تعود أجواء الحرب الباردة مرة أخرى هذه الأيام مع استمرار الحملة العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، وتصعيدها فى الفترة الأخيرة، مع كثافة الدعم الغربى، لأن المعركة ليست بين موسكو وكييف، ولكن مرة أخرى بين روسياالشرقية والعالم الغربى المتمثل فى أوروبا وأمريكا، لكن على أرض أوكرانيا.. هذه المعركة لها جذور تعود للحرب العالمية الأولى، ثم الثانية. فبعد انهيار الإمبراطورية البريطانية أصبح العالم ثنائى القطبية بين الاتحاد السوفيتى، ممثل الكتلة الشرقية، والولاياتالمتحدة والكتلة الغربية، ومن الكتب القليلة التى تحدثت عن خلفيات هذه الحرب دراسة قدمها الدكتور السيد أمين شلبى، أستاذ العلوم السياسية، فى كتاب «من الحرب الباردة إلى البحث عن نظام دولى جديد». هذا الكتاب هو تكملة لما بدأه الكاتب فى كتابين سابقين بدارسة العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبروز الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفييتى كأقوى قوتين على المسرح الدولى. وأتت هذه الدراسة لتغطية الحقبة التى بدأ فيها هذا التراجع، ثم الانتكاس واستمرار تراكم الأزمات حتى بلغت علاقات القوتين مرحلة جديدة من الحرب الباردة، انتهت فيها كل صور الحذر، وهو الأمر الذى استمر بتجدد القيادة السوفيتية ومجىء جورباتشوف (مارس 1985)، والذى أنهى النظام السوفيتى، وتمت تصفية الاتحاد السوفيتى كقوة منافسة، وبالتالى تصفية المصدر الأساسى للحرب الباردة. يقسم الدكتور شلبى دراسته إلى جزأين، الأول يتناول سنوات التحول فى علاقات القطبين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتى للفترة بين (1980 1988)، ويتناول الثانى البحث فى طبيعة العلاقات فى النظام الدولى الجديد الذى تشكل بانهيار الاتحاد السوفيتى وسيطرة الولاياتالمتحدة على النظام الدولى كقطب منتصر. يبدأ المؤلف بدراسة فترة الحرب الباردة الجديدة (1979 1985)، فقد شكل عام 1979 بداية الحرب الباردة الجديدة، وذلك فى شهر ديسمبر عندما قام الاتحاد السوفيتى بغزو أفغانستان، واعتبرت الولاياتالمتحدة أن الخطوة السوفيتية من الخطورة بمكان، ذلك أن القوات السوفيتية أصبحت على مسافة 480 كيلو مترا من المحيط الهندى، وبالقرب من مضيق هرمز الذى يمر من خلاله معظم بترول العالم، وبالتالى فليس من المستغرب أن يورخ لذلك العام كبداية لفترة الحرب الباردة الجديدة، وعلى كل حال فقد أقدمت الولاياتالمتحدةالأمريكية على اتخاذ مجموعة من الإجراءات، ردا على الإجراء السوفيتى، تمثلت فى الإعلان عن حظر بيع القمح للاتحاد السوفيتى، إلغاء اشتراك الولاياتالمتحدة فى دورة الألعاب الأوليمبية فى موسكو عام 1980، كما طالب الرئيس الأمريكى الكونجرس بزيادة معدل الإنفاق العسكرى بنسبة 5٪ سنويا، ومطالبة الكونجرس بالعودة إلى نظام التجنيد الإجبارى لكل أمريكى يبلغ 19 سنة، الأمر الذى استجاب له الكونجرس مباشرة، ثم ينتقل المؤلف إلى حقبة الرئيس رونالد ريجان، تلك الحقبة التى أطلق عليها المؤلف التفاوض من مركز القوة كرد فعل على ما بدا أنه تدهور فى هيبة الولاياتالمتحدة فى العالم من خلال الغزو السوفيتى لأفغانستان واحتجاز الرهائن الأمريكيين فى طهران بعيد الثورة الإيرانية عام 1979 والعملية الأمريكية الفاشلة لإطلاق سراح الرهائن. ويتطرق المؤلف إلى مجموعة من الأحداث الهامة فى تلك الفترة، والتى أثرت على العلاقات بين القطبين، مثل الإعلان عن مبادرة الدفاع الاستراتيجى فى 23 مارس 1983، وإسقاط الاتحاد السوفيتى طائرة الخطوط الجوية الكورية فى 28 سبتمبر 1983، وفشل التوصل إلى اتفاق حول الصواريخ المتوسطة المدى فى أوروبا. تلك الأحداث التى كانت لها آثارها السلبية على العلاقات بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتى. الجزء الثانى من الكتاب يتطرق إلى موضوع النظام العالمى الجديد، ويتناول فى هذا الإطار أربعة موضوعات فرعية هى: نهاية التاريخ أم عودته، سياسات التسلح بعد الحرب الباردة، الأممالمتحدة: توقعات كبيرة، والقوى الدولية وعلاقاتها المتوقعة، وعن موضوع سياسات التسلح بعد الحرب الباردة يشير المؤلف إلى أنه رغم التوقعات التى سادت الأجواء وصاحبت انتهاء الحرب الباردة من توقع التراجع فى سياسات التسلح وبناء القوة العسكرية فى العالم، إلا أن هذا التوقع قد خاب، فقد كان من المنتظر أن تتحول ميزانية الإنفاق العسكرى فى الدول الكبرى والصغرى على السواء إلى ميزانية القطاعات المدنية التى أهملت مثل التعليم والصحة والإسكان والبيئة وغيرها من المجالات، غير أن التطورات أوضحت أن البناء العسكرى الضخم الناتج عن الحرب الباردة لا يزال قائما، فحتى فى نطاق اتفاقيات التسلح، ووفقا لاتفاقية مهمة هى اتفاقية خفض القوات التقليدية فى أوروبا، بقيت كميات ضخمة جدا من الأسلحة، وفى ذات الوقت فإن اتفاقية خفض الأسلحة الاستراتيجية START لا تزال عند مستويات أعلى من اتفاقية عام 1972 (اتفاقية سالت). أيضا أوضح وزير الطاقة الأمريكى فى خطاب أمام مجلس الشيوخ الأمريكى أن وزارته تخطط لإقامة مجمع حديث من المصانع والمولدات لإنتاج الأسلحة النووية، لكى تكون جاهزة للعمل حوالى عام 2015، ولكى تساهم فى تدعيم قوة الردع الأمريكى حتى منتصف القرن المقبل، ولا يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل إنه وفقا للدراسات المتخصصة فى هذا المجال فإن معظم نظم التسلح التقليدية والمتقدمة إنما تنتج باستثناء حالات قليلة فى الدول المتقدمة، خاصة فى الولاياتالمتحدة، الاتحاد السوفيتى، فرنسا، إنجلترا، ألمانياالغربية، الصين، تشيكوسلوفاكيا، هولندا، السويد، وتمثل صناعة السلاح فى تلك الدول أحد المصادر المهمة للدخل، فضلا عن أن أى تدمير أو تحويل لتلك الصناعات إلى صناعات مدنية سوف تكون له آثاره السلبية اقتصاديا واجتماعيا، وكذلك الناحية البيئية. ولذلك كان من الطبيعى أن تجاهد تلك الصناعات من أجل أن تظل قائمة وتنتج لأطول فترة ممكنة وتساعدها حكوماتها على ذلك، لقد أصبح من الطبيعى أن تتجه الدول المنتجة للسلاح إلى أن تنتج السلاح وتصدره إلى الدول النامية، أما عن الأممالمتحدة، فيذكر الكاتب أن مهام حفظ السلام ظلت من المهام التقليدية التى تولتها الأممالمتحدة بنجاح معقول فى عدد من مناطق الصراع على مدى الأربعين عاما الماضية، غير أن البحث عن دور أكثر فاعلية للمنظمة الدولية فى بناء السلم والأمن الدوليين جعل الأنظار تتجه إلى أن تنتقل المنظمة الدولية إلى مفهوم صنع السلام، ويؤكد على أهمية الحاجة إلى انتقال الأممالمتحدة من مفهوم حفظ السلام إلى صناعة وبناء السلام، وهذا كان موضع التقرير الذى قدمه السكرتير العام للأمم المتحدة، الدكتور بطرس غالى، بناء على ما طلبه منه اجتماع قمة الدول الأعضاء فى مجلس الأمن فى 31 يناير 1992، حيث صاغ التقرير وركز على أربعة مفاهيم وفقا لأولوياتها، وهى الدبلوماسية الوقائية، صنع السلام، حفظ السلام، وبناء السلام، حيث اعتبر تقرير الأمين العام أن الدبلوماسية الوقائية هى أكثر الأساليب الدبلوماسية فاعلية وتساند الدبلوماسية الوقائية مجموعة من الإجراءات هى: التبادل المنظم، تقصى الحقائق، التحذير المبكر، نشر قوات وقائية، مناطق منزوعة السلاح، ويشير المؤلف إلى الدور الذى قامت به الأممالمتحدة فى حالات مثل العراق، والصومال، ويوغسلافيا، وجهودها لإنهاء الصراع فى تلك المناطق من العالم.