتساقطوا من الإرهاق ، هذا ما حدث ليلة أمس ، جلس على مائدة اللعب فى العاشرة مساءً ، البوكر يلتهم الوقت ، تمضى الساعات سريعاً ، يستغرقه اللعب و ينغمس فيه ، ينحصر تفكيره فى أوراق اللعب .. الكوتشينة ، ينشغل بها تماماً فيتوقف عقله عن التفكير فى أى شئ آخر ، ساعتها فقط يخرج من همومه و ينساها و لو إلى حين ، انتهى اللعب قبل الفجر بقليل ، بمجرد جمع الأوراق و النقود انتبه مجدداً ، كمن يفيق بعد غيبوبة ، على الرغم من الإرهاق الشديد لم يشعر بالرغبة فى القيام عن كرسيه و مغادرة قاعة النادى ، وضع كفيه على وجهه و استند بمرفقيه على المائدة ، ظل على هذا الوضع الذى جعل الصمت التام يطبق عل جميع الرجال ، ظلوا جالسين فى أماكنهم دون أن يجرؤ واحد منهم على مجرد الهمس ، منذ لحظات كان يضحك معهم ويداعبهم بقفشاته اللاذعة ، يعرف الجميع ، من اقتربوا منه بالطبع ونالوا شرف الكلام معه ، إنه ابن نكتة سريع البديهة يجيد القفش فى الكلام ، و هى خاصية لا يعرفها إلا أولاد البلد من المصريين و يستمتعون بها فى التندر و الضحك ، ولا يستطيعها إلا من كان خفيف الظل حقيقة و يحذق العامية المصرية و يفهم أسرارها ، تقريباً هو الوحيد من سلسال أسرته الذى جلس على عرش البلاد و تكلم لغة شعبها بطلاقة أبناء الشعب .
لمدة عشر دقائق ظل على هذا الوضع ، إلى أن تحرك ضابط من حرسه الخاص ، الأكبر رتبة و ربما أقربهم إلى نفسه ، اقترب منه و قال .
- يا مولانا .. الضيوف يريدون الانصراف .. ولم يبق على شروق الشمس إلا عدة دقائق.
نظر إلى حارسه بعينين محمرتين من أثر الأرهاق الشديد و قلة النوم ، ثم قام عن مقعده و قال للجميع .
- تصبحوا على خير .
نهض الرجال .. أخيراً و هم يردون التحية و ينحنون مودعين ، بينما خرج هو على الفور من النادى و هبط درجات السلم بتثاقل متجهاً إلى سيارته "الميركيرى" الرمادية .
لكنه مثيراً لدهشة الجميع قال لسائقه .
- اطلع بينا على الإسكندرية .
كان فجر ليلة شتائية باردة و هو ما يدعو أى إنسان بعد قضاء سهرة طويلة إلى التفكير فى دفء الفراش ، لكن شعوره بالزهق جعله لا يطيق العودة إلى "البيت" كما يحلو له أن يسمى قصره ، الأربع حيطان التى تضم حجرة نومه الفسيحة داخل جناحه الملكى تُطبق عليه .
هرع رجال الحرس الخاص الذين كانوا برفقته فى الداخل و ضباط الحرس الملكى بزيهم العسكرى الذين كانوا ينتظرونه فى الخارج إلى سياراتهم ، لكنه أشار بعودة الحراسة الرسمية ، فأطاعوا الأمر و ركبوا سيارتهم متجهين بها صوب القصر .
انطلقت سيارته عبر شوارع وسط القاهرة ، التى عاد إليها الأمان منذ شهور بعد انسحاب جيوش الحلفاء بانتهاء الحرب العالمية الثانية ، لفترة طويلة ظلت منطقة وسط القاهرة فى حالة فوضى مرتعاً للجنود السكارى ، يهبطون عليها من معسكراتهم فى اجازاتهم العسكرية القصيرة ليغرقوا خوفهم من الموت القادم مع المعارك فى بارات القاهرة الكثيرة ، يعربدون بعد أن ينال منهم السكر فى الشوارع ، و بلغ هذا الأمر من الخطورة إلى الحد الذى دفع محافظة القاهرة إلى تعيين حراسة خاصة من البوليس ، لتصحب سيارة أم كلثوم فى طريق عودتها إلى منزلها بعد انتهاء حفلتها الغنائية الشهرية فى ساعة متأخرة من الليل ، خوفاً من تعرضها لأى أذى على أيدى الجنود المخمورين .
أغمض عينيه وهو مسترخ على مقعد السيارة الخلفى الوثير وهى تقطع شارع الهرم بسرعة ثابتة و إن كانت عالية ، ربما غفا للحظات قبل أن يفتح عينيه ليجد الصحراء تمتد إلى ما لانهاية على جانبى الطريق ، وألوان الشروق تغطى الأفق أمامه ، ارتاحت نفسه لرحابة الصحراء فهو من عشاقها ، أرسل بصره ليتجول فيها عبر زجاج النافذة المغلق ، شرد لفترة ثم لم تلبث أن هاجمته ذكرى ما حدث قبل عدة أيام فاغرورقت عيناه .
كان يسهر فى النادى كعادته فى الفترة الأخيرة ، عندما تلقى ياوره المرافق له اتصالاً هاتفيا من الضابط النوبتجى بسراى عابدين يطلب فيه الإذن بطلاء أحد جوانب سور القصر على وجه السرعة قبل أن تشرق الشمس ، لأنهم اكتشفوا وجود عبارات بذيئة تسب الملك وأمه قد كتبت أثناء الليل ، وأنهم يخشون أن يراها أهالى المنطقة فى الصباح .
اقترب الياور وهو فى حرج شديد وأبلغه هامساً ، أن شرطة الحراسة بقصر عابدين تطلب الإذن بطلاء جانب سور القصر من ناحية السيدة زينب ، فنظر اليه ثم ضحك مستغرباً لهذا الطلب غير الطبيعى فى مثل هذا الوقت ، لكن الياور سرعان ما أكمل موضحاً السبب ، فظهر الغم على وجهه و صمت للحظات قبل أن يقول .
- لابد أن أراها بنفسى أولاً .
وقفت السيارة بجانب السور مباشرة ، و نزل منها ليفاجئ بقاموس الشتائم المصرية مكتوباً أمامه بلون أسود و بخط واضح ، يسب أمه و يصفها بكل صفات العهر و الفجور و ينال من شرفها بقسوة ، تمعن فى القراءة وهو يضغط على أعصابه و يُظهر اللامبالاة ، لكنه كره نفسه فى هذه اللحظة ، و كره الإحساس بالخجل الذى شعر به يُخيم على الرجال المحيطين به فوق الرصيف العريض ، وقد أطبق عليهم الصمت حياءً منه أو إشفاقاً عليه .. لا يدرى ؟
إنه الملك ، صاحب الجلالة ، مولى الجميع .. و سيدهم ، الحاكم الشرعى للبلاد ، يقف هذا الموقف الذى لا يرضاه أحقر رعاياه و أقلهم شأناً ، يصفونه بالقواد ، هل هو فعلاً كذلك ؟ يسقط ابن العاهرة .. هكذا ! ملك و ابن عاهرة فى نفس الوقت ، يا له من قدر عجيب أحاط به ..
وضع يديه فى جيبى البالطو و ضحك ، ضحكة عالية ، كأن الأمر لا يعنيه ، ثم قال مستهزئاً .
- عندهم حق .
و أمر بطلاء السور على الفور .
فى هذه الليلة بكى حتى أجهش من حجم الإهانة و من إحساسه بالعار و القهر ، كرامته تتهاوى شيئاً فشيئاً حتى أصبح يُعير بأمه ، هذه النمرة الشرسة لا تتوقف عند حد ، إنها مصدر الغم الأكبر فى حياته بطيشها و شراهتها للسلطة و المال و الرجال ... الشبان منهم على وجه التحديد ، التقارير البوليسية تنقل له التفاصيل الخاصة بها ، يعلم أنها تنتقى من ضباط سلاح اليخوت الملكية أكثرهم وسامة و شباباً لتصحبهم معها فى رحلاتها إلى أوروبا و موانىء البحر المتوسط ، كان يعرف أسماء هؤلاء الضباط و ينتقم منهم بعد ذلك ، لكن هذا لم يعد يكفى .
فتح زجاج النافذة برغم برودة الجو ليتنفس هواء البحر بعمق و السيارة تدخل الإسكندرية ، تطلع متلهفاً لرؤية البحر ، كأن مياهه الزرقاء المغطاة فى هذا الوقت المبكر بالضباب الكثيف ، سوف تغسل همومه .
* *
بعد الفجر بقليل تلقى أمناء قصر المنتزه اتصالاً هاتفياً يبلغهم بأن الملك فى الطريق إليهم ...الآن ، مما أحدث حالة من التوتر و الهرج لكنهم سرعان ما بدأوا الأستعدادات اللازمة لاستقباله .
مرت السيارتان من البوابة الرئيسية ، أدى الحرس التحية العسكرية وهم مصطفون على جانبى البوابة ، رد التحية رافعاً يده بشكل شبه عسكرى وهو يتفحصهم بعينيه ممتناً من انضباطهم و عسكريتهم الصارمة .
يفتخر بأن جده الأكبر هو مؤسس الجيش و العسكرية المصرية الحديثة وفق نظم الجيوش الأوربية و تقاليدها العريقة التى تمتاز بالانضباط و الصرامة .
كان أحد أحلامه أن يُطور الجيش و يزوده بالأسلحة الحديثة ، لكن الأنجليز سدوا عليه جميع الطرق ، ضيقوا حوله الخناق و حاصروه بحيلهم حتى أبعد عزيز باشا عن رئاسة أركان حرب الجيش ، معلمه و رجله المخلص و العسكرى الكفء الذى كان يعتمد عليه تماماً فى قيادة الجيش و تنظيم أموره ، وهو الذى لفت نظره إلى ضرورة تطوير الجيش و تزويده بالأسلحة الحديثة ، أكد عليه أن هذا واجب أى حاكم وطنى ، حدث هذا منذ سنوات ...، ليست بعيدة لكنها كانت كافية لتتدهور فيها أحوال كثيرة ، و بسرعة فاقت كل تصور ، أكثر قليلاً من عشر سنوات ..!
اخترقت السيارتان حدائق القصر الملكى البديعة ، فى وسط هذه الحدائق الشاسعة يقع مبنيان كبيران باذخا البناء يسبحان فى بحر من الخضرة الزمردية ، الأول هو القصر القديم الذى بناه ابن عمه الخديوى و يسمى "السلاملك" ، و الثانى هو القصر الجديد الذى بناه أبوه الملك و يسمى "الحرملك" ، توقفت السيارة أمام السراى الجديدة و أسرع أحمد دهب سائق الملك الخاص بالنزول و فتح الباب الخلفى له ، إذ لم يكن هناك أحد من الشماشرجية الذين يجلسون فى المقعد المجاور للسائق و يتولون فتح الباب و غلقه ، يحدث ذلك فى المناسبات الرسمية ، أما الآن فلم يكن فى السيارة سوى الملك و سائقه .
نزل متثاقلاً من السيارة و لم يمش لأكثر من خطوتين ثم توقف ليسمح لأمناء القصر باستقباله و تقبيل يده تباعاً وهم يحمدون الله على سلامة وصوله ، كان الجميع بمن فيهم حرسه الخاص الذين حضروا معه من القاهرة ، ينتظرون ليروا ما سوف يفعله ليعرفوا بدورهم ما سيفعلونه ، اتجه ببساطة إلى شاطئ البحر دون أن يتكلم ، وهو ما يعنى أنهم جميعاً سيظلون فى أماكنهم بلا نوم أو أكل حتى يعود .
من الصعب أن يصدق أحد أن هذا الرجل الضخم الذى يمشى متمهلاً نحو الشاطئ ، شاب فى السابعة و العشرين من عمره .. فقط ، شاربه الكثيف و صلعته الخفيفة فى مقدمة الرأس و ملامح وجهه تعطى جميعها الانطباع بأنه تجاوز الأربعين ، غير أن دم الشباب و حيويته ما زالت تغلب عليه رغماً عن المظهر الوقور و السمت الملكى و قيود البروتوكول المعقدة التى تحيط بكل حركاته و سكناته ، مما يدفعه إلى التمرد على نظام حياته التقليدى ، فيبحث عن الجديد و المختلف ، من المؤكد أنه ورث هذه الصفة عن أمه ، و بقدر ما كره هذه الخصلة فيها بل وعانى منها لم يحاول أن يغيرها فى نفسه ، لم يبذل جهداً صادقاً فى ذلك على الأقل ، و ترك نفسه على سجيتها ،...
ظل رجال الحرس الخاص يرقبونه و هم يعرفون أن الدموع تترقرق فى عينيه ، كانوا جميعاً يشعرون نحوه بالحب و يدينون له بالولاء الكامل ، بعد أن اقتربوا منه و عرفوه ، كل ضابط منهم سواء كان فى الجيش أو البوليس ، قد سمع قبل انضمامه إلى الحرس الملكى بالإشاعات التى تروج بين الناس كحقائق مؤكدة عن فساده و انحلاله الأخلاقى و قلة حياؤه ، إلى الحد الذى كاد يدفع بعضهم إلى رفض ترشيحه للحرس و الاعتذار لولا الخوف من عاقبة ذلك على مستقبله ، كيف لضابط شاب وطنى أن يحرس ملك خليع يكرهه الناس و يسبونه علناً فى الشوارع و المظاهرات ، لكنهم وجدوا أنفسهم فى النهاية أمام هذا الرجل الشاب الحزين دوماً برغم ضحكته العالية و مرحه الظاهرى ، مما أبدل نظرتهم له إلى النقيض .. إلى حد الشفقة عليه و التماس العذر له فى كل ما يفعله ، كان جلياً لكل منهم مدى بؤسه و تعاسته على الرغم من مظاهر الملك و السلطة و الوجاهة التى تحيط به و تطوقه إلى حد الاختناق ، و أدركوا بخبرتهم البوليسية كم الدسائس و المؤامرات و الوشايات التى تنسج من حوله بدهاء و يقف أمامها عاجزاً ... لضعف الخبرة و قلة الحيلة !
رياح البحر الشمالية تأتى محملة ببرد الشتاء ، لكن شمس مصر ترسل أشعتها الدافئة عبر السحب ، يغمره الهواء البارد فينتعش منتشياً بمنظر البحر و زرقته الرمادية ، تصفو نفسه و تجف دموعه فيستدير عائداً ، و ما أن يصل حتى يأمر بإعداد الإفطار.
من المعتاد أن طعام الإفطار الخاص به يأتى من محل بسطرودس للحلويات بالإسكندرية ، وقد قام موظفو القصر بالأستعداد لهذا الأمر ، فحضر الطعام بعد وصوله بدقائق
. جلس و قد فتح هواء البحر شهيته فشعر بالجوع ، لكنه قبل أن يبدأ فى تناول إفطاره ، أخطأ بعض جنود الحرس ، لاعتيادهم عدم وجوده خلال الشتاء ، فمروا من أمامه ،على مسافة بعيدة لكنها كانت كافية ليراهم وهم خارجين من المطبخ بطعام إفطارهم متجهين به إلى سكنهم .
ارتبك الجنود عندما لمحوه جالساً ، فوقفوا فى أماكنهم للحظات مترددين ما بين الرجوع و مواصلة السير فى المساحة المفتوحة أمام ناظرى الملك ، لكنهم حاولوا إخفاء الطعام خلف ظهورهم و انحنى الذى يحمل قروانة العدس ليخفيها خلف شجيرة ، كانوا فى حالة هلع ، فهذه الهفوة تعد إخلالاً بالانضباط العسكرى وهو ما يعنى عقابهم بالحبس ثم الطرد من نعيم القصور الملكية إلى وحدات الجيش العاملة فى الصحراء .
ابتسم وهو يلمح ارتباكهم ، بخلاف جميع من جلسوا على العرش من أفراد أسرته ، بمن فيهم أبوه و أعمامه و ابناء أعمامه و أجداده ، لم تكن القسوة و غلظة القلب من صفاته ، خاصة تجاه البسطاء من عامة الشعب ، ربما يرجع ذلك إلى نصفه المصرى الذى ورثه عن أمه ،...
اعتدل تاركاً الطعام أمامه على المائدة ، ثم أشار لضابط من حرسه أن يقترب .
- استدعى هؤلاء الجنود .
قال مشيراً ناحيتهم بطرف أصبعه .
أسرع الضابط بتنفيذ الأمر و هو يدرك من معرفته بطباعه و نبرة صوته أنه يريد ممازحة الجنود قليلاً ليتسلى وهو يأكل .
حضر الجنود بالخطوة السريعة و اصطفوا أمامه مؤدين التحية العسكرية قبل أن يقفوا فى وضع الانتباه و فرائصهم ترتعد من خوفهم و من هيبته الطاغية .
قال لهم بجدية .
- ماذا كنتم تفعلون ؟
رد عليه أحدهم بلهجته الريفية .
- كنا نتجه لاتخاذ مواقعنا يا مولانا .
لم يتمالك نفسه فقهقه ضاحكاً ، ثم خاطبهم وهو مازال يضحك .
- طيب هاتوا فطاركم و قروانة العدس !
وقف الجنود واجمين كأنهم لم يفهموا ما يعنيه ، لكنه شخط فيهم قائلاً .
- هاتوا القروانة !
فجروا مسرعين إلى صينية إفطارهم بما عليها من أطباق فول و جبن و أرغفة عيش ، فحملوها مع قروانة العدس إليه .
أشار إلى مائدته العامرة بالفطائر و الزبد و المربى و القشدة ، قائلاً للجنود .
- خذوا هذا الأكل لكم ، وضعوا إفطاركم مكانه !
فى الحال نفذ السفرجية المحيطين به الأمر ، رفعوا طعامه بسرعة خاطفة و سلموه للجنود الذين ازدادت حيرتهم و بدوا غير مصدقين أنهم سيأكلون طعام الملك ذات نفسه ، ثم وضعوا إفطار الجنود على المائدة ، و رجعوا إلى أماكنهم حوله
. أمسك بقروانة العدس التى تكفى أربعة جنود ورفعها إلى فمه مباشرة و بدأ يشرب ببطء متلذذاً حتى أتى عليها ، ثم أكل بشهية من الفول و الخبز وسط استغراب الجميع ودهشتهم .
سيظل الجنود الأربعة يذكرونه بكل خير إلى آخر يوم فى حياتهم ، سيترحمون عليه و على أيامه التى لن تُعوض عندما يتقدم بهم العمر ، و سيدافعون عن سيرته أمام الجميع حتى أولادهم و أحفادهم الذين سيولدون فى زمن آخر لا يكاد يمت بصلة للزمن الذى نشأ فيه الأجداد .
الملامح الثابتة لم تظهر أى أثر للاستنكار على وجه مدحت بيك ، موظف القصر القديم ، الذى عمل منذ بداية عهد الملك الأب ، و تشرب قواعد و تقاليد القصور حتى باتت تجرى فى دمه ، امتعض و استنكر فى نفسه هذه الفعلة ، التى رأى أنها تخالف الأصول ، و عيب لا يليق أبداً بملك البلاد ، حتى التواضع و التبسط مع الناس له أصول لا يصح مخالفتها ، أما هذا الذى رأه فهو استهتاراً و خفة لا تواضعاً ، إن مولانا له مظهر الملوك و هيبتهم من الخارج فقط ، أما داخله .. فيعلم الله ، فالصو على الآخر زى أمه .. الله يخرب بيتها ؟!
قام عن مقعده بعد انتهاء الإفطار ، و قال مخاطباً حراسه .
- نهاركم سعيد .
و صعد مباشرة إلى جناحه .
كان هذا يعنى أن نوبة عملهم التى طالت كثيراً قد انتهت .. أخيراً ، و أنهم يستطيعون أن يذهبوا إلى غرفهم ليريحوا أجسادهم .
* *
كانت الساعة تقترب من التاسعة ، وبرغم ما يشعر به من إرهاق فإنه لم يذهب إلى سريره مباشرة ، طلب و هو يخلع ملابسه أن يعدوا له الشاى فى الشرفة و يأتونه بعلبة السيجار كذلك ، خرج من الحمام مرتدياً اللباس الأبيض "الكالسون" و القميص القطنى و العباءة السكروتة ، فهو لا يطيق البيجامات صيفاً أو شتاءً ، يشعر أنها تقيد جسده ، كما أنه لا يتأثر كثيراً بالبرد ، يتحمل برودة الجو مهما اشتدت ، أما الحر فيضايقه ولا يكاد يتحمله ، جسده غزير العرق بطبيعته .
دخل إلى الشرفة المطلة على البحر بملابسه الخفيفة ، بينما الخدم الذين هرعوا خلفه يرتجفون من شدة البرد برغم ملابسهم الشتوية الثقيلة .
أكلة العدس و الفول جعلته يرغب فى فنجان شاى و سيجار ، خاصة فى هذه الشرفة التى ترى أحد أجمل المناظر التى تطل عليها شرفات قصوره جميعها ، و ربما أجمل منظر فى مصر كلها ، هذه الحدائق المتدرجة الخضرة بما تحتويه من ألوان الزهور المختلفة و المنسقة فيما بينها كأبدع ما يمكن ، وهى تعانق البحر بزرقته الرائعة ،..
نظر إلى المنظر الجميل و تنهد بحسرة ، و كادت الدموع أن تلمع فى عينيه ، لكنه سيطر على نفسه ، تناول سيجاره المفضل الموضوع على طبق فضى ، ماركة " بارتاجاس " هافانا و أشعله بولاعته البلاستيك الرخيصة التى لا يزيد ثمنها على بضعة قروش و يستعملها عامة الناس ، وهى أحد المخترعات الحديثة التى ظهرت فى الأسواق بعد الحرب ، أعجبته عندما رآها و قرر أن يستعملها و يستغنى عن مجموعة ولاعاته الثمينة متعددة الأحجام و الطرز ، من الذهب الخالص المطعم بالماس أو بأنواع أخرى من الأحجار الكريمة ، و من الذهب و البلاتين أو من الفضة المزخرفة ، يحتفظ بها فى خزائن خاصة ولا يستعملها ، وإنما يحلو له أن يمتع نظره بها بين الحين والآخر و يجلس ليفحصها مع سائر التحف التى يجمعها من مصر و من جميع أنحاء العالم ، مئات الساعات و العملات النادرة ، و مجموعة الطوابع التى تعد ثانى أهم مجموعة فى العالم بعد مجموعة ملك إنجلترا ، و تحفته الأثيرة اللؤلؤة الأكبر فى العالم التى يعتز بها بشكل خاص و يضعها فى علبة من الذهب ، يشرف بنفسه على تقسيم هذه المقتنيات إلى مجموعات و رصها بعناية فى علب أو حقائب مخصصة لهذا الغرض ، و يتولى أحد موظفى القصر ترقيمها و تسجيلها فى دفاتر ، ثم حفظها فى الخزائن الخاصة بها .
رشف من فنجان الشاى و استرخى فى مقعده العريض المريح لظهره من الآلام التى تعاوده بين الحين و الآخر منذ حادثة السيارة التى نجا منها بمعجزة ، كان القدر رحيماً به فلم يمت فى ذلك اليوم ، لا يعرف إن كان العسكرى الإنجليزى الحمار الذى قطع عليه الطريق فجأة قد تعمد ذلك طبقاً لمؤامرة أعدت لاغتياله أم أن الحادث كان مصادفة كما يؤكدون ، إحساسه ينفى شبهة المؤامرة ، فى نفسه يعلم أن الحادث تم بفعل المصادفة وحدها ، ببساطة لأن أحداً لم يكن يعلم وجهة سيره حتى يدبروا خطة لاغتياله ، بل إنه هو نفسه لم يكن يعلم فى صباح ذلك اليوم ، فقد خطرت على عقله الفكرة بعد الإفطار صباحاً ، أن يذهب إلى الإسماعيلية ليعاين الإصلاحات فى يخته هناك ، فقام من فوره و تأهب للرحلة ، و اختار بعد دخوله الجراج أن يذهب بسيارة صغيرة اشتراها حديثاً أحب أن يجربها فى الطريق على سبيل التغيير .
عند وصوله إلى أنشاص كان قد تعب من قيادة السيارة ، لم يرتح فى جلسته على مقعدها غير المريح بالنسبة لحجمه الضخم ، كما أنه وجدها خفيفة على الطريق ولا تناسب أسلوبه فى القيادة السريعة ، لذلك عرج على مزرعته هناك و أمر بمجرد دخوله جراج قصره أن يجهزوا له السيارة المرسيدس التى أهداها له هتلر ، كان قد احتفظ بها فى المزرعة حتى لا تستعمل و تُستهلك فى شوارع القاهرة ، اعتبرها إحدى تحفه النادرة التى يجب أن تصان بعيداً عن أعين الناس ، فقد صنعت خصيصاً لأجله و بمواصفات قياسية فى المتانة و قوة المحرك ، كان يشاع بين العامة أنها مصفحة ضد الرصاص و لكن هذا غير صحيح .
انطلق بالمرسيدس مستمتعاً بفخامتها و قوتها ضاغطاً على دواسة السرعة إلى نهايتها ، كما يفعل شاب فى بداية العشرينيات من عمره يريد أن يستمتع بما تقدمه له الدنيا ، و يفرغ ما فى نفسه من توتر و ضغوط بغض النظر عما يمكن أن يسببه لنفسه أو للآخرين ، لمح كلباً يمشى على جانب الطريق فانحرف نحوه دون أن يبطئ و دهسه بالعجلتين تباعاً ؟!
صوت الارتطام بالجسد الحى و صرخة العواء الخاطفة التى تزعق لثوان ممزقة سكون الريف الخامل ، و اهتزاز السيارة وهى ترتجف لحظة سحق الجسد و تمزيقه ، يشعره بنشوة يطرب لها و تريح أعصابه فيبتسم ضاحكاً .
أشجار الظل الضخمة المزروعة على جانبى الشارع الأسفلتى الناعم ، تمتد فروعها فى الأعلى و تتشابك أغصانها لتظلل الطريق و تحمى المسافرين من أشعة الشمس القوية التى تتخلل الفراغات الصغيرة ما بين أوراق الشجر و تسقط كقطع متناثرة من الضوء تلمع على سطح ترعة الإسماعيلية وهى تعكس ألوان قوس قزح ، مما يعطى الريف فى هذه المنطقة من إقليم الشرقية العامرة بالحقول النضرة طابعاً فردوسياً أخاذاً .
فجأة ظهر لورى الجيش الإنجليزى أمامه على بعد أمتار يسحب من خلفه مقطورة ، برز من طريق جانبى و هو يسير ببطء ليعتدل على الطريق الرئيسى فسد عرض الشارع .
لم تسعفه براعته فى القيادة ، انحرف إلى أقصى الطريق ضاغطاً على الفرامل بكل قوته ، لكن المقطورة لم تدع له فرصة للافلات ، اصطدم بها صدمة هائلة ، متانة السيارة و طول مقدمتها التى تحطمت تماماً حمته إلى حد كبير بل أنقذت حياته بشكل مؤكد .
تجمع الأهالى من الحقول و الزراعات ، خرجوا منها مهرولين جماعات و فرادى ليستطلعوا خبر الحادثة المروعة ، تأسفوا على شبابه الغض و أشفقوا عليه وهم يسحبونه خارج السيارة برفق و الدماء تنزف من رجليه بفعل الجروح وقد تمزق بنطاله و صُبغ بلون الدم القانى ، تناقلوا فيما بينهم همساً أنه كان يسير بسرعة جنونية على الطريق .
- مش كنت تمشى براحة شوية ياسعادة البيه ؟
ابتسم برغم الألم على اللقب الذى أنعموا به عليه ، و تحامل عليهم حتى أجلسوه على جانب الطريق.
- ده لازم ابن باشا من الكبار !
سمع همساتهم وهى تدور من حوله وهم يحضرون له كوز ماء ليشرب ، تناول منهم الكوز و شرب حتى ارتوى ثم شكرهم ، فى هذه الأثناء كان العسكرى الأنجليزى قد نزل من كابينة القيادة مترنحاً بفعل الاصطدام ، تفقد أثر الحادث على مقطورته التى انقلبت و تحطمت و أخذ يبرطم غاضباً وهو يتجه إلى السائق المتهور الذى صدمه .
بادره بمجرد أن اقترب ، و قد أغضبه سيل الشتائم الذى سمعه .
- اخرس .. و أرسل إلى قيادتك بخبر الحادث فى الحال .
قالها بإنجليزيته القوية الأرستقراطية المترفعة التى تعلمها من مربيتيه ، الأنجليزية الصارمة و الأيرلندية الحنون .
استغرق العسكرى الإنجليزى لحظات ليدرك شخصية محدثه ، ، لم يصدق عيناه ، حدق فيه ثانية ليتأكد أن الحادث لم يؤثر على حواسه و أنه بالفعل أمام الملك ... يا إلهى هذا غير معقول !
- اذهب .
- نعم يا سيدى .. أقصد يا صاحب الجلالة .. اعذرنى .
- كم تبعد عن مقر قيادتك ؟
- حوالى كيلو مترين يا صاحب الجلالة . - إذن أسرع فأنى أنزف كما ترى .
فك العسكرى المقطورة المحطمة بمساعدة الأهالى ثم انطلق بعربته الضخمة ليبلغ قادته بالحادث الجلل الذى وقع قرب معسكرهم ، وهو يردد فى نفسه .. يا إلهى هذا غير معقول !
سرعان ما امتلأ موقع الحادث بالضباط و الجنود الإنجليز و تم غلق الطريق بعد أن اكتشف طبيب المعسكر خطورة الإصابة فى الساقين و عظام الحوض و الظهر ، لم تلبث عربة الإسعاف أن حضرت من المستشفى العسكرى الأقرب لمكان الحادث .
كان الأهالى يتابعون ما يجرى أمام أعينهم و هم فى حالة ذهول ، أدركوا شيئاً فشيئاً شخصية الشاب الذى حملوه من السيارة و كان يكلمهم منذ قليل ، لاذوا بالصمت و هم يتراجعون من حوله لعدة أمتار مفسحين الطريق لأطباء و ممرضى الجيش الإنجليزى و هم يجرون له الإسعافات الأولية ، قبل أن يضعونه على النقالة ليحملوه إلى عربة الإسعاف و حولها حراسة مشددة ، ظلوا يحملقون فيه و شعر بعضهم بالرغبة فى البكاء من أجله ، و تمنى آخرون لو أنهم افتدوه بأنفسهم .
- يا خبر أسود يا ولاد ، ده مولانا الملك !
- ده كان بيتكلم معانا !
- ده زى الملاك .
ظلوا واقفين فى أماكنهم و سيارة الإسعاف تبتعد به ، و العساكر الإنجليز يرفعون سيارته بالجنازير الحديدية ليقطروها بعيداً عن الطريق .
شعر بالألم الحاد يسرى فى ساقيه و أسفل ظهره و فى منطقة مابين الفخذين ، قبل أن يصل إلى المستشفى التابع للجيش الإنجليزى كان يتأوه من الألم بفعل الكسور التى أصيب بها ، لكن قلقه كان منصباً على إصابته فى هذه المنطقة الحساسة التى كان يتألم منها بشدة ،...
بعد أيام طويلة من العلاج ، تأكد أنه لن يعود كما كان .. أبداً ، و أن فحولة جده الذى كان معروفاً بولعه بالنساء و امتلاكه لعدد هائل من الجوارى ، هذه الفحولة التى طالما تباهى بأنها أهم ما ورثه عنه ، قد ضاعت الآن ..، لم يتبق منها إلا النذر اليسير الذى يكفى بالكاد لقضاء واجباته الزوجية .. و على استحياء .
نفث دخان السيجار وهو ينظر إلى البحر الواسع و يعدل من جلسته ليريح ظهره ، هذا العجز نكد عليه حياته ، و أثر إلى حد كبير على شخصيته و طباعه ، لم يخفت ولعه بالنساء بل زاد ، و مازال يحب مجالستهن و الكلام معهن ، هذه الثرثرة و الأحاديث الخفيفة الروح يميل إليها ، و يجد لذة فيها ، لو كان له أن يختار لفضل أن يعيش فى جزيرة محاطاً بالفتيات الجميلات ، يلاعبهن و يلاعبنه على مدى النهار و الليل أيضاً .
انتهى من فنجان الشاى ، فأطفأ نصف السيجار بحرص ووضعه فى علبته الأنبوبية ليكمل تدخينه بعد ذلك ! يرى أن رمى السيجار قبل إكمال تدخينه بطر للنعمة ، فمن طباعه التدقيق فى إنفاق الجنيهات المعدودة التى يلمسها بيديه ، أما المئات و الآلاف فلا تعنى له سوى أرقام يسُهل عليه صرفها ببساطة و بلا أدنى اهتمام ، ...
قام إلى غرفته ، و أسرع الخدم بإسدال الستائر فأعتمت الغرفة تماماً ، دخل إلى سريره و قد تجاوزت الساعة العاشرة صباحاً ، استغرق فى النوم مباشرة ، و لم يلبث أن علا شخيره الهادر بعد لحظات .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.