تؤكد التفاصيل التى تتكشَّف يوميًّا عن حرب ال12 يومًا أن إسرائيل والولاياتالمتحدة حاولتا إضعاف النظام الإيرانى ثم إسقاطه، وليس تدمير المنشآت النووية والقدرات الصاروخية فقط، ويتضح هذا بعد كشف الرئيس الإيرانى مسعود بزشكيان أن إسرائيل حاولت اغتياله فى أثناء اجتماعٍ قُصِفَ بالطائرات الإسرائيلية خلال أيام الحرب الاثنى عشر. كما كشف عدد كبير من رموز النظام الإيرانى أنهم تلقوا رسائل تدعوهم إلى التخلى عن النظام، ومغادرة البلاد فورًا حتى لا يُقتلوا، وهو ما يؤكد بوضوح أن إسرائيل- ومن ورائها الولاياتالمتحدة- عملت بقوة على إسقاط النظام فى إيران، لكنها فوجئت برفض كبار الجنرالات والمسؤولين الهروبَ إلى الخارج؛ بل بالتفاف المعارضة نفسها حول الحكومة. هذه المعلومات الجديدة تطرح سلسلة طويلة من الأسئلة عن الأهداف الأمريكية والإسرائيلية فى السعى وراء التخلص من النظام الإيرانى. هل كان الهدف يتوقف فقط عند إسقاط النظام وتفكيك الجمهورية الإيرانية؟ أم أن هناك أهدافًا وغايات أبعد من إسقاط النظام، وما يترتب على ذلك من تفتيت وتفكيك الجمهورية الإيرانية؟ وهل تسعى الولاياتالمتحدة مع إسرائيل خلال الفترة المقبلة إلى تحقيق أهداف تتجاوز إيران ونظامها السياسى، والذهاب بعيدًا لتحقيق أهداف تتعلق بتنافسها الإستراتيجى مع كلٍّ من الصينوروسيا؟ كل التقديرات والمؤشرات تقول إن دعم الولاياتالمتحدة، و15 دولة فى الاتحاد الأوروبى، ومعها مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى للحملة الإسرائيلية على إيران، كان يستهدف أكثر من المفاعلات النووية ومخازن ومصانع الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة، وأن هذه الأهداف تتعلق بإضعاف روسياوالصين بطريقة تؤجل انتقال العالم من «الهيمنة الأحادية الأمريكية» إلى «عالم متعدد الأقطاب»، وأن إيران -ومعها روسياوالصين وكوريا الشمالية- شكلت -على الدوام- «رباعى التحدى» للغرب والولاياتالمتحدة، وأن خروج إيران من هذا الرباعى سيشكل «انتصارًا إستراتيجيًّا» للغرب الذى عجز عن هزيمة روسيا إستراتيجيًّا فى أوكرانيا، وعجز كذلك عن وقف التقدم التكنولوجى والاقتصادى الذى تحققه الصين على حساب الغرب كل يوم. فما المعادلات والحسابات الروسية والصينية لوقف المخاطر الإستراتيجية التى تُحاك ضد مصالح موسكووبكين عن طريق البوابة الإيرانية إذا خرجت طهران من «رباعى التحدى» للولايات المتحدةالأمريكية والغرب؟ وما «أدوات» الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى، ومن يرتبط بهما، للضغط على إيران، ومحاولة إضعافها وإسقاطها خلال الفترة المقبلة؟ تفكيك إيران مع أن تل أبيب وواشنطن كانتا تؤكدان خلال أيام الحرب أنهما لا تكترثان بإسقاط النظام السياسى فى إيران، فإنهما كانتا دائمًا تؤكدان عدم ممانعتهما إسقاطه. والهدف ليس فقط استبدال نظام موالٍ للغرب بنظام معادٍ له، بل تشير كل التقديرات والحسابات إلى أن الولاياتالمتحدة وإسرائيل عملتا طويلًا على خطة لتقسيم إيران. خير شاهد على هذه الخطة ما يُوصفون فى الإعلام «بالخونة والجواسيس»؛ لأن تحليل سلوك هؤلاء «الخونة والجواسيس»- وهم كذلك بالفعل- يؤكد أنهم يأملون الحصول على أكثر من الأموال التى تلقوها من إسرائيل أو الولاياتالمتحدة بتأسيس دويلات لهم فى حالة تفكك الدولة الإيرانية. فمن يُعرفون بالجواسيس ينتمون إلى مجموعات عرقية تختلف سياسيًّا مع قومية الفرس التى تشكل فقط نحو 51٪ من الشعب الإيرانى، الذى يضم إلى جانب الفرس كلًا من الأكراد والأذريين والبلوش وغيرهم. الحسابات الصينية الصين هى المتضرر الأول من الهجوم الإسرائيلى الأمريكى على إيران، وتعد إيران عمقًا إستراتيجيًّا للصين فى قلب آسيا وصولًا إلى الخليج العربى وبحر العرب. وكل المؤشرات تقول إن النتائج النهائية للحرب الإسرائيلية الإيرانية لن تتضح فى الأسابيع المقبلة، وأن الولاياتالمتحدة التى امتنعت عن إسقاط نظام صدام حسين خلال حرب عام 1991، عادت بعد 12 عامًا لإسقاطه عام 2003؛ فتقديرات كثيرة تؤكد عدم القضاء على البرنامج النووى الإيرانى، وأن نتنياهو ذهب إلى واشنطن ليحصل على «ضوء أخضر» لمهاجمة إيران من جديد. ولا شك أن وقوع فوضى فى إيران، أو إضعاف نظامها على غرار إضعاف نظام صدام حسين بعد عام 1991، سوف يلحق ضررًا بالغًا بالمصالح الصينية، وهذه الخسائر يمكن أن تأخذ الأشكال التالية: أولًا- خسارة 40٪ من استثمارات «الحزام والطريق» سوف تخسر الصين كثيرًا من الاستثمارات والعائدات المتوقعة من مبادرة الحزام والطريق التى أطلقها الرئيس شى جين بينج عام 2013، لا سيما ما يتعلق بالمسار الذى يبدأ من الصين شرقًا ويمر بباكستان وأفغانستان، ويصل حتى إيران غربًا، ثم بعد ذلك يتجه جنوبًا إلى المحيط الهندى. وإضعاف النظام الإيرانى أو سقوطه -فى أى مرحلة مقبلة- سوف يحول الجغرافيا الإيرانية، التى تصل مساحتها إلى أكثر من 1.7 مليون كم²، إلى مساحة للفوضى، وعدم الاستقرار، بما يهدد بوقف الطرق وخطوط السكك الحديدية التى تسلكها التجارة الصينية من الشرق إلى الغرب، وسوف يكون ذلك ضربة كبيرة «لمبادرة الحزام والطريق» فى مسارها الأهم، وهو المسار الآسيوى، بعد وصول أول قطار حاويات صينى إلى العاصمة طهران فى الأسبوع الأول من شهر يونيو (حزيران) الماضى، أى قبل الهجوم الإسرائيلى على إيران بأيام قليلة. وهناك تقديرات أمريكية تقول إن حدوث فوضى فى الجغرافيا الإيرانية سوف يكلف الصين نحو 40٪ من الاستثمارات التى أنفقتها على «الحزام والطريق» فى الجناح الآسيوى. ثانيًا- معضلة «مضيق ملقا» وقوع فوضى فى إيران أو استبدال نظامها السياسى سوف ينهى الخطة الصينية بتمرير تجارتها من صادرات وواردات بعيدًا عن «مضيق ملقا»؛ فإستراتيجية الولاياتالمتحدة تقوم على إغلاق المضيق فى حالة نشوب حرب بين الصينوتايوان، وهذا يعنى أن الصين سوف تواجه مشكلات اقتصادية كبيرة إذا حاولت غزو تايوان، التى يُطلق عليها فى الصين «المسار البديل»، حيث تعتمد الإستراتيجية الأمريكية على «إغلاق مضيق ملقا» الذى تمر من خلاله نحو 25٪ من التجارة البحرية العالمية، حيث يمر من خلال مضيق ملقا نحو 94 ألف سفينة سنويًّا، منها كميات كبيرة من النفط الشديد الأهمية للصناعة الصينية، إذ يمر فى «مضيق ملقا» ما يقرب من ثلثى التجارة الصينية، و80٪ من وارداتها النفطية. ثالثًا- إحياء الجماعات الإرهابية تفكيك إيران أو إضعافها سيكون خطيرًا على مصالح الصين فى باكستان وأفغانستان، ويُطلق يد الجماعات الإرهابية بالقرب من حدود هاتين الدولتين، بما يعزز من نشاط الجماعات الإرهابية على حدود الصين. فالمعروف أن داعش فى أفغانستان تتركز- على نحو رئيس- قرب الحدود الصينية، ومن شأن حدوث فوضى فى إيران أن يعزز مساحة الفوضى المتاحة أمام تلك الجماعات الإرهابية، وهو ما سوف يشكل تحديًا غير مسبوق للخطة الصينية التى تسعى إلى تعزيز الاستقرار والسلام فى قلب القارة الآسيوية. رابعًا- خسارة حليف موثوق به أى مساس بالنظام الإيرانى سوف يشكل ضربة موجعة للصين؛ لأن إيران ظلت طوال العقود الثلاثة الماضية حليفًا موثوقًا به جدًّا للصين، خاصةً بعد توقيع طهرانوبكين فى 27 مارس (آذار) 2021 اتفاقية تعاون إستراتيجى شامل لمدة 25 عامًا، تهدف إلى تعزيز العلاقات الثنائية والاستثمارات المتبادلة فى مجالات مختلفة، مثل الطاقة، والنقل، والبنية التحتية. وتُقدر قيمة هذه الاتفاقية بنحو 400 مليار دولار. خامسًا- طريق مفتوح إلى الأراضى الصينية تأكيد إسرائيل والولاياتالمتحدة أن طائراتهما باتت تتمتع بحرية حركة فى الأجواء الإيرانية من الغرب إلى أقصى الشرق يعنى خطورة كبيرة على الأراضى الصينية؛ لأن هذا معناه أن الطائرات الأمريكية يمكن أن تقلع من شرق المتوسط وتصل إلى الأراضى الصينية دون أى اعتراض من الدفاعات الجوية؛ لأنه حينذاك يمكن للطائرات الأمريكية أن تتحرك بحرية من سوريا والعراق وإيرانوأفغانستان؛ ومن ثم الوصول إلى الأراضى الصينية دون أى عائق، أو دفاعات أرضية. سادسًا- نفط ضفتى الخليج الصين هى أكبر مستورد للنفط فى العالم بنحو 10 ملايين برميل يوميًّا، يأتى 90٪ منها من منطقة الخليج. ومن شأن عودة النفوذ الأمريكى على إيران- بأى صورة، سواء إضعاف النظام أو إسقاطه- أن تشكل تهديدًا لاستدامة توريد النفط الإيرانى إلى الصين. ومع استعداد الكونجرس لفرض عقوبات جديدة على النفط الروسى، يمكن أن يشكل هذا الأمر ورقة قوية بيد واشنطن فى صراعها الإستراتيجى مع بكين. تقديرات روسية أولًا- خسارة حليف ضد العقوبات شكلت إيران مع روسياوالصين وكوريا الشمالية «الرباعى» الرافض للهيمنة الأمريكية على العالم، ويتصدر هذا الرباعى مجموعة الدول التى ترفض النظام القائم على القواعد منذ عام 1945 بقيادة الولاياتالمتحدة، وفرض العقوبات خارج مجلس الأمن. كما أن إيران كانت حليفًا ثابتًا فى دعمها لروسيا بعد محاولة الغرب عزل موسكو وهزيمتها إستراتيجيًّا خلال سنوات الحرب فى أوكرانيا. ومن شأن إضعاف إيران، أو إسقاط نظامها، أو تفتيت جغرافيتها، أن يشكل خسارة كبيرة لروسيا، خاصةً بعد توقيع المعاهدة الإيرانية الروسية للشراكة الإستراتيجية الشاملة التى وقعها الرئيس الروسى فلاديمير بوتين ونظيره الإيرانى مسعود بزشكيان فى 17 يناير (كانون الثانى) بداية هذا العام، وهى معاهدة تهدف إلى توسيع التعاون الاقتصادى، وتخفيف تأثير العقوبات الأمريكية، وتعزيز الشراكات العسكرية والسياسية بين البلدين. ثانيًا- معادلات جديدة فى القوقاز وآسيا الوسطى إضعاف إيران يعنى عمليًّا إضعاف حليف قوى لروسيا فى جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، حيث تؤدى أى معادلة فيها ضعف طهران إلى خسارة أرمينيا حليفة إيران، التى فيها قطاع شعبى عريض يؤيد دعم العلاقة مع روسيا. وضعف إيران يعنى مكاسب كبيرة لأذربيجان التى توترت علاقاتها مع روسيا خلال الفترة الأخيرة، وفى الوقت نفسه دعمت باكو علاقاتها الإستراتيجية مع الاتحاد الأوروبى والولاياتالمتحدة. وإضعاف إيران أو انسحابها من الدور الذى تؤديه فى آسيا الوسطى سوف يفتح مساحة واسعة أمام حضور أمريكى وأوروبى غير مسبوق فى آسيا الوسطى. ثالثًا- قبلة الحياة للجماعات الإرهابية تضطلع إيران مع روسيا بدور مهم فى تجفيف منابع التنظيمات المتطرفة والظلامية فى جنوب القوقاز، التى تستهدف موسكووطهران معًا، بعد أن تأكدت روسيا من ارتباط وترابط الجماعات الإرهابية فى جنوب القوقاز مع التنظيمات المتشددة فى الجمهوريات الروسية شمال القوقاز، وغياب إيران عن دورها فى تلك المنطقة فيه خطر كبير على الأمن القومى الروسى. العارفون بحقيقة الأمور على ثقة كاملة بأن استهداف الولاياتالمتحدة وإسرائيل لإيران فى حرب ال12 يومًا كان فيه «استهداف غير مباشر» للصين وروسيا، وهو ما يؤكد أن الصراع مع إيران وحولها ليس كما كان فى سيناريو صدام حسين عندما أُضعِفَ عام 1991، أو عندما أُسقِطَ عام 2003. * باحث وخبير فى العلاقات الدولية ينشر بالتعاون مع CAES مركز الدراسات العربية الأوراسية