5 دول لن تشهد انتخابات مجلس الشيوخ.. سوريا والسودان وإسرائيل أبرزهم    محافظ القليوبية يتابع أعمال النظافة ورفع الإشغالات بالخصوص    الرئيس الإيراني يبدأ زيارة رسمية إلى باكستان السبت لتعزيز التعاون الثنائي    ملك المغرب يعطي تعليماته من أجل إرسال مساعدة إنسانية عاجلة لفائدة الشعب الفلسطيني    الرئاسة الفلسطينية: مصر لم تقصر في دعم شعبنا.. والرئيس السيسي لم يتوان لحظة عن أي موقف نطلبه    فرنسا تطالب بوقف أنشطة "مؤسسة غزة الإنسانية" بسبب "شبهات تمويل غير مشروع"    القوات الأوكرانية خسرت 7.5 آلاف عسكري في تشاسوف يار    البرلمان اللبناني يصادق على قانوني إصلاح المصارف واستقلالية القضاء    تقرير: مانشستر يونايتد مهتم بضم دوناروما حارس مرمى باريس سان جيرمان    عدي الدباغ معروض على الزمالك.. وإدارة الكرة تدرس الموقف    خالد الغندور يوجه رسالة بشأن زيزو ورمضان صبحي    راديو كتالونيا: ميسي سيجدد عقده مع إنتر ميامي حتى 2028    أبرزهم آرنولد.. ريال مدريد يعزز صفوفه بعدة صفقات جديدة في صيف 2025    مصر تتأهل لنهائي بطولة العالم لناشئي وناشئات الإسكواش بعد اكتساح إنجلترا    جنوب سيناء تكرم 107 متفوقين في التعليم والرياضة وتؤكد دعمها للنوابغ والمنح الجامعية    تحقيقات موسعة مع متهم طعن زوجته داخل محكمة الدخيلة بسبب قضية خلع والنيابة تطلب التحريات    محافظ القاهرة يقود حملة لرفع الإشغالات بميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة    نيابة البحيرة تقرر عرض جثة طفلة توفيت فى عملية جراحية برشيد على الطب الشرعى    مراسل "الحياة اليوم": استمرار الاستعدادات الخاصة بحفل الهضبة عمرو دياب بالعلمين    مكتبة الإسكندرية تُطلق فعاليات مهرجان الصيف الدولي في دورته 22 الخميس المقبل    ضياء رشوان: تظاهرات "الحركة الإسلامية" بتل أبيب ضد مصر كشفت نواياهم    محسن جابر يشارك في فعاليات مهرجان جرش ال 39 ويشيد بحفاوة استقبال الوفد المصري    أسامة كمال عن المظاهرات ضد مصر فى تل أبيب: يُطلق عليهم "متآمر واهبل"    نائب محافظ سوهاج يُكرم حفظة القرآن من ذوي الهمم برحلات عمرة    أمين الفتوى يحذر من تخويف الأبناء ليقوموا الصلاة.. فيديو    ما كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر؟ أمين الفتوى يجيب    القولون العصبي- إليك مهدئاته الطبيعية    جامعة أسيوط تطلق فعاليات اليوم العلمي الأول لوحدة طب المسنين وأمراض الشيخوخة    «بطولة عبدالقادر!».. حقيقة عقد صفقة تبادلية بين الأهلي وبيراميدز    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    لتسهيل نقل الخبرات والمهارات بين العاملين.. جامعة بنها تفتتح فعاليات دورة إعداد المدربين    محقق الأهداف غير الرحيم.. تعرف على أكبر نقاط القوة والضعف ل برج الجدي    وزير العمل يُجري زيارة مفاجئة لمكتبي الضبعة والعلمين في مطروح (تفاصيل)    هيئة الدواء المصرية توقّع مذكرة تفاهم مع الوكالة الوطنية للمراقبة الصحية البرازيلية    قتل ابنه الصغير بمساعدة الكبير ومفاجآت في شهادة الأم والابنة.. تفاصيل أغرب حكم للجنايات المستأنفة ضد مزارع ونجله    الشيخ خالد الجندي: الحر الشديد فرصة لدخول الجنة (فيديو)    عالم بالأوقاف: الأب الذي يرفض الشرع ويُصر على قائمة المنقولات «آثم»    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    ليستوعب 190 سيارة سيرفيس.. الانتهاء من إنشاء مجمع مواقف كوم أمبو في أسوان    تعاون مصري - سعودي لتطوير وتحديث مركز أبحاث الجهد الفائق «EHVRC»    كبدك في خطر- إهمال علاج هذا المرض يصيبه بالأورام    محافظ سوهاج يشهد تكريم أوائل الشهادات والحاصلين على المراكز الأولى عالميا    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير البترول يبحث مع "السويدى إليكتريك" مستجدات مجمع الصناعات الفوسفاتية بالعين السخنة    هشام يكن: انضمام محمد إسماعيل للزمالك إضافة قوية    ضبط طفل قاد سيارة ميكروباص بالشرقية    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    انطلاق المرحلة الثانية لمنظومة التأمين الصحي الشامل من محافظة مطروح    SN أوتوموتيف تطلق السيارة ڤويا Free الفاخرة الجديدة في مصر.. أسعار ومواصفات    خبير علاقات دولية: دعوات التظاهر ضد مصر فى تل أبيب "عبث سياسي" يضر بالقضية الفلسطينية    بدء الدورة ال17 من الملتقى الدولي للتعليم العالي"اديوجيت 2025" الأحد المقبل    يديعوت أحرونوت: نتنياهو وعد بن غفير بتهجير الفلسطينيين من غزة في حال عدم التوصل لصفقة مع الفصائل الفلسطينية    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    فوضى في العرض الخاص لفيلم "روكي الغلابة".. والمنظم يتجاهل الصحفيين ويختار المواقع حسب أهوائه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إبراهيم أصلان يعود إلى «خلوته» (ملف خاص)

تسكننا الحياة، فتبدأ حكاياتنا، ونصنع تفاصيل تخصنا، فنتداخل، ونتباعد، ونتفانى، ونتناحر، حتى نسلم أنفسنا، دون أن ندري، إلى أنامل رقيقة، تكتبنا، وتنفخ فى أرواحنا، وتجعلنا أبطالا رغم هزيمتنا، أنامل ترسم حدودنا باتساع الحياة نفسها، وترصد مشاعرنا كشلال يستحق أن نقف وسط مياهه فخورين بذواتنا التى تلمس أرض بحيرته مثلما تلمس عيوننا زرقة السماء. وبعد تحققنا بين دفتى قصص تخصنا، يأتى الموت، كأديب ردىء يكتب نهاية من يحبون الحياة ويحبوننا، يعاقبهم على رقة أناملهم، ونضارة عيونهم، وبهجة ألوان كلماتهم، فيخطفهم، ويتركنا فرادى فى الحارات والأزقة والشوارع نبحث عن أنامل جديدة تمنحنا حق الحياة.
إسلام حامد
سكنت أنامل «إبراهيم أصلان» التى كانت تمنحنا الحياة، هدأ قلب الرجل الذى كتبنا بلغة أكبر وأعمق من كل لغات الفن، أدبا وصورة ورسما وسينما. اختزل «أصلان» الإبداع فى سطور قليلة لأنه رفض أدب «الترزي» الذى يفصل الحكاية على مقاس الشخصية، بل كان ينسج الشخصية من حكايتها، مثلما تعلم فى مدرسة السجاد أثناء مراهقته. عاش يبحث عن إجابة على أهم سؤال فى الحياة: لماذا ينعدم التواصل بين الناس؟ فتحول هو إلى حلقة الوصل بيننا، كأنه يستكمل عمله ك«بوسطجى» فى بداية حياته. كان يكتب قليلا، ويظهر أقل، ويرى الاحتفالات والمهرجانات والتكريمات على حقيقتها، مجرد «حقن تنفخ الأديب فيتحول إلى بدلة فى سهرة».
ذاق روعة الإحساس بالمكان، فكتب ما يعرف تفاصيله فقط، فخرجت أعماله القليلة تنبض بالحياة والصدق والبساطة، وكان رهانه الأكبر على ما تتركه حكاياته فى نفوسنا رغم أنه كان يسطر التفاصيل التى تستحق الذكر فقط، ويفتح منها أبواباً ودهاليز لكل خلفيات شخصيات حكاياته، كأنه تعمد أن نكملها معه بوجداننا وتجاربنا وأحيانا قسوتنا. وضعنا «أصلان» فى ساحة العجز أمام أعماله، فلم تفلح سينما فى تحويلها إلى صورة تماثلها، ولم يفلح نقد فى تصنيفها، ولم يسعفنا الخيال فى الابتعاد بها عن عالمه، فتلبستنا نزواتها وهفواتها وجنوحها وانكساراتها وبساطتها لصدقها الطاغى، وربما لكرهه لقراءة أدب الخيال العلمى.
قرأ «أصلان» فى بداياته الأساطير، والأدب المترجم والأدب المصرى والشعر، فلجأ إلى بيت الواقع، وكان كل فترة يعود لقراءة كتاب «نظرية التصوير» تأليف «ليوناردو دافنشى»، واهتم بالرسم والفن التشكيلى، فخرجت أعماله قطعا فنية أصلية، كأنها مرسومة بريشة فنانى «عصر النهضة»، لذلك لم يكتب سوى تسع مجموعات بين رواية ومجموعة قصصية، لكنها كانت تكفى لوضعه بين أساطير الأدب والواقع.
كان طائر «مالك الحزين» عندما ينحصر الماء عن المكان الذى يعيش فيه، ينتابه الحزن، ويطوى جناحيه على نفسه حتى يموت كمدا، أو يطير ويحاول الارتطام بأى جسم صلب لتنزف دماؤه وهو يعزف أجمل الألحان. هكذا تقول الأسطورة، لكن «عمنا أصلان»، ليس مالكنا الحزين، فهو لم يسلم أو يتباكى على انحصار مياه الكرامة لسنوات، ولم يرتطم بحواف نوافذ «التجارة» الأدبية كى ينتحر، بل قاوم الحزن بالكتابة المبهجه الحقيقية، فأصبح أكبر من أن نكتب عنه بضع كلمات فى صفحة، ولا يسعنا سوى أن نقول له بعد أن عاد إلى «خلوته»: «عم مساء أيها الصقر المجنح.«
مختصر حياة
تاريخ الميلاد: 3/ 3/ 1935 - طنطا - محافظة الغربية
عاش فى شارع «فضل الله عثمان» بحى إمبابة ثم انتقل إلى الوراق وبعدها إلى المقطم
بدأ الكتابة والنشر منذ العام 1965.
أعدت مجلة «جاليرى 68» ملفاً خاصاً عنه عام 1969 بعد نشر مجموعة قصصية له فى مجلة «المجلة» وقبل نشر أول، أعماله الأدبية «بحيرة المساء» عام 1971.
عمل بوسطجيا بهيئة البريد
انتدب للعمل نائباً لرئيس تحرير سلسلة «فصول» (1987 – 1995)
رئيساً لتحرير سلسلة (آفاق) التى تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة (1997 – 1999)
عمل مسؤولاً عن القسم الثقافى بجريدة الحياة اللندنية (مكتب القاهرة) (1992 – 2012)
تولى رئاسة لجنة اختيار الأعمال التى تصدر عن مكتبة الأسرة بعد الثورة حتى رحيله
الجوائز
جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 2003م - 2004م.
جائزة كفافيس الدولية عام 2005م.
جائزة ساويرس فى الرواية عن «حكايات من فضل الله عثمان» عام 2006م.
رشح لجائزة النيل فى الآداب عام 2012 (لم تعلن بعد.(
الأعمال الروائية
- بحيرة المساء» 1971 قصص ترجمت إلى الإنجليزية
- «مالك الحزين» رواية 1983 ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والصربية
- «يوسف والرداء» قصص 1987
- «وردية ليل» رواية 1991 ترجمت إلى الفرنسية
-«عصافير النيل» رواية 1999 ترجمت إلى الإنجليزية والألمانية والإيطالية
- «خلوة الغلبان» قصص 2003
- «حكايات من فضل الله عثمان» قصص 2003
- «شىء من هذا القبيل» قصص 2007
- «حجرتان وصالة» قصص 2010 جار ترجمتها إلى الفرنسية
توصية نجيب محفوظ
فى نفس العام الذى أصدر فيه «إبراهيم أصلان» أول أعماله المطبوعة، المجموعة القصصية «بحيرة المساء» 1971، كان الكاتب الشاب، وقتها، يحتاج خطاب توصية للحصول على «منحة تفرغ للكتابة». ولم يكن هناك أفضل من الكاتب الكبير نجيب محفوظ لكتابة هذا الخطاب. كان أصلان وقتها شابا صغيرا ينشر أعماله فى مجلة «المجلة» التى كان يرأس تحريرها الأديب الراحل يحيى حقى، ولكن محفوظ رأى فيه ما جعله يكتب الخطاب التالى:
«الأستاذة الفاضلة مديرة إدارة التفرغ.. تحية طيبة وبعد. فأود أن أزكى الأخ إبراهيم أصلان فى طلب تفرغه، مؤمنا كل الإيمان بأن تفرغه سيكون لخير الأدب الجديد أكثر منه لشخصه. وهو فنان نابه، له مؤلفات مطبوعة أو منشورة فى الصحف تقطع بموهبة جديدة فذة ومستقبل فريد، ولمثله نشأ مشروع التفرغ، وعند أمثاله يثمر ويزدهر. فأرجو مخلصا أن ينال حقه وأن يكرم بما هو أهله. وتقبلى فائق التحية. المخلص نجيب محفوظ 12/9/1971.«
الرواية الأخيرة
استقر إبراهيم أصلان على «الصاحبان» عنوانا لروايته الأخيرة، التى نشرت منها 38 مشهدا فى جريدة «الأهرام» تحت عنوان «صديق قديم جدا». تستعرض الرواية تفاصيل الأصدقاء والعلاقات الإنسانية القديمة والمشاهد الحميمية، ليكمل «أصلان» ما بدأه فى «خلوة الغلبان»، وكان الأديب الراحل ينوى جمع هذه المشاهد فى رواية، فالرواية تحمل مساحة من الحرية أكبر مما تحتمله الجريدة، فضلا عن مشاهد أخرى لم يجر نشرها.
لحظات حياتية«متكررة»
أحمد الهواري
«فضل الله عثمان» اسم شارع تحول إلى كائن حى على يد الكاتب الراحل إبراهيم أصلان، كائن حى يرتدى ثيابا بسيطة بساطة الكلمات البعيدة عن التعقيد اللغوى، له شجرتان فقط، واحدة بجوار المجلس المحلى والأخرى مقطوعة يابسة فى أحد الشوارع الجانبية المتفرعة من الشارع الرئيسى. تجرى فى عروقه دماء «المجارى» والمياة الآسنة المتراكمة فى بعض الأوقات، وفى أوقات أخرى ممهد بالتراب الذى رش عليه الماء، حتى تثبت حباته مكانها لتحفظ حكايات الجيران من الضياع فى الهواء.
لكل حجر وشخص فى «فضل الله عثمان» حكاية، جمع أصلان بعضها فى «حكايات من فضل الله عثمان» وترك الباقى فى مكانه لعل هناك من يكمل يوما كتابة الحكايات البسيطة بساطة الفقراء دون تعقيد فى الدراما الخالية من العقد والحلول، لكن النابضة بالموت والحياة والتفاصيل الصغيرة الملقاة خلف كل حجر وتحت قدم كل طفل يجرى فى الأزقة، موزعا وقته على ترابها حتى يتاح لأمه أن تقوم بمهام منزلها الصغير، أو مهام النميمة النسائية، حتى يختلط الأمر فلا تعرف هل كان المقصود «حكايات من فضل الله عثمان» أم أنها «حكايات فضل الله عثمان».
بلغة بسيطة سجل إبراهيم أصلان مشاهد صغيرة من الحياة التى عاشها فى الشارع، مشاهد لا يصر فيها الكاتب على بداية أو نهاية، يصر فقط على نقل التفاصيل كما هى بكامل حيويتها اللحظية وتكرارها على مدار السنين، فالأم فى «مشوار» هى نفسها تلك الأم الفقيرة التى يمكنك أن تراها فى أى مكان شعبى، لا تمتلك من قوت يومها سوى ثمن «شقة فول» تعطيها لصغيرها الذى تمضى صباحها فى ضربه على فخذه العارى وتقبيله على شفتيه وترديد الكلمات الصغيرة التى يحاول أن يتعلمها. وفى «مشهد جانبى» كانت صفية «تأخذ حفنة أرز من أصبع محشى مفكوك تنفخ فيها وتدسها باردة فى فم الولد عمارة» مثلما تفعل كل أمهات المناطق المشابهة، حكاية ليس المهم فيها وجود المشكلة ولكن الأهم تفاصيل الحياة.
تمتلئ حكايات فضل الله عثمان بالتفاصيل التى يسجلها الكاتب بدون ملل، بدون أن يعتمد على معرفة القارئ بما يكتب. فالأستاذ سيد فى «مونديال» كان «يتناول رغيف سن مقبباً من كيس البلاستيك المعلق وينقره من أعلى بطرف أصبعه ويعمل فيه ثقبا، عبر هذا الثقب يصوب كمية من الماء داخل الرغيف ويرجه بقوة حتى يبلل جوفه ثم يقلبه ويفرغه. يلاحظ أن الرغيف شرب معظم الماء كالعادة ولم ينزل من ثقبه سوى القليل. يقلبه تحت الحنفية بسرعة ليبلله أيضا من الخارج، يضعه فى صحن آخر ويحمل الصحنين إلى المنضدة المنخفضة أمام التليفزيون». مثله مثل الكثيرين الذين فعلوا ذلك ولكنه هنا لم يكن شخصا آخر بين الأشخاص المعتادين الذين يمكن حذف تفاصيلهم لتكرارها، كان هو الحكاية وكان يجب أن نرى كل ما يفعل وما يرى حتى لو كان ينظر ناحية باب المرحاض الذى «تخرج منه الحاجة رقية وهى تسحب ثيابها إلى تحت».
إلى جوار شخصيات الحكايات البسيطة المعتادة، كانت هناك شخصيات مختلفة ونادرة فى المجموعة ندرة وجودها فى الشارع نفسه هناك الرجل الذى جلس بنظافة جلده وجلبابه ليبيع تراث أهله الغابر فى «الرجل والأشياء». وفى حكاية «السوق» كان هناك ذلك الذى يبحث فى نهار رمضان عن مكان يشرب فيه سيجارة قائلا «واصلت المشى وأنا أفكر فى تلك المقاهى التى أغلقت أبوابها على غير عاداتها فى ذلك الوقت من كل عام». وفى «قطرات من الليمون» كان هناك من يرفض الحميمية المطلقة للمكان ويهفو إلى الابتعاد عن الكل المتلاحم فى المصائب، فيصف حال نفسه بعد أن سمع الصرخة التى أعلنت موت الحانوتى قائلا: «استدرت ومشيت مبتعدا وأنا أنظر تحت قدمى لكى يظن أى واحد يرانى من الجيران أننى لم أسمع الصرخة ولم أذهب إلى هناك لأننى مشغول بالبحث عن شىء ضاع منى فى فضل الله عثمان».
لا يكتفى أطفال «فضل الله عثمان» بقضاء وقتهم فى اللعب فى الشوارع المتربة أو فى محاولة الإمساك بجلباب الأم المسرعة، فبعد أن مات أحمد، فى «سبيل للصغار»، على أثر سقوطه من أعلى سطح أحد البيوت، حيث كان يلعب بطائرته الورقية، كان الأطفال «يحفرون حفرة عميقة فى الجانب الأيمن من مدخل بيت الولد أحمد ويغرسون ماسورة قوية بها مجموعة من أسياخ الحديد التى امتدت مثل أغصان ينتهى كل منها بحلقة وضع فيها كل ولد قلة من فخار أحمر يقطر منها الماء، وكانت الشجرة الحديدية مطلية كلها باللون البرتقالى المضاد للصدأ».
بقدر بساطة الحكايات كانت بساطة العناوين، شجرة، شغف، هروب، صمت، شتاء، رجل، ليل، حوار، سفر، خيط. وبقدر كثرة التفاصيل اليومية تمتلئ الذاكرة لتظهر حالة من الشجن أنهى بها الراحل مجموعة حكاياته فى «المستحمة» كاتبا:
انقضى ما انقضى،
وظل باقيا فى البال،
حجرة خالية إلا من عرى جميل،
ومرآة منطفئة،
ومسحة من ثدى،
وبخار.
«إمبابة».. مدينة الذكريات والدخان
محمد رياض
»أيتها السيدة الحزينة الفاجرة.
أنت سكران.
كلا أنا مجروح.
تعرفه البيوت القديمة والحوارى، الشوارع الضيقة، والمقاهى، والبارات، تتذكر المدينة وجهه جيدا، هو ساعى البريد الرسمى لمنطقة «جاردن سيتى»، الحاصل على الابتدائية القديمة، المولع بالكتب وبأشجار الظل، الذى لم يترك بناية لم يدخلها، ولا شقة لم يطرق بابها، الصموت، الذى فتح عينيه على اتساعهما لينهل من الألوان والأشكال والصور، قبل أن يغيب للأبد، وعيناه مفتوحتان على العالم.
»أصلان» أكثر الكتاب الذين اقتربوا من المدينة محبة وتعاطفا وحميمية، رغم المرارة التى كانت تترسب فى أعماقه عندما تنعكس صورتها فى روحه المهيضة، إمبابة، مدينة الطفولة، والأحلام، والرغبات الصغيرة، والانكسارات، والدموع، والدم، مدينة المقاومة المزدهرة بطعم الخمر والمرارة.
كتابة «أصلان» مترعة بشحنات قوية من الحنين، حنين دائب إلى المدينة القديمة، إلى عالم المشاعر الأولى، وذكريات الشبق، والرغبات المقموعة، والفقد، والأحلام، والتأملات، الأصدقاء الذين ذابوا فى الموت، قبل أن يموتوا فعلا، البيوت التى أكلتها الحداثة، وتوجع النهر الذى غاب للأبد، ولم يعد قادرا حتى على تطهير الجراح، إنه الحنين للمدينة الأولى والنهائية، المدينة الدائمة مدى العمر، كان «أصلان» يتلمس، بهدوء وشغف، روحها المثقلة بأعباء التاريخ والجغرافيا والتقاليد والهوية، وقلبها المترع بالفرح، ورائحة الدخان، والبيرة، والأماسى الدافئة.
إمبابة المدينة التى لا تحدها حدود، وشوارعها الضيقة تضج بآلاف الحكايا، كل شىء فيها تغير الآن تحت القبضة الصلبة للسلطة، وطموح رأس المال المتواطئ على الماضى، والمتواطئ على الحاضر، لم تعد المدينة كما كانت، وحتى نحن أصبحنا بشرا غيرنا، نحمل نفس الملامح، ومستقبلنا لم يعد مدرجا على أجندة الوطن.
«لماذا لا تكتب، وتقول؟. لأنك لم تعد أنت؟. ولأن النهر لم يعد هو النهر؟».. يتساءل بطل «مالك الحزين» المثقف الذى لا يجد سبيلا واحدا للكتابة وسط عذاباته الرهيبة، يتألم، فتهطل الأمطار لتغسل البيوت والأشجار والشوارع، ولا شىء يغسل الروح، كان يجمع فوارغ القنابل المسيلة للدموع فى مظاهرات 1977، ثم خرج من المعركة مصابا، لكن جرح المدينة كان عميقا بما يكفى، لذا ارتمى على حافة النهر، لكن نهر المدينة، الشاهد الأول على عذابه، يبقى صامتا وقاتما ومقبضا، يكشف له عن مواجع جديدة فى الضفة الأخرى، كان العالم كله يتغير ويتداعى داخل عينيه الواهنتين، وكان المستقبل الغامض يرتفع فى المقابل فى لحظة مكاشفة رهيبة: «نظر إلى الشاطئ الآخر الذى أكلته جسور المسلح، لتقام الكازينوهات والملاهى، ورفع وجهه إلى الأوناش الحديد العملاقة التى تطل عليه من سقف الدنيا، وتحاصره أياديها الطويلة، الممدودة فى قلب الليل».
يكتب «أصلان» كثيرا عن مدينة الصبا، «عن النهر، والأولاد، والغاضبين وهم يأخذون بثأرهم من فاترينات العرض، وأشجار الطريق، وإعلانات البضائع والأفلام»، يقبض دائما على الماضى بأصابعه النحيلة، ولا يترك شيئا لطواحين الأسى والنسيان، يكتب عن كفاح المدينة ضد التزييف والطمس والتشويه، عن أمراضها، وأهاليها الذين يعبرون نهر الحياة، فلا يتركون وراءهم سوى حكايات، ورماد الذكريات الكثير يغطى دروبها الضيقة.
انطباعات صغيرة عن كاتب كبير
إسلام عبد الوهاب
مكالمة هاتفية قصيرة، اختصرت عمرا بأكمله، العم «إبراهيم أصلان» توفى، الغلبان رحل إلى خلوته، والآن بعد أن عرفته.. أكتب، مشاق العمل الصحفى أن تكتب عن شىء لم تره، ورجل عرفته أباً، وأحاول أن أكتب وأجده بجوارى يبتسم، ويعلق على تلعثمى وكتاباتى البطيئة ويقول لى «أنا بكتب على الكمبيوتر أسرع منك».
أشياء كثيرة ترسمها فى مخيلتك وتجدها فى الواقع مخالفة تماما، العم «أصلان» كان كما قرأته، لم أشعر يوماً أنى أجلس بين يد أديب ذى قامة كبيرة، الوالد دائما أمام أولاده هو أب فقط، وكان كذلك، لم يمارس يوماً الحكمة والنصيحة، بل إنه كان حين يطلب أحد منه النصيحة كان يخجل أن يقولها بشكل مباشر، فكان يدسها بين الكلمات، يجلس صامتاً ولا يتكلم كثيراً، ينشغل بمراقبة أصدقائه وهم يلعبون الطاولة، ويبتسم.
حين علمت بخبر ترجمة مجموعته الأخيرة «حجرتان وصالة» إلى الفرنسية اتصلت به لأهنئه، فرد قائلاً «الأهم من الترجمة إن إللى إنت بتتوجه ليهم بالكتابة يقرأوها» وأضاف «الترجمة مش معناها أبدا إن العمل كويس ولا لأ». ورغم أن أغلب أعماله الأدبية ترجمت لكنه لم يكن يبالى، وحين سألته عن الشهرة العالمية قال «إيه فايدة إنك تكون معروفاً خارجيا وجارك فى العمارة ما يعرفش عنك حاجة».
اعتاد العم «أصلان» طوال حياته أن يقص شعره بنفسه، فقد كان يرفض فكرة أن يجلس على الكرسى وشخص يتلاعب بشعره، فكان إذا طال شعره، يمسك أطرافه بقبضة يده، وباليد الأخرى يقص الزائد.
أحب التدخين لكن الأطباء منعوه، وكان إذا جلس معنا على المقهى، ويجد أحدنا أشعل سيجارة، ينظر إلى علبة السجائر ويصمت وكأنها يناديها فى باله، ويمنعه خجله الشديد أن يطلب سيجارة، ويمنعنا خوفنا أن نمنحه واحدة، لكن سرعان ما ينفد صبره ويكسر خجله، ويقول بطفولة «ما تجيبوا سيجارة.. إنتوا بتشربوا وسايبنى»، وكان يستغل وجوده فى التاكسى مع السائق وحده ليأخذ سيجارة، وحين رأيناه ذات يوم، قال «سيجارة واحدة مش هتعمل حاجة» وحين عمل مؤخراً رئيس لجنة اختيار أعمال مكتبة الأسرة، كانت الاجتماعات تمتلئ بالمدخنين، ورأى العم «أصلان» أنه من الصعب أن يأخذ سجائر من أحدهم كل يوم فاشترى علبة سجائر وأخفاها فى ملابسه خوفاً من أن يعلم أحد من أسرته، لكنه سرعان ما عدل عن الفكرة لأنه وجد نفسه يقع فى شركها، فتوقف عن الشراء.
دق قلبه بعنف حين وجد ابنه الأكبر «هشام» يريد أن يكتب ويأخذ رأيه، فقد كان ولده الثانى الأصغر «شادى» أخذ هذه الخطوة ثم توقف، لكن «هشام» استمر فى الكتابة الصحفية، واستحى الابن أن يكتب إبداعاً واسم والده مرتبط به، وحين كتب «هشام» أخيرا كتابة أدبية، نشرها فى موقع «كيكا» الإلكترونى، وشاهدها العم أصلان قبل وفاته بثلاثة أيام، لتكون فرحته الأخيرة.
كان يعمل فى شبابه بوسطجياً، وظل طوال حياته بوسطجياً، يكتب ما ننتظره ولا نعتقد أننا سنجده، تفاصيل التفاصيل للحياة اليومية المعتادة، يلقيها علينا ويمضى خفيفاً كما جاء دون أن نشعر، حتى وهو يرحل كان خفيفا ذهب إلى المستشفى بعد أن أهمل دواء القلب، لأنه أصيب بأنفلونزا فأعطى الأولوية لدوائها، ومكث قرابة الأسبوع وخرج من المستشفى ليمكث ثلاثة أيام فى بيته، ثم يرحل بعد أن خدعنا كعادته.
بعد أن رقد على سريره فى المستشفى، رشحته أكاديمية الفنون لنيل جائزة النيل فى الآداب لعام 2012، كعادة التكريم الحكومى الذى يأتى متأخراً، واستقبل العم «أصلان» الخبر كأى خبر عادى، لم يكن ينتظرها، وكانت تنتظره لتفخر به.
وفى ليلة رأس السنة اتصلت به:
■ كل سنة وإنت طيب يا عم «إبراهيم».
■ ربنا يجعلها سنة سعيدة عليكم
■ هتبقى سعيدة طول ما إنت معانا
■ إن شاء الله
دعوت له بالبقاء بيننا، ودعا لنا بالسعادة، وخاب ظننا معاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.