في إحدى ليالي الخريف الهادئة، تحولت مكالمة هاتفية عادية إلى بداية مأساة اهتزت لها القلوب. تلقّت الصيدلية التي يعمل بها مينا عطا- مساعد صيدلي- الشاب البسيط المعروف بابتسامته وطيبته، اتصالًا من رجل مسنّ يحتاج مساعدة عاجلة لتغيير ضماداته الطبية. لم يكن من واجب مينا الذهاب بنفسه، لكنه أصرّ أن يكون هو من يلبى هذا النداء الإنسانى. ربما كان يشعر أن تلك الرحلة ستكون الأخيرة، أو ربما كان يمارس ما اعتاد عليه طوال حياته من خدمة الآخرين بكل حب وعطاء. الرحلة الأخيرة في مصعد متهالك وصل مينا إلى المبنى القديم في حى الدقى شمال الجيزة، حيث يسكن الرجل المسن- سودانى الجنسية. لم يستقبله حارس المبنى بتحذيرات: «الأسانسير قديم جدًا، وممكن يكون شغال والباب يفتح عادى، خلى بالك»، إذ كان مينا، مشغولًا بمساعدة الرجل، ولم يعرف بحال المصعد المتهالك، ولم يأخذ بالحسبان أن يتفقده. حكى العاملون بالصيدلية، لوالد «مينا»، أنه لم يكن من واجب ابنه الذهاب بنفسه، لكنه أصرّ أن يكون هو من يُلبّى هذا النداء، تدمع عين الأب الستينى، قائلًا: «كأنه كان يسير بقدميه إلى قدره المحتوم، ترك كل شىء خلفه وذهب بروح مليئة بالعطاء والإنسانية، دون أن يدرك أن تلك الرحلة ستكون الأخيرة في حياته». أنهى مينا عمله الإنساني مع الرجل المريض، وأعاد الطمأنينة إلى قلبه. وبينما كان يهمّ بمغادرة المكان، فتح باب المصعد ووضع قدمه، لكن الفراغ كان بانتظاره. المصعد لم يكن في الطابق، وبابه الذي يُفترض أن يحميه كان مفتوحًا. سقط مينا سقوطًا مروعًا من ارتفاع كبير، ليلقى مصرعه على الفور. «مينا كان رايح للموت برجيله» وسط صدمة الفقدان، جلس والد مينا في منزله البسيط، محاولًا استيعاب ما حدث. وجهه الملىء بالتجاعيد التي حفرتها الأيام حمل حزنًا عميقًا لم تستطع الكلمات وصفه. يقول الأب بصوت متقطع: «كنت نايم الساعة 3 الفجر، وصحونى جماعة أصحابنا. قالولى ابنك اتوفى. خدونى وروحنا على قسم الدقى، وسألت: إزاى؟، قالولى ابنك كان رايح يعالج الراجل السودانى وطلع بالأسانسير. بعدما خلّص فتح الباب، لكن الباب كان مفتوح والمصعد مش موجود. رجله خطت على الفاضى وسقط في الأرض». كانت هذه الكلمات كافية لتُظهر حجم الألم الذي يعانى منه هذا الرجل، الذي أنهكته الأيام وزادت أحماله بفقدان ابنه الأكبر. «مينا كان نور بيتنا. كان بيحب يساعد الكل، مش بس في الشغل. كان خادم في الكنيسة، بيزور ذوى الهمم في بيوتهم وبيفرّحهم. حتى لما عرف إن مرتبه على قده وما كانش بيقدر يساعدنى كتير، كان دايمًا يقوللى: ربنا موجود يا بابا». ظل الأب على حاله، يردد كلمات الرثاء: «ابنى راح وهو بيعمل خير.. راح وهو بيساعد الناس زى ما كان طول عمره. مينا كان ملاك في حياتنا، وكان حاسس إنه هيموت. قبل أيام من الحادث قال لأصحابه: (محدش يقول لأبوى وأمى، بس أنا هروح عند ربنا قريب). تخيلوا، ابنى عارف إنه هيموت ومطمن!. كنت أحلم أمشى في فرحه وأشوفه عريس، لكن بدل ما نمشى في زفته، مشينا في جنازته.. قدر الله وما شاء فعل. الحمد لله، ربنا أعطى وربنا أخذ، ونصبر على اللى كتبه لنا». «دموع لا تجف» في المنزل، كانت والدته المريضة بالسكرى في حالة من الإنكار التام. لم تستطع استيعاب أن ابنها، الذي كان يملأ البيت حياة، قد رحل فجأة. دموعها لا تتوقف، بينما تحاول بصعوبة الحديث: «مينا كان كل حاجة لينا، كان سندنا وضهرنا. كان يصحينى كل يوم يقوللى: «صباح الخير يا أمى، عايزة حاجة؟.. دلوقتى مين هيصحينى؟». إخوته الثلاثة يعيشون حالة من الانهيار التام. الأصغر بينهم كان يعتبر مينا مثله الأعلى، أما شقيقه الآخر فلم يترك غرفته منذ سماعه الخبر. يقول الأب بأسى: «إخواته منهارين، كل ما يسمعوا صوته في فيديو أو يشوفوا صوره، يعيطوا. البيت كله كأنه مات». «كان ملاكًا بيننا» لم يكن مينا محبوبًا فقط من عائلته، بل كان رمزًا للخير في كنيسته. خدم سنوات طويلة مع ذوى الاحتياجات الخاصة، وكان يزورهم في بيوتهم، يقدم لهم الدعم والفرح. اليوم، يبكيه كل من عرفه، من زملائه في الصيدلية إلى أصدقائه في الكنيسة. يروى أحدهم: «مينا قبل وفاته بأيام قال لنا إنه حاسس إنه هيموت قريب، وإنه عارف إنها هتبقى موتة صعبة. طلب منا ما نقولش لحد، بس إحساسه كان غريب. كأنه كان عارف إنه رايح السماء». قرارات النيابة العامة تحركت النيابة العامة فور وقوع الحادث، وفتحت تحقيقًا شاملًا في الواقعة. تم استدعاء المسؤولين عن صيانة المصعد وحارس العقار، الذي أكد أن المصعد كان قديمًا للغاية ويعمل بشكل غير آمن. المصعد كان يفتح أبوابه حتى عندما يكون في طابق مختلف، وهو ما تسبب في الكارثة. أمرت النيابة بفحص حالة المصعد وتحديد المسؤولين عن صيانته، لضمان محاسبة المتسببين في هذا الإهمال الجسيم الذي أودى بحياة شاب كل ذنبه أنه أراد مساعدة الآخرين. وداع حزين رغم الحزن الذي يملأ القلوب، يجد أهل مينا وأصدقاؤه بعض العزاء في إيمانهم بأنه الآن في مكان أفضل. يقول والده: «مينا كان حاسس إنه هيموت، بس كان مطمئن. كان دايمًا يقوللى: يا بابا، أهم حاجة إننا نرضى بأى حاجة ربنا يجيبها. دلوقتى أنا راضى، وأقول الحمد لله». ترك مينا خلفه إرثًا من الحب والعطاء لن يُنسى أبدًا. وبينما يظل صدى كلماته وذكراه في قلوب الجميع، يبقى رحيله دعوة للتفكير في أهمية مواجهة الإهمال الذي يسرق الأرواح البريئة.