أولًا: خصوصية الاجتماع وتوقيته شهد الكرملين مساء 5 نوفمبر (تشرين الثانى) 2025 اجتماعًا نادرًا من حيث الشكل والمضمون، برئاسة الرئيس فلاديمير بوتين، وحضور وزير الدفاع أندريه بيلواوسوف، وقيادات المؤسسات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية. هذا الاجتماع اكتسب أهميته- فى رأيى- من ثلاثة أبعاد متشابكة: العلنية الإعلامية المقصودة: فقد سمح بوتين (أو قصد السماح) لوسائل الإعلام الروسية الرسمية بتصوير مقاطع من النقاش، فى سابقة لم تحدث إلا نادرًا منذ التسعينيات فى اجتماعات الموضوع النووى. وهذا بلا شك يشير إلى رغبة واضحة فى توجيه رسالة مركبة إلى الداخل الروسى والخارج، الأمريكى فى المقام الأول. الظرف الاستراتيجى: الاجتماع جاء بعد تصاعد الحديث فى واشنطن عن إمكانية استئناف التجارب النووية، وبعد إعلان البنتاغون عن اختبار صاروخMinuteman III، وهو ما فسّرته موسكو على أنه خرق فعلى لروح معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية. السياق الداخلى الروسى: انعقد الاجتماع بعد يوم واحد فقط من احتفالات روسيا بعيد يوم الوحدة الشعبية، الذى استخدمه بوتين لترسيخ فكرة التماسك الوطنى، بما يمنح الحدث بعدًا رمزيًّا يربط بين الوحدة الداخلية والجاهزية الدفاعية. اختيار بوتين لهذا التوقيت الدقيق يكشف أن الهدف لم يكن اتخاذ قرار ميدانى بقدر ما كان إعادة ضبط الرسالة الاستراتيجية الروسية تجاه التوازن النووى العالمى. ثانيًا: مضمون الاجتماع إذا انتقلنا من نقطة التوقيت والخصوصية إلى المضمون، فسنرى أنه حاول إظهار التوازن بين الالتزام والتحضير، وما أقصده هو الإشارة إلى العبارات الافتتاحية لوزير الدفاع أندريه بيلواوسوف، ذى الخلفية الاقتصادية، وتحديدًا العبارة الصريحة: أرى أنه من المناسب البدء فورًا فى التحضير لإجراء تجارب نووية شاملة. الوزير عطف على ذلك بالقول إن انسحاب الولاياتالمتحدة من نظام الوقف الاختيارى للتجارب النووية سيقوّض الاستقرار الاستراتيجى؛ ولذلك يوصى بالتحضير الفورى للتجارب فى أرخبيل نوفايا زيمليا، الموقع التاريخى للتجارب السوفيتية، والإشارة تتحدث عن نفسها. ردّ بوتين كان أكثر إثارة بتأكيده الالتزام بمعاهدة الحظر الشامل، مع التحذير فى الوقت نفسه من أن أى خرق غربى سيقابَل بإجراءات ردعية متكافئة. اللافت هنا ليس مضمون التصريحات فحسب؛ بل توزيع الأدوار داخل القيادة الروسية؛ بيلواوسوف يمثل الجناح التقني- الاقتصادى الداعى إلى رفع الجاهزية الشاملة. بوتين يحافظ على الموقف القانونى المتوازن الذى يراعى الالتزامات الدولية. هذا التوازن يعكس ما يمكن وصفه بعقيدة روسية جديدة يمكن تسميتها ب«الردع المُتحكَّم فيه»، أى إبقاء البنية النووية فى حالة استعداد دائم، دون خرق المعاهدات أو الانجرار إلى سباق تسلح معلن. ثالثًا: القراءة المؤسسية والإعلامية فى الداخل الروسى الصحف والمواقع الروسية الرئيسة التى علقت سريعًا على الاجتماع، والتى طالتها يدى، فسر بعضها الاجتماع بأنه اختبار للشفافية النووية، ورسالة للغرب بأن موسكو قادرة على الجمع بين الردع والانضباط القانونى. والبعض اعتبر أن لجوء الكرملين إلى العلنية يخدم هدفين: طمأنة الداخل، وتحدى واشنطن فى آنٍ واحد. قراءة أخرى رأت أن إدخال وزير الدفاع ذى الخلفية الاقتصادية فى صلب القرار النووى يمثل دمجًا للاقتصاد فى منظومة الردع، وأنا أتفق بشدة مع هذا الطرح، فالتجارب النووية ليست نزهة للاقتصاد؛ بل عملية عالية التكلفة. ومع ذلك فهى أيضًا إشارة واضحة إلى أن الردع لم يعد وظيفة عسكرية صرفة؛ بل استراتيجية وطنية تعبر جميع القطاعات. والجانب المالى فى هذا الخصوص يبرز إلى المقدمة؛ لأن إعادة تأهيل البنية التحتية فى نوفايا زيمليا ومراكز الأبحاث فى ساروف تتطلب استثمارات ضخمة، لكنها من جهة ثانية قد تحفز الاقتصاد العلمى، وتدعم الصناعات المدنية المتقدمة، على غرار مقولة «رب ضارة نافعة». ومع ذلك، ومن واقع قراءة لعبة الأدوار التى أشرت إليها أعلاه، يمكننا أن نفترض أن بوتين لا ينوى تجاوز المعاهدات الدولية؛ بل يسعى إلى رفع الكفاءة التقنية دون خرق التوازنات، أو على الأقل ألا يكون هو المبادر بخرق التوازنات، خصوصًا فى الوضع الحالى، وخصوصًا أمام الصين والهند وشركاء آخرين. لكن ما يمكننا الإقرار به بلا شك أو تردد أن هذا الاجتماع فى الكرملين هو إعادة إدخال للعنصر النووى فى الخطاب العام الروسى، على نحو لا لبس فيه بعد سنوات من التهميش الإعلامى؛ ما يعكس تطبيع فكرة الردع كأداة دفاعية يومية. رابعًا: التحليل الاستراتيجى من قراءة الموقف الروسى بعين التحليل يبدو أن موسكو بصدد الانتقال من مفهوم الردع النووى التقليدى إلى ما يمكن تسميته بالردع المتعدد الأبعاد، أى الذى لا يكتفى بمجرد التلويح بالنووى، فإعلان التجارب المحتملة، وهى تجارب تفجير نووى، ليس هدفًا عسكريًّا، بل هو - على الأغلب- من حيث الشكل والمضمون والتوقيت عبارة عن رسالة جيوسياسية تهدف إلى: تثبيت أن روسيا لاتزال قوة نووية موازنة للولايات المتحدة فى المنظور الكمى والنوعى، بل تتفوق ببعض النقاط. نقل المعركة من ميدان الحرب فى أوكرانيا إلى ميدان الشرعية الدولية، بإظهار أن موسكو تحترم المعاهدات وواشنطن تقوضها. استخدام الجاهزية النووية كورقة تفاوضية فى ملفات العقوبات والطاقة والأمن الأوروبى. هذا التحول يعنى أن السلاح النووى يعود مجددًا ليكون عنصر ضغط سياسى واقتصادى، وليس فقط وسيلة عسكرية. وبهذا الشكل يمنح إعلان الجاهزية للتجارب الكرملين هامشًا أوسع فى التفاوض، دون الحاجة أو اللجوء إلى تصعيد فعلى. خامسًا: الانعكاسات الاقتصادية على الأوضاع والسياسية الداخلية رغم الطبيعة العسكرية للملف، فإن أبعاده الاقتصادية لا تقل أهمية، فروسيا تواجه ضغوطًا متزايدة ومتنوعة: ارتفاع وزيادة الإنفاق الدفاعى إلى ما يقارب 7.3٪ من الناتج المحلى وفق تقديرات وزارة المالية لعام 2026. الحاجة إلى الحفاظ على استقرار اجتماعى يحتاج إلى إنفاق ليس بالقليل وسط العقوبات وتقلص العائدات النفطية. من البدهى بالطبع أن نتوقع أن التحضيرات التقنية للتجارب قد توفر آلاف فرص العمل فى القطاعات العلمية والتقنية، فضلًا عن إنعاش الصناعة النووية المدنية، مثلما وفرت مثلًا الحرب فى أوكرانيا مئات الآلاف من فرص العمل للمتعاقدين للقتال الطوعى، برواتب مغرية، مع وزارة الدفاع الروسية. لكن فى المقابل، لا يجب أن نغفل أن أى انزلاق فعلى إلى سباق تسلح جديد سوف يثقل -بلا شك- كاهل الموازنة؛ ومن ثم سيقلص القدرة على تمويل البرامج الاجتماعية التى أشرنا إليها. داخليًّا، يوظف الكرملين هذا الملف فى تعزيز الهوية الدفاعية الوطنية، من خلال خطاب حماسى لكنه هادئ اللهجة، يربط بين السيادة والقدرة على الرد؛ وهنا يتضح البعد النفسى للردع: إقناع المواطن الروسى بأن بلاده بالرغم من كل التهديدات والتصعيد هى «محصّنة»، وأن أى ضغط خارجى لن يؤدى إلى تراجعها، أو إضعاف قدراتها. سادسًا: كيف جاء التفاعل الغربى والأطلسى؟ اتجهت ردود الفعل الأوروبية الأولية - وفقًا لما طالته يدى، خصوصًا السريعة منها التى جاءت من بروكسل ووارسو- نحو الحذر. فى المقابل، تلتزم واشنطن بالصمت الرسمى حيال تصريحات بيلواوسوف، مكتفية بإعادة تأكيد التزامها بالحفاظ على بنية الردع المتبادل، لكن الأوساط التحليلية الأمريكية تتخوف، أو لنقل تنظر بجدية إلى تحول موسكو من «الردع اللفظى» إلى «الردع القابل للتنفيذ»؛ ما قد يفرض على الناتو إعادة تقييم وضعه النووى فى أوروبا. سابعًا: التقدير العام إذا تحدثنا من منظور علم العلاقات الدولية، يمكن اعتبار اجتماع الكرملين مؤشرًا على ولادة جيل ثالث من الردع الروسى، يقوم على ثلاثة أعمدة رئيسية: 1- الردع الرمزى، وهو يتحقق من خلال إحياء الخطاب النووى فى الفضاء العام لتأكيد الشرعية السيادية. 2- الردع التقنى والفنى، وذلك من خلال إعادة تفعيل البنية البحثية والعلمية بما يضمن الجاهزية دون التجربة. 3- الردع السياسى والاقتصادى، من خلال استخدام السلاح النووى بوصفه عنصر ضغط لتعديل ميزان القوى فى مواجهة العقوبات. هذه المقاربة البوتينية تعبر - من وجهة نظرى- عن عقلانية روسية جديدة لا تسعى إلى سباق تسلح كلاسيكى، تدرك أنها غير قادرة عليه الآن، بل تدخل فى سباق على إعادة تعريف القوة نفسها، بحيث تصبح القدرة على التحكم فى التصعيد أهم من التصعيد نفسه. ثامنًا: تقييم المخاطر والفرص المخاطر: 1- احتمال سوء تفسير الرسائل الروسية من جانب الغرب، وتحويلها إلى ذريعة لتوسيع النشاط العسكرى الأطلسى. 2- الضغط المالى الداخلى فى حال تحول التحضيرات إلى برنامج مكلف طويل الأمد. 3- إمكانية فتح سباق نووى إقليمى يشمل الصين، وكوريا الشمالية، والولاياتالمتحدة. الفرص: 1- تعزيز صورة روسيا كقوة مسؤولة تحافظ على التزاماتها القانونية، لكنها لا تسمح بتهميشها. 2- خلق حالة وطنية بشأن مشروع علمى وصناعى يعيد الثقة بالقدرات الذاتية. 3- استخدام الجاهزية النووية ورقة تفاوضية فى ملفات الطاقة والعقوبات والتوازن الأوروبى. تاسعًا: تقدير موقف يظهر اجتماع الكرملين أن موسكو دخلت مرحلة الردع ما قبل التجربة، وهى مرحلة انتقالية تُبقى فيها روسيا على التزامها القانونى، لكنها ترفع سقف الجاهزية إلى الحد الذى يجعل أى تحرك أمريكى غربى محفوفًا بالمخاطر. وبهذا المعنى، لا تُعلن موسكو أو تطلق سباق تسلح؛ بل تدير ما يمكن تسميته بسباق الإدراك والتصور مع الغرب، أقصد سباق السيطرة على الصورة الذهنية للقوة. فالردع هنا لا يقوم على التفجير؛ بل على القدرة على الإقناع بأن التفجير ممكن فى أى لحظة؛وبذلك لا تصبح معادلة الردع الروسية الجديدة معادلة عسكرية بحتة؛ بل منظومة مركبة وشاملة توظف الاقتصاد والعلم والإعلام والقانون الدولى كأدوات تكاملية لردعها؛ وبهذا تتحول روسيا من دولة دفاعية إلى فاعل استراتيجى يعيد تعريف مفهوم الأمن الدولى من موقع المبادر لا المتلقى، الذى كانت تشغله أكثر من ثلاثة عقود. فى ضوء كل ما ذكر أعلاه، يمكن القول إن اجتماع 5 نوفمبر (تشرين الثانى) 2025 يشكل نقطة تحول جديدة فى هندسة الردع العالمى، لحظة انتقال روسيا من مرحلة الصمود إلى مرحلة فرض الإيقاع، فى ملف استراتيجى بالغ الخطورة، وهى مرحلة تتطلب مراقبة دقيقة؛ لأن أى خلل فى ضبط الإيقاع بين الالتزام والمعاينة الفنية والتقنية قد يضع العالم أمام صورة المواجهة النووية الكاملة بجد. * باحث وإعلامى متخصص فى الشأن الروسى ينشر بالتعاون مع CAES مركز الدراسات العربية الأوراسية