أسعار الذهب اليوم في مصر بيع وشراء.. تحديث لحظي    أسعار الفراخ والبيض اليوم السبت 4 أكتوبر 2025 بأسواق الأقصر    عاجل- استقرار أسعار الأسمنت اليوم السبت 4 أكتوبر 2025 في الأسواق المصرية    طوارئ الأقصر: إخطار المقيمين بأراضى طرح النهر بالحذر من ارتفاع منسوب النيل    ما هي البنود التي لم توافق عليها حماس في خطة ترامب؟    8 شهداء بينهم طفلان في قصف إسرائيلي على مدينة غزة وخان يونس    وزير الخارجية يثمن الدعم الفرنسي للمرشح المصري لرئاسة اليونسكو خالد العناني    تصويت مجلس الشيوخ يفشل في إنهاء شلل الحكومة الأمريكية ويعطل مقترح الجمهوريون للميزانية    بسبب إنذارين.. تشيلي تحسم المركز الثاني على حساب مصر في مجموعة كأس العالم للشباب    الأهلي يواجه كهرباء الإسماعيلية في الدوري    مواعيد مباريات اليوم السبت 4 أكتوبر 2025 والقنوات الناقلة    موجة انتقادات لاذعة تطارد محمد صلاح.. هل يعود الفراعنة لمعشوق الجماهير؟    رئيس الاتحاد يتكفل بإيواء وتعويض المتضررين من سقوط عقار غيط العنب بالإسكندرية    طقس الإسكندرية اليوم: انخفاض في درجات الحرارة وفرص لأمطار خفيفة    إصابة 7 أشخاص في حادث تصادم سيارتين بالطريق الدائري بالفيوم    التحقيق مع شخصين وراء تسميم الكلاب والتخلص منها فى الهرم    وزير الخارجية يلتقي سفراء الدول الأفريقية المعتمدين لدى اليونسكو    مراسلات بدم الشهداء في حرب 1973.. حكاية المقاتل أحمد محمد جعفر.. الدم الطاهر على "الخطابات" يوثق البطولة ويؤكد التضحية .. الرسالة الأخيرة لم تصل إلى الشهيد لكنها وصلت إلى ضمير الوطن    نجاح أول جراحة قلب مفتوح بمستشفى النصر التخصصي في بورسعيد    «الصحة» تطلق البرنامج التدريبي «درب فريقك» لتعزيز مهارات فرق الجودة بمنشآتها    إعلان موعد تلقي أوراق الترشح للانتخابات مجلس النواب اليوم    جهود أمنية لكشف لغز وفاة طالبة بشكل غامض أثناء تواجدها في حفل زفاف بالفيوم    اليوم.. محاكمة متهم بالانضمام لجماعة إرهابية في بولاق الدكرور    الخبراء يحذرون| الذكاء الاصطناعي يهدد سمعة الرموز ويفتح الباب لجرائم الابتزاز والتشهير    رغم تحذيراتنا المتكررة.. عودة «الحوت الأزرق» ليبتلع ضحية جديدة    شهادات البنك الأهلي ذات العائد الشهري.. كم فوائد 100 ألف جنيه شهريًا 2025؟    موعد تغيير الساعة في مصر 2025.. بداية التوقيت الشتوي رسميا    سوما تكشف كواليس التعاون مع زوجها المايسترو مصطفى حلمي في ختام مهرجان الموسيقى العربية    هل إجازة 6 أكتوبر 2025 الإثنين أم الخميس؟ قرار الحكومة يحسم الجدل    المتخصصين يجيبون.. هل نحتاج إلى مظلة تشريعية جديدة تحمي قيم المجتمع من جنون الترند؟    انطلاق مباراة مصر وتشيلي في كأس العالم للشباب    ثبتها حالا.. تردد قناة وناسة بيبي 2025 علي النايل سات وعرب سات لمتابعة برامج الأطفال    رئيس الطائفة الإنجيلية يشهد إطلاق المركز الثقافي بالقاهرة الجديدة    البابا تواضروس: الكنيسة القبطية تستضيف لأول مرة مؤتمر مجلس الكنائس العالمي.. وشبابنا في قلب التنظيم    حرب أكتوبر 1973| اللواء سمير فرج: تلقينا أجمل بلاغات سقوط نقاط خط بارليف    «نور عيون أمه».. كيف احتفلت أنغام بعيد ميلاد نجلها عمر؟ (صور)    تردد قناة الفجر الجزائرية 2025 على النايل سات وعرب سات.. موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان 7    فلسطين.. طائرات الاحتلال المسيّرة تطلق النار على شرق مدينة غزة    عبد الرحيم علي ينعى خالة الدكتور محمد سامي رئيس جامعة القاهرة    عاجل - حماس: توافق وطني على إدارة غزة عبر مستقلين بمرجعية السلطة الفلسطينية    نسرح في زمان".. أغنية حميد الشاعري تزيّن أحداث فيلم "فيها إيه يعني"    الخولي ل "الفجر": معادلة النجاح تبدأ بالموهبة والثقافة    مواقيت الصلاة فى أسيوط اليوم السبت 4102025    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 4-10-2025 في محافظة الأقصر    بيطري بني سويف تنفذ ندوات بالمدارس للتوعية بمخاطر التعامل مع الكلاب الضالة    بعد أشمون، تحذير عاجل ل 3 قرى بمركز تلا في المنوفية بسبب ارتفاع منسوب النيل    هدافو دوري المحترفين بعد انتهاء مباريات الجولة السابعة.. حازم أبوسنة يتصدر    «عايزين تطلعوه عميل لإسرائيل!».. عمرو أديب يهدد هؤلاء: محدش يقرب من محمد صلاح    تفاصيل موافقة حماس على خطة ترامب لإنهاء الحرب    تفاعل مع فيديوهات توثق شوارع مصر أثناء فيضان النيل قبل بناء السد العالي: «ذكريات.. كنا بنلعب في الماية»    سعر الجنيه الذهب في السوق المصري اليوم يسجل 41720 جنيها    "مستقبل وطن" يتكفل بتسكين متضرري غرق أراضي طرح النهر بالمنوفية: من بكرة الصبح هنكون عندهم    محيط الرقبة «جرس إنذار» لأخطر الأمراض: يتضمن دهونا قد تؤثرا سلبا على «أعضاء حيوية»    لزيادة الطاقة وبناء العضلات، 9 خيارات صحية لوجبات ما قبل التمرين    الشطة الزيت.. سر الطعم الأصلي للكشري المصري    هل يجب الترتيب بين الصلوات الفائتة؟.. أمين الفتوى يجيب    مواقيت الصلاه في المنيا اليوم الجمعه 3 أكتوبر 2025 اعرفها بدقه    تكريم 700 حافظ لكتاب الله من بينهم 24 خاتم قاموا بتسميعه فى 12 ساعة بقرية شطورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«نجيب محفوظ».. سيدُ المفارقات
نشر في المصري اليوم يوم 28 - 08 - 2025

سألتُه ذاتَ لقاءٍ، فى فيلا الدكتور «يحيى الرخاوى» بالمقطم:
- «أستاذ نجيب، هل تذكر اسم طاعنك؟»
ابتسم بحنوّ، كأنه يتحدّث عن ولدٍ عاق، وقال:
- «لا. بس سامحته».
هكذا يردُّ الكبارُ على طعنات الصغار: بالعفو. عفوٌ لا يصدرُ عن خضوع، بل عن قامةٍ شاهقة تعلو وتسمو؛ فلا ترى نصالَ الخناجر حين تمزّقُ الأوردة، إلا حماقة عابرة من يد مرتعشة. ابتسم «محفوظ» فى وجه الموت، وعفا عن قاتليه، بينما العاديون لا يستطيعون أن يغفروا لمن تأخر عن موعد.
وأنا كذلك لا أعرف اسم الأحمق الذى غرز خنجره فى عنق «نجيب محفوظ»، لكننى أعرف أن الخنجر ارتدّ إلى صدره وصدر مُحرّضه. ونجا صدر «محفوظ» النحيل الذى اتسع، على نُحوله، ليضمَّ مصرَ بكاملها. الطعناتُ لا تقتل الكبار، بل تمنحهم جوازَ سفر أبديًّا إلى ذاكرة العالم. أما القتلة، فيُلقى بهم إلى نفايات التاريخ، بلا أسماء.
فالتاريخ قاسٍ فى عدالته. لا يُبقى فى سِجلِّه إلا الأسماءَ التى أضافت إلى إنسانية البشر شيئًا من النور. أما القتلة والمهووسون والجهلاءُ والحمقى، فيذروهم الزمانُ كما يذرو الريحُ غبارَ الطريق، فينمحى أثرُهم كما تُمحى آثارُ الأقدام الواهنة. لهذا، ظلّ «محفوظ» حاضرًا فى الوجدان الجمعى، فيما الذين كفّروه أو رفعوا السكاكين فى وجهه، غابوا فى قاع النسيان. التاريخُ لا يذكر أسماء شانقى العظماء، بل يتركهم للعدم. من يذكر اسم قاتل «المتنبى»؟، أو شانق «عمر المختار»؟، أو صالب «الحلاج»؟، أو ساحل «هيباتيا»؟، لا أحد. لكن أسماء هؤلاء باقية كالكواكب فى السماء. و«نجيب محفوظ» أحد أولئك الذين لا يخبو ضوءهم.
حاولوا إسكاتَه بخنجر، فإذا بصوته يعلو. حاولوا تشويهه بتكفير، فإذا بصورته تزداد نُصوعًا وإشراقًا. لم يدركوا أن القلم لا يُطعن. أصابعه التى تجمدت على شكل قلم كانت تقول: سأكتب حتى بعدما أرحل. كلُّ عام يمرّ على رحيله، نزداد يقينًا بأن الموتَ لا يعرفُ للكبار طريقًا. «محفوظ» ليس ذكرى، بل حاضرٌ يكتبنا، فى الأزهر والجمالية، فى مقاهى وسط البلد، وفى مناهج الجامعات حول العالم.
بعد الطعنة الغادرة صار يكتب بخط مرتعش. أذكر أننى جريتُ يومًا من فندق «شبرد» إلى مكتبة «سميراميس» لأشترى نسخة من «الطريق»، أقرب رواياته إلى قلبى، كى يوقّعها. استغرق خمس دقائق ليكتب اسمَه، وخمسًا أخرى ليكتب التاريخ. عشر دقائق كاملة كى يترك لى أثرًا لا يُقدَّر بثمن. أشفقتُ على يده فحاولتُ جذب الكتاب قبل التاريخ، فعاتبنى قائلا: «إياك أن توقّعى دون تاريخ». علمنى أن التاريخ ختمُ البقاء. الحبر يجف، والتاريخ يحفظه من الذوبان.
«نجيب محفوظ» هو المفارقة كلها: جسد ضعيف يتهاوى، وعقل يسبق الزمن. شيخ فى التسعين، يضحك بخفة صبىّ، ويكتب بجدية حكيم. رجلٌ خرج من حارة ضيّقة، ليضع مصرَ على خارطة الأدب العالمى. صوتٌ راموا إسكاته، فصار أعلى من كل ضجيج. رواياته مرايا عدّة فى آن واحد: مرآة لوجه مصر الحضارى، ومرآة لخيباتها، ومرآة لأحلامها المؤجلة. كتب عن الحرافيش الذين ما زالوا يحومون فى حاراتنا، وعن «سى السيد» الذى يتكرّر بأسماء مختلفة فى بيوتاتنا، وعن «زبيدة» التى لا تزال تقيم فى أزقة الغواية، وعن «أمينة» التى استكانت فى بيتها من أجل أبنائها.
رماه المتزمتون بالرذيلة لأنه رسم «زبيدة»، ونسيوا أن «السيد أحمد عبد الجواد» كان نموذجًا للفسق المقنَّع الذى ينام فى بيوتهم كل ليلة. لم يشغلهم اللصوصُ ولا الخونة ولا الكذابون، وشغلتهم سيقان النساء. رحل مكفّروه إلى العدم. وتاه طاعنوه فى النسيان. وبقى.
«نجيب محفوظ» لم يكن كاتبًا وحسب؛ كان تجربة وجودية كاملة. رجلٌ كتب الأزقّة والحوارى، لكنه فى الحقيقة كان يكتب أسئلة الوجود الكبرى: الله، الحرية، المصير، والعبث. كتب عن البسطاء والفتوات، عن السكارى والمهمشين، عن العلاقة الملتبسة بين السلطة والإنسان. حوّل الحارة إلى مسرح كونى، وجعل شخوصه، الذين يشبهون جيراننا، رموزًا تتنازعها الفلسفة والسياسة والتاريخ. وحين حاولوا إسكاته بخنجر، لم يدركوا أن القلم لا يُطعن. القلم يظل يكتب حتى وهو غائب عن اليد. أصابعه التى تجمّدت على شكل قلم، بعد الطعنة، ظلّت تمسك بالفراغ كأنه ورقة لا تنتهى.
فى مثل هذى الأيام، قبل أعوام طوال، أغمض «نجيب محفوظ» عينيه على الدنيا، وفتحهما على الخلود. فالعظماء لا يموتون. إنّهم يتوزّعون بيننا كأغانٍ شعبية تظلّ حاضرة تتردد فى أعماقنا ومسامعنا دون خفوت. ستظلّ بيننا يا «عم نجيب» ما دامت القاهرة تنبض، وما دام الحلم العربى يبحث عن مرفأ. مازلتَ هنا: فى الأزقة، فى المقاهى، فى وجوه البسطاء، فى دفاترنا المدرسية، وفى قلوبنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.