كانوا يعرفون أنه يبكى ، ظلوا فى أماكنهم يرقبونه من بعيد وهو يقف وحيداً عند شاطىء البحر ، بينما تسود حولهم حالة من الارتباك و الحركة السريعة لإعداد المكان ، كل رجل يعرف مهمته و يؤديها وفق نظام صارم و بخفوت دون أن تصدر كلمة واحدة ، مجرد همسات مصحوبة بإشارات الأيدى التى لا تخلو من عصبية تعبر عما يجيش فى صدور أصحابها من قلق لمجيئه المفاجئ ، فهم يعلمون جميعاً أنه لا يجوز مجرد الهفوة مهما كانت تافهة فيما يتعلق بطعامه وشرابه و إعداد مائدته ، مع علمهم أنه قد لا يمس الطعام و يكتفى بنظرة عابرة إلى المائدة من بعيد وهو يمر ، و قد يجلس ليأكل بشهية تكفى ثلاثة أو أربعة رجال ، لا يمكن التنبوء بما سيفعله ، يعرفون أن طبيعته متقلبة ، لكنه سواءً جلس إلى المائدة أم لا فيجب أن يؤدوا عملهم على أكمل وجه ثم يظلون جميعاً فى انتظار ما سيقرره ، فهو من هذا النوع من الرجال الذين يدققون فى الأشياء الصغيرة و يهتمون بها إلى حد بعيد . على الرغم من الأسوار العالية المحيطة بالمكان جميعه بما فيه من مبان وحدائق شاسعة تمرح فيها غزلان صغيرة رشيقة الحركة ، ووحدات الحراسة الدائمة التى ينتشر رجالها بتوزيع مُحكم فى الداخل و الخارج و البوابات الخارجية الضخمة المدججة بالسلاح الثقيل و البوابات الداخلية التى يحرسها جنود مذودون بالأسلحة الخفيفة ، بالأضافة إلى جو الأمان الذى يخيم على المكان المطل على شاطئ البحر مباشرة فى هذه الساعة المبكرة من الصباح ، السابعة تقريباً ، لكن الرجال الثلاثة الذين حضروا معه ظلوا واقفين لا يرفعون أعينهم عنه ، برغم حالة الأرهاق الواضحة عليهم ، فهم تقريباً لم يناموا طوال الليل إلا خطفاً داخل السيارة أثناء الرحلة الطويلة التى قطعوها خلف سيارته ، لكن ولائهم الكامل له جعلهم متيقظين لأى حركة تصدر عنه ، خاصة عندما يسير مبتعداً عن الشاطئ ، هم فقط يعرفون أنه يبكى الآن وهو يقف وحيداً عند البحر الذى يعشقه خاصة عند هذه المنطقة . فى الفترة الأخيرة ، منذ عام تقريباً ، عرفوا عنه هذا الأمر ، وهو ما زلزلهم و كان له وقع مفاجئ شديد القسوة على نفوسهم ، ليس هؤلاء الثلاثة تحديداً و لكن رجال الحرس الخاص جميعهم ، باغتهم صوت نهنهة البكاء القادم من المقعد الخلفى حيث يجلس ، كان الجالس منهم فى المقعد الأمامى بجوار السائق ، كثيراً ما يصله هذا الصوت الخافت المكتوم بمجرد أن تنطلق السيارة فى ليل القاهرة الهادئ و تقطع الشوارع و الميادين الواسعة ، المزدانة بالأشجار و النباتات و تسير وسط العمارات الأنيقة و الحدائق المنتشرة وفق نظام راعى إلى أبعد حد مقاييس الجمال و الذوق ، وهو ما أدى إلى اختيارها قبل سنوات قليلة كأجمل عاصمة فى العالم . هذا الجمال المحيط ربما كان يُزيد الأسى فى نفسه ، الليل الذى أصبح يخشاه و يحاول مغالبته بالسهر و اللهو حتى مطلع الفجر ، لكنه ما أن يخلو إلى نفسه بعد انقضاء السهرة و انفضاض الصحبة حتى تعاوده أحزانه ، فتسيل دموعه رغماً عنه فى ظلام السيارة ، وهو ما جعل رجاله يشعرون نحوه بالشفقة و يغفرون له نزواته و يكتمون فى أنفسهم أمر هذه الحالات التى تعتريه كسر مقدس لا يبوحون به . مرت نصف ساعة وهو واقف على الشاطىء ينظر إلى البحر ، يتأمله بعشق و يسرح بأفكاره بعيداً ، زواجه الذى وصل إلى منطقة اللاعودة ، لا يعلم برغم الأجهزة البوليسية العديدة التى تحوطه لتحميه و توفر له الأمن إن كانت زوجته وفية له أم لا ، إشاعات كثيرة تدور مست سمعتها ، لكنه لا يعرف .. لا يستطيع التأكد، المشكلة أنه لم يعد قادراً على التفاهم معها... مجرد الحوار ناهيك عن الحب ، الذى بدأ كبيراً و جميلاً و ظل يتناقص مع الأيام ، أقل من عشر سنوات ، مضت و معها كل المشاعر ، يعرف الآن فقط أنها كان يجب أن تتزوج رجلاً عادياً و ليس هو ، إن حياته المحاصرة قاسية و جافة من الصعب تحملها ، هو نفسه أصبح يمل منها ، يبحث عن الحرية بلا جدوى ، لم يعد يطيق الغرف المغلقة ، لهذا السبب تحديداً اتخذ هذا القرار المفاجئ بالحضور إلى الإسكندرية فى الوقت الذى كان يجب أن يذهب فيه إلى سريره لينام ، لكن أين النوم ...! إنه لا يقترب منه أثناء الليل مهما بلغ به التعب و الإرهاق ، لم يعد يستطيع النوم ليلاً ، هذه المقدرة الطبيعية التى يمتلكها أبسط الناس ، فقدها هو نهائياً ، إنه يجبر الرجال على السهر معه حتى يتساقطوا من الإرهاق ، هذا ما حدث ليلة أمس ، جلس على مائدة اللعب فى العاشرة مساءً ، البوكر يلتهم الوقت ، تمضى الساعات سريعاً ، يستغرقه اللعب و ينغمس فيه ، ينحصر تفكيره فى أوراق اللعب .. الكوتشينة ، ينشغل بها تماماً فيتوقف عقله عن التفكير فى أى شئ آخر ، ساعتها فقط يخرج من همومه و ينساها و لو إلى حين ، انتهى اللعب قبل الفجر بقليل ، بمجرد جمع الأوراق و النقود انتبه مجدداً ، كمن يفيق بعد غيبوبة ، على الرغم من الإرهاق الشديد لم يشعر بالرغبة فى القيام عن كرسيه و مغادرة قاعة النادى ، وضع كفيه على وجهه و استند بمرفقيه على المائدة ، ظل على هذا الوضع الذى جعل الصمت التام يطبق عل جميع الرجال ، ظلوا جالسين فى أماكنهم دون أن يجرؤ واحد منهم على مجرد الهمس ، منذ لحظات كان يضحك معهم ويداعبهم بقفشاته اللاذعة ، يعرف الجميع ، من اقتربوا منه بالطبع ونالوا شرف الكلام معه ، إنه ابن نكتة سريع البديهة يجيد القفش فى الكلام ، و هى خاصية لا يعرفها إلا أولاد البلد من المصريين و يستمتعون بها فى التندر و الضحك ، ولا يستطيعها إلا من كان خفيف الظل حقيقة و يحذق العامية المصرية و يفهم أسرارها ، تقريباً هو الوحيد من سلسال أسرته الذى جلس على عرش البلاد و تكلم لغة شعبها بطلاقة أبناء الشعب . لمدة عشر دقائق ظل على هذا الوضع ، إلى أن تحرك ضابط من حرسه الخاص ، الأكبر رتبة و ربما أقربهم إلى نفسه ، اقترب منه و قال . - يا مولانا .. الضيوف يريدون الانصراف .. ولم يبق على شروق الشمس إلا عدة دقائق. نظر إلى حارسه بعينين محمرتين من أثر الأرهاق الشديد و قلة النوم ، ثم قام عن مقعده و قال للجميع . - تصبحوا على خير . نهض الرجال .. أخيراً و هم يردون التحية و ينحنون مودعين ، بينما خرج هو على الفور من النادى و هبط درجات السلم بتثاقل متجهاً إلى سيارته "الميركيرى" الرمادية . لكنه مثيراً لدهشة الجميع قال لسائقه . - اطلع بينا على الإسكندرية . كان فجر ليلة شتائية باردة و هو ما يدعو أى إنسان بعد قضاء سهرة طويلة إلى التفكير فى دفء الفراش ، لكن شعوره بالزهق جعله لا يطيق العودة إلى "البيت" كما يحلو له أن يسمى قصره ، الأربع حيطان التى تضم حجرة نومه الفسيحة داخل جناحه الملكى تُطبق عليه . هرع رجال الحرس الخاص الذين كانوا برفقته فى الداخل و ضباط الحرس الملكى بزيهم العسكرى الذين كانوا ينتظرونه فى الخارج إلى سياراتهم ، لكنه أشار بعودة الحراسة الرسمية ، فأطاعوا الأمر و ركبوا سيارتهم متجهين بها صوب القصر . انطلقت سيارته عبر شوارع وسط القاهرة ، التى عاد إليها الأمان منذ شهور بعد انسحاب جيوش الحلفاء بانتهاء الحرب العالمية الثانية ، لفترة طويلة ظلت منطقة وسط القاهرة فى حالة فوضى مرتعاً للجنود السكارى ، يهبطون عليها من معسكراتهم فى اجازاتهم العسكرية القصيرة ليغرقوا خوفهم من الموت القادم مع المعارك فى بارات القاهرة الكثيرة ، يعربدون بعد أن ينال منهم السكر فى الشوارع ، و بلغ هذا الأمر من الخطورة إلى الحد الذى دفع محافظة القاهرة إلى تعيين حراسة خاصة من البوليس ، لتصحب سيارة أم كلثوم فى طريق عودتها إلى منزلها بعد انتهاء حفلتها الغنائية الشهرية فى ساعة متأخرة من الليل ، خوفاً من تعرضها لأى أذى على أيدى الجنود المخمورين . أغمض عينيه وهو مسترخ على مقعد السيارة الخلفى الوثير وهى تقطع شارع الهرم بسرعة ثابتة و إن كانت عالية ، ربما غفا للحظات قبل أن يفتح عينيه ليجد الصحراء تمتد إلى ما لانهاية على جانبى الطريق ، وألوان الشروق تغطى الأفق أمامه ، ارتاحت نفسه لرحابة الصحراء فهو من عشاقها ، أرسل بصره ليتجول فيها عبر زجاج النافذة المغلق ، شرد لفترة ثم لم تلبث أن هاجمته ذكرى ما حدث قبل عدة أيام فاغرورقت عيناه . كان يسهر فى النادى كعادته فى الفترة الأخيرة ، عندما تلقى ياوره المرافق له اتصالاً هاتفيا من الضابط النوبتجى بسراى عابدين يطلب فيه الإذن بطلاء أحد جوانب سور القصر على وجه السرعة قبل أن تشرق الشمس ، لأنهم اكتشفوا وجود عبارات بذيئة تسب الملك وأمه قد كتبت أثناء الليل ، وأنهم يخشون أن يراها أهالى المنطقة فى الصباح . اقترب الياور وهو فى حرج شديد وأبلغه هامساً ، أن شرطة الحراسة بقصر عابدين تطلب الإذن بطلاء جانب سور القصر من ناحية السيدة زينب ، فنظر اليه ثم ضحك مستغرباً لهذا الطلب غير الطبيعى فى مثل هذا الوقت ، لكن الياور سرعان ما أكمل موضحاً السبب ، فظهر الغم على وجهه و صمت للحظات قبل أن يقول . - لابد أن أراها بنفسى أولاً . وقفت السيارة بجانب السور مباشرة ، و نزل منها ليفاجئ بقاموس الشتائم المصرية مكتوباً أمامه بلون أسود و بخط واضح ، يسب أمه و يصفها بكل صفات العهر و الفجور و ينال من شرفها بقسوة ، تمعن فى القراءة وهو يضغط على أعصابه و يُظهر اللامبالاة ، لكنه كره نفسه فى هذه اللحظة ، و كره الإحساس بالخجل الذى شعر به يُخيم على الرجال المحيطين به فوق الرصيف العريض ، وقد أطبق عليهم الصمت حياءً منه أو إشفاقاً عليه .. لا يدرى ؟ إنه الملك ، صاحب الجلالة ، مولى الجميع .. و سيدهم ، الحاكم الشرعى للبلاد ، يقف هذا الموقف الذى لا يرضاه أحقر رعاياه و أقلهم شأناً ، يصفونه بالقواد ، هل هو فعلاً كذلك ؟ يسقط ابن العاهرة .. هكذا ! ملك و ابن عاهرة فى نفس الوقت ، يا له من قدر عجيب أحاط به .. وضع يديه فى جيبى البالطو و ضحك ، ضحكة عالية ، كأن الأمر لا يعنيه ، ثم قال مستهزئاً . - عندهم حق . و أمر بطلاء السور على الفور . فى هذه الليلة بكى حتى أجهش من حجم الإهانة و من إحساسه بالعار و القهر ، كرامته تتهاوى شيئاً فشيئاً حتى أصبح يُعير بأمه ، هذه النمرة الشرسة لا تتوقف عند حد ، إنها مصدر الغم الأكبر فى حياته بطيشها و شراهتها للسلطة و المال و الرجال ... الشبان منهم على وجه التحديد ، التقارير البوليسية تنقل له التفاصيل الخاصة بها ، يعلم أنها تنتقى من ضباط سلاح اليخوت الملكية أكثرهم وسامة و شباباً لتصحبهم معها فى رحلاتها إلى أوروبا و موانىء البحر المتوسط ، كان يعرف أسماء هؤلاء الضباط و ينتقم منهم بعد ذلك ، لكن هذا لم يعد يكفى . فتح زجاج النافذة برغم برودة الجو ليتنفس هواء البحر بعمق و السيارة تدخل الإسكندرية ، تطلع متلهفاً لرؤية البحر ، كأن مياهه الزرقاء المغطاة فى هذا الوقت المبكر بالضباب الكثيف ، سوف تغسل همومه . * * بعد الفجر بقليل تلقى أمناء قصر المنتزه اتصالاً هاتفياً يبلغهم بأن الملك فى الطريق إليهم ...الآن ، مما أحدث حالة من التوتر و الهرج لكنهم سرعان ما بدأوا الأستعدادات اللازمة لاستقباله . مرت السيارتان من البوابة الرئيسية ، أدى الحرس التحية العسكرية وهم مصطفون على جانبى البوابة ، رد التحية رافعاً يده بشكل شبه عسكرى وهو يتفحصهم بعينيه ممتناً من انضباطهم و عسكريتهم الصارمة . يفتخر بأن جده الأكبر هو مؤسس الجيش و العسكرية المصرية الحديثة وفق نظم الجيوش الأوربية و تقاليدها العريقة التى تمتاز بالانضباط و الصرامة . كان أحد أحلامه أن يُطور الجيش و يزوده بالأسلحة الحديثة ، لكن الأنجليز سدوا عليه جميع الطرق ، ضيقوا حوله الخناق و حاصروه بحيلهم حتى أبعد عزيز باشا عن رئاسة أركان حرب الجيش ، معلمه و رجله المخلص و العسكرى الكفء الذى كان يعتمد عليه تماماً فى قيادة الجيش و تنظيم أموره ، وهو الذى لفت نظره إلى ضرورة تطوير الجيش و تزويده بالأسلحة الحديثة ، أكد عليه أن هذا واجب أى حاكم وطنى ، حدث هذا منذ سنوات ...، ليست بعيدة لكنها كانت كافية لتتدهور فيها أحوال كثيرة ، و بسرعة فاقت كل تصور ، أكثر قليلاً من عشر سنوات ..! اخترقت السيارتان حدائق القصر الملكى البديعة ، فى وسط هذه الحدائق الشاسعة يقع مبنيان كبيران باذخا البناء يسبحان فى بحر من الخضرة الزمردية ، الأول هو القصر القديم الذى بناه ابن عمه الخديوى و يسمى "السلاملك" ، و الثانى هو القصر الجديد الذى بناه أبوه الملك و يسمى "الحرملك" ، توقفت السيارة أمام السراى الجديدة و أسرع أحمد دهب سائق الملك الخاص بالنزول و فتح الباب الخلفى له ، إذ لم يكن هناك أحد من الشماشرجية الذين يجلسون فى المقعد المجاور للسائق و يتولون فتح الباب و غلقه ، يحدث ذلك فى المناسبات الرسمية ، أما الآن فلم يكن فى السيارة سوى الملك و سائقه . نزل متثاقلاً من السيارة و لم يمش لأكثر من خطوتين ثم توقف ليسمح لأمناء القصر باستقباله و تقبيل يده تباعاً وهم يحمدون الله على سلامة وصوله ، كان الجميع بمن فيهم حرسه الخاص الذين حضروا معه من القاهرة ، ينتظرون ليروا ما سوف يفعله ليعرفوا بدورهم ما سيفعلونه ، اتجه ببساطة إلى شاطئ البحر دون أن يتكلم ، وهو ما يعنى أنهم جميعاً سيظلون فى أماكنهم بلا نوم أو أكل حتى يعود . من الصعب أن يصدق أحد أن هذا الرجل الضخم الذى يمشى متمهلاً نحو الشاطئ ، شاب فى السابعة و العشرين من عمره .. فقط ، شاربه الكثيف و صلعته الخفيفة فى مقدمة الرأس و ملامح وجهه تعطى جميعها الانطباع بأنه تجاوز الأربعين ، غير أن دم الشباب و حيويته ما زالت تغلب عليه رغماً عن المظهر الوقور و السمت الملكى و قيود البروتوكول المعقدة التى تحيط بكل حركاته و سكناته ، مما يدفعه إلى التمرد على نظام حياته التقليدى ، فيبحث عن الجديد و المختلف ، من المؤكد أنه ورث هذه الصفة عن أمه ، و بقدر ما كره هذه الخصلة فيها بل وعانى منها لم يحاول أن يغيرها فى نفسه ، لم يبذل جهداً صادقاً فى ذلك على الأقل ، و ترك نفسه على سجيتها ،... ظل رجال الحرس الخاص يرقبونه و هم يعرفون أن الدموع تترقرق فى عينيه ، كانوا جميعاً يشعرون نحوه بالحب و يدينون له بالولاء الكامل ، بعد أن اقتربوا منه و عرفوه ، كل ضابط منهم سواء كان فى الجيش أو البوليس ، قد سمع قبل انضمامه إلى الحرس الملكى بالإشاعات التى تروج بين الناس كحقائق مؤكدة عن فساده و انحلاله الأخلاقى و قلة حياؤه ، إلى الحد الذى كاد يدفع بعضهم إلى رفض ترشيحه للحرس و الاعتذار لولا الخوف من عاقبة ذلك على مستقبله ، كيف لضابط شاب وطنى أن يحرس ملك خليع يكرهه الناس و يسبونه علناً فى الشوارع و المظاهرات ، لكنهم وجدوا أنفسهم فى النهاية أمام هذا الرجل الشاب الحزين دوماً برغم ضحكته العالية و مرحه الظاهرى ، مما أبدل نظرتهم له إلى النقيض .. إلى حد الشفقة عليه و التماس العذر له فى كل ما يفعله ، كان جلياً لكل منهم مدى بؤسه و تعاسته على الرغم من مظاهر الملك و السلطة و الوجاهة التى تحيط به و تطوقه إلى حد الاختناق ، و أدركوا بخبرتهم البوليسية كم الدسائس و المؤامرات و الوشايات التى تنسج من حوله بدهاء و يقف أمامها عاجزاً ... لضعف الخبرة و قلة الحيلة ! رياح البحر الشمالية تأتى محملة ببرد الشتاء ، لكن شمس مصر ترسل أشعتها الدافئة عبر السحب ، يغمره الهواء البارد فينتعش منتشياً بمنظر البحر و زرقته الرمادية ، تصفو نفسه و تجف دموعه فيستدير عائداً ، و ما أن يصل حتى يأمر بإعداد الإفطار. من المعتاد أن طعام الإفطار الخاص به يأتى من محل بسطرودس للحلويات بالإسكندرية ، وقد قام موظفو القصر بالأستعداد لهذا الأمر ، فحضر الطعام بعد وصوله بدقائق . جلس و قد فتح هواء البحر شهيته فشعر بالجوع ، لكنه قبل أن يبدأ فى تناول إفطاره ، أخطأ بعض جنود الحرس ، لاعتيادهم عدم وجوده خلال الشتاء ، فمروا من أمامه ،على مسافة بعيدة لكنها كانت كافية ليراهم وهم خارجين من المطبخ بطعام إفطارهم متجهين به إلى سكنهم . ارتبك الجنود عندما لمحوه جالساً ، فوقفوا فى أماكنهم للحظات مترددين ما بين الرجوع و مواصلة السير فى المساحة المفتوحة أمام ناظرى الملك ، لكنهم حاولوا إخفاء الطعام خلف ظهورهم و انحنى الذى يحمل قروانة العدس ليخفيها خلف شجيرة ، كانوا فى حالة هلع ، فهذه الهفوة تعد إخلالاً بالانضباط العسكرى وهو ما يعنى عقابهم بالحبس ثم الطرد من نعيم القصور الملكية إلى وحدات الجيش العاملة فى الصحراء . ابتسم وهو يلمح ارتباكهم ، بخلاف جميع من جلسوا على العرش من أفراد أسرته ، بمن فيهم أبوه و أعمامه و ابناء أعمامه و أجداده ، لم تكن القسوة و غلظة القلب من صفاته ، خاصة تجاه البسطاء من عامة الشعب ، ربما يرجع ذلك إلى نصفه المصرى الذى ورثه عن أمه ،... اعتدل تاركاً الطعام أمامه على المائدة ، ثم أشار لضابط من حرسه أن يقترب . - استدعى هؤلاء الجنود . قال مشيراً ناحيتهم بطرف أصبعه . أسرع الضابط بتنفيذ الأمر و هو يدرك من معرفته بطباعه و نبرة صوته أنه يريد ممازحة الجنود قليلاً ليتسلى وهو يأكل . حضر الجنود بالخطوة السريعة و اصطفوا أمامه مؤدين التحية العسكرية قبل أن يقفوا فى وضع الانتباه و فرائصهم ترتعد من خوفهم و من هيبته الطاغية . قال لهم بجدية . - ماذا كنتم تفعلون ؟ رد عليه أحدهم بلهجته الريفية . - كنا نتجه لاتخاذ مواقعنا يا مولانا . لم يتمالك نفسه فقهقه ضاحكاً ، ثم خاطبهم وهو مازال يضحك . - طيب هاتوا فطاركم و قروانة العدس ! وقف الجنود واجمين كأنهم لم يفهموا ما يعنيه ، لكنه شخط فيهم قائلاً . - هاتوا القروانة ! فجروا مسرعين إلى صينية إفطارهم بما عليها من أطباق فول و جبن و أرغفة عيش ، فحملوها مع قروانة العدس إليه . أشار إلى مائدته العامرة بالفطائر و الزبد و المربى و القشدة ، قائلاً للجنود . - خذوا هذا الأكل لكم ، وضعوا إفطاركم مكانه ! فى الحال نفذ السفرجية المحيطين به الأمر ، رفعوا طعامه بسرعة خاطفة و سلموه للجنود الذين ازدادت حيرتهم و بدوا غير مصدقين أنهم سيأكلون طعام الملك ذات نفسه ، ثم وضعوا إفطار الجنود على المائدة ، و رجعوا إلى أماكنهم حوله . أمسك بقروانة العدس التى تكفى أربعة جنود ورفعها إلى فمه مباشرة و بدأ يشرب ببطء متلذذاً حتى أتى عليها ، ثم أكل بشهية من الفول و الخبز وسط استغراب الجميع ودهشتهم . سيظل الجنود الأربعة يذكرونه بكل خير إلى آخر يوم فى حياتهم ، سيترحمون عليه و على أيامه التى لن تُعوض عندما يتقدم بهم العمر ، و سيدافعون عن سيرته أمام الجميع حتى أولادهم و أحفادهم الذين سيولدون فى زمن آخر لا يكاد يمت بصلة للزمن الذى نشأ فيه الأجداد . الملامح الثابتة لم تظهر أى أثر للاستنكار على وجه مدحت بيك ، موظف القصر القديم ، الذى عمل منذ بداية عهد الملك الأب ، و تشرب قواعد و تقاليد القصور حتى باتت تجرى فى دمه ، امتعض و استنكر فى نفسه هذه الفعلة ، التى رأى أنها تخالف الأصول ، و عيب لا يليق أبداً بملك البلاد ، حتى التواضع و التبسط مع الناس له أصول لا يصح مخالفتها ، أما هذا الذى رأه فهو استهتاراً و خفة لا تواضعاً ، إن مولانا له مظهر الملوك و هيبتهم من الخارج فقط ، أما داخله .. فيعلم الله ، فالصو على الآخر زى أمه .. الله يخرب بيتها ؟! قام عن مقعده بعد انتهاء الإفطار ، و قال مخاطباً حراسه . - نهاركم سعيد . و صعد مباشرة إلى جناحه . كان هذا يعنى أن نوبة عملهم التى طالت كثيراً قد انتهت .. أخيراً ، و أنهم يستطيعون أن يذهبوا إلى غرفهم ليريحوا أجسادهم . * * كانت الساعة تقترب من التاسعة ، وبرغم ما يشعر به من إرهاق فإنه لم يذهب إلى سريره مباشرة ، طلب و هو يخلع ملابسه أن يعدوا له الشاى فى الشرفة و يأتونه بعلبة السيجار كذلك ، خرج من الحمام مرتدياً اللباس الأبيض "الكالسون" و القميص القطنى و العباءة السكروتة ، فهو لا يطيق البيجامات صيفاً أو شتاءً ، يشعر أنها تقيد جسده ، كما أنه لا يتأثر كثيراً بالبرد ، يتحمل برودة الجو مهما اشتدت ، أما الحر فيضايقه ولا يكاد يتحمله ، جسده غزير العرق بطبيعته . دخل إلى الشرفة المطلة على البحر بملابسه الخفيفة ، بينما الخدم الذين هرعوا خلفه يرتجفون من شدة البرد برغم ملابسهم الشتوية الثقيلة . أكلة العدس و الفول جعلته يرغب فى فنجان شاى و سيجار ، خاصة فى هذه الشرفة التى ترى أحد أجمل المناظر التى تطل عليها شرفات قصوره جميعها ، و ربما أجمل منظر فى مصر كلها ، هذه الحدائق المتدرجة الخضرة بما تحتويه من ألوان الزهور المختلفة و المنسقة فيما بينها كأبدع ما يمكن ، وهى تعانق البحر بزرقته الرائعة ،.. نظر إلى المنظر الجميل و تنهد بحسرة ، و كادت الدموع أن تلمع فى عينيه ، لكنه سيطر على نفسه ، تناول سيجاره المفضل الموضوع على طبق فضى ، ماركة " بارتاجاس " هافانا و أشعله بولاعته البلاستيك الرخيصة التى لا يزيد ثمنها على بضعة قروش و يستعملها عامة الناس ، وهى أحد المخترعات الحديثة التى ظهرت فى الأسواق بعد الحرب ، أعجبته عندما رآها و قرر أن يستعملها و يستغنى عن مجموعة ولاعاته الثمينة متعددة الأحجام و الطرز ، من الذهب الخالص المطعم بالماس أو بأنواع أخرى من الأحجار الكريمة ، و من الذهب و البلاتين أو من الفضة المزخرفة ، يحتفظ بها فى خزائن خاصة ولا يستعملها ، وإنما يحلو له أن يمتع نظره بها بين الحين والآخر و يجلس ليفحصها مع سائر التحف التى يجمعها من مصر و من جميع أنحاء العالم ، مئات الساعات و العملات النادرة ، و مجموعة الطوابع التى تعد ثانى أهم مجموعة فى العالم بعد مجموعة ملك إنجلترا ، و تحفته الأثيرة اللؤلؤة الأكبر فى العالم التى يعتز بها بشكل خاص و يضعها فى علبة من الذهب ، يشرف بنفسه على تقسيم هذه المقتنيات إلى مجموعات و رصها بعناية فى علب أو حقائب مخصصة لهذا الغرض ، و يتولى أحد موظفى القصر ترقيمها و تسجيلها فى دفاتر ، ثم حفظها فى الخزائن الخاصة بها . رشف من فنجان الشاى و استرخى فى مقعده العريض المريح لظهره من الآلام التى تعاوده بين الحين و الآخر منذ حادثة السيارة التى نجا منها بمعجزة ، كان القدر رحيماً به فلم يمت فى ذلك اليوم ، لا يعرف إن كان العسكرى الإنجليزى الحمار الذى قطع عليه الطريق فجأة قد تعمد ذلك طبقاً لمؤامرة أعدت لاغتياله أم أن الحادث كان مصادفة كما يؤكدون ، إحساسه ينفى شبهة المؤامرة ، فى نفسه يعلم أن الحادث تم بفعل المصادفة وحدها ، ببساطة لأن أحداً لم يكن يعلم وجهة سيره حتى يدبروا خطة لاغتياله ، بل إنه هو نفسه لم يكن يعلم فى صباح ذلك اليوم ، فقد خطرت على عقله الفكرة بعد الإفطار صباحاً ، أن يذهب إلى الإسماعيلية ليعاين الإصلاحات فى يخته هناك ، فقام من فوره و تأهب للرحلة ، و اختار بعد دخوله الجراج أن يذهب بسيارة صغيرة اشتراها حديثاً أحب أن يجربها فى الطريق على سبيل التغيير . عند وصوله إلى أنشاص كان قد تعب من قيادة السيارة ، لم يرتح فى جلسته على مقعدها غير المريح بالنسبة لحجمه الضخم ، كما أنه وجدها خفيفة على الطريق ولا تناسب أسلوبه فى القيادة السريعة ، لذلك عرج على مزرعته هناك و أمر بمجرد دخوله جراج قصره أن يجهزوا له السيارة المرسيدس التى أهداها له هتلر ، كان قد احتفظ بها فى المزرعة حتى لا تستعمل و تُستهلك فى شوارع القاهرة ، اعتبرها إحدى تحفه النادرة التى يجب أن تصان بعيداً عن أعين الناس ، فقد صنعت خصيصاً لأجله و بمواصفات قياسية فى المتانة و قوة المحرك ، كان يشاع بين العامة أنها مصفحة ضد الرصاص و لكن هذا غير صحيح . انطلق بالمرسيدس مستمتعاً بفخامتها و قوتها ضاغطاً على دواسة السرعة إلى نهايتها ، كما يفعل شاب فى بداية العشرينيات من عمره يريد أن يستمتع بما تقدمه له الدنيا ، و يفرغ ما فى نفسه من توتر و ضغوط بغض النظر عما يمكن أن يسببه لنفسه أو للآخرين ، لمح كلباً يمشى على جانب الطريق فانحرف نحوه دون أن يبطئ و دهسه بالعجلتين تباعاً ؟! صوت الارتطام بالجسد الحى و صرخة العواء الخاطفة التى تزعق لثوان ممزقة سكون الريف الخامل ، و اهتزاز السيارة وهى ترتجف لحظة سحق الجسد و تمزيقه ، يشعره بنشوة يطرب لها و تريح أعصابه فيبتسم ضاحكاً . أشجار الظل الضخمة المزروعة على جانبى الشارع الأسفلتى الناعم ، تمتد فروعها فى الأعلى و تتشابك أغصانها لتظلل الطريق و تحمى المسافرين من أشعة الشمس القوية التى تتخلل الفراغات الصغيرة ما بين أوراق الشجر و تسقط كقطع متناثرة من الضوء تلمع على سطح ترعة الإسماعيلية وهى تعكس ألوان قوس قزح ، مما يعطى الريف فى هذه المنطقة من إقليمالشرقية العامرة بالحقول النضرة طابعاً فردوسياً أخاذاً . فجأة ظهر لورى الجيش الإنجليزى أمامه على بعد أمتار يسحب من خلفه مقطورة ، برز من طريق جانبى و هو يسير ببطء ليعتدل على الطريق الرئيسى فسد عرض الشارع . لم تسعفه براعته فى القيادة ، انحرف إلى أقصى الطريق ضاغطاً على الفرامل بكل قوته ، لكن المقطورة لم تدع له فرصة للافلات ، اصطدم بها صدمة هائلة ، متانة السيارة و طول مقدمتها التى تحطمت تماماً حمته إلى حد كبير بل أنقذت حياته بشكل مؤكد . تجمع الأهالى من الحقول و الزراعات ، خرجوا منها مهرولين جماعات و فرادى ليستطلعوا خبر الحادثة المروعة ، تأسفوا على شبابه الغض و أشفقوا عليه وهم يسحبونه خارج السيارة برفق و الدماء تنزف من رجليه بفعل الجروح وقد تمزق بنطاله و صُبغ بلون الدم القانى ، تناقلوا فيما بينهم همساً أنه كان يسير بسرعة جنونية على الطريق . - مش كنت تمشى براحة شوية ياسعادة البيه ؟ ابتسم برغم الألم على اللقب الذى أنعموا به عليه ، و تحامل عليهم حتى أجلسوه على جانب الطريق. - ده لازم ابن باشا من الكبار ! سمع همساتهم وهى تدور من حوله وهم يحضرون له كوز ماء ليشرب ، تناول منهم الكوز و شرب حتى ارتوى ثم شكرهم ، فى هذه الأثناء كان العسكرى الأنجليزى قد نزل من كابينة القيادة مترنحاً بفعل الاصطدام ، تفقد أثر الحادث على مقطورته التى انقلبت و تحطمت و أخذ يبرطم غاضباً وهو يتجه إلى السائق المتهور الذى صدمه . بادره بمجرد أن اقترب ، و قد أغضبه سيل الشتائم الذى سمعه . - اخرس .. و أرسل إلى قيادتك بخبر الحادث فى الحال . قالها بإنجليزيته القوية الأرستقراطية المترفعة التى تعلمها من مربيتيه ، الأنجليزية الصارمة و الأيرلندية الحنون . استغرق العسكرى الإنجليزى لحظات ليدرك شخصية محدثه ، ، لم يصدق عيناه ، حدق فيه ثانية ليتأكد أن الحادث لم يؤثر على حواسه و أنه بالفعل أمام الملك ... يا إلهى هذا غير معقول ! - اذهب . - نعم يا سيدى .. أقصد يا صاحب الجلالة .. اعذرنى . - كم تبعد عن مقر قيادتك ؟ - حوالى كيلو مترين يا صاحب الجلالة . - إذن أسرع فأنى أنزف كما ترى . فك العسكرى المقطورة المحطمة بمساعدة الأهالى ثم انطلق بعربته الضخمة ليبلغ قادته بالحادث الجلل الذى وقع قرب معسكرهم ، وهو يردد فى نفسه .. يا إلهى هذا غير معقول ! سرعان ما امتلأ موقع الحادث بالضباط و الجنود الإنجليز و تم غلق الطريق بعد أن اكتشف طبيب المعسكر خطورة الإصابة فى الساقين و عظام الحوض و الظهر ، لم تلبث عربة الإسعاف أن حضرت من المستشفى العسكرى الأقرب لمكان الحادث . كان الأهالى يتابعون ما يجرى أمام أعينهم و هم فى حالة ذهول ، أدركوا شيئاً فشيئاً شخصية الشاب الذى حملوه من السيارة و كان يكلمهم منذ قليل ، لاذوا بالصمت و هم يتراجعون من حوله لعدة أمتار مفسحين الطريق لأطباء و ممرضى الجيش الإنجليزى و هم يجرون له الإسعافات الأولية ، قبل أن يضعونه على النقالة ليحملوه إلى عربة الإسعاف و حولها حراسة مشددة ، ظلوا يحملقون فيه و شعر بعضهم بالرغبة فى البكاء من أجله ، و تمنى آخرون لو أنهم افتدوه بأنفسهم . - يا خبر أسود يا ولاد ، ده مولانا الملك ! - ده كان بيتكلم معانا ! - ده زى الملاك . ظلوا واقفين فى أماكنهم و سيارة الإسعاف تبتعد به ، و العساكر الإنجليز يرفعون سيارته بالجنازير الحديدية ليقطروها بعيداً عن الطريق . شعر بالألم الحاد يسرى فى ساقيه و أسفل ظهره و فى منطقة مابين الفخذين ، قبل أن يصل إلى المستشفى التابع للجيش الإنجليزى كان يتأوه من الألم بفعل الكسور التى أصيب بها ، لكن قلقه كان منصباً على إصابته فى هذه المنطقة الحساسة التى كان يتألم منها بشدة ،... بعد أيام طويلة من العلاج ، تأكد أنه لن يعود كما كان .. أبداً ، و أن فحولة جده الذى كان معروفاً بولعه بالنساء و امتلاكه لعدد هائل من الجوارى ، هذه الفحولة التى طالما تباهى بأنها أهم ما ورثه عنه ، قد ضاعت الآن ..، لم يتبق منها إلا النذر اليسير الذى يكفى بالكاد لقضاء واجباته الزوجية .. و على استحياء . نفث دخان السيجار وهو ينظر إلى البحر الواسع و يعدل من جلسته ليريح ظهره ، هذا العجز نكد عليه حياته ، و أثر إلى حد كبير على شخصيته و طباعه ، لم يخفت ولعه بالنساء بل زاد ، و مازال يحب مجالستهن و الكلام معهن ، هذه الثرثرة و الأحاديث الخفيفة الروح يميل إليها ، و يجد لذة فيها ، لو كان له أن يختار لفضل أن يعيش فى جزيرة محاطاً بالفتيات الجميلات ، يلاعبهن و يلاعبنه على مدى النهار و الليل أيضاً . انتهى من فنجان الشاى ، فأطفأ نصف السيجار بحرص ووضعه فى علبته الأنبوبية ليكمل تدخينه بعد ذلك ! يرى أن رمى السيجار قبل إكمال تدخينه بطر للنعمة ، فمن طباعه التدقيق فى إنفاق الجنيهات المعدودة التى يلمسها بيديه ، أما المئات و الآلاف فلا تعنى له سوى أرقام يسُهل عليه صرفها ببساطة و بلا أدنى اهتمام ، ... قام إلى غرفته ، و أسرع الخدم بإسدال الستائر فأعتمت الغرفة تماماً ، دخل إلى سريره و قد تجاوزت الساعة العاشرة صباحاً ، استغرق فى النوم مباشرة ، و لم يلبث أن علا شخيره الهادر بعد لحظات .