«إبراهيم أصلان» قيل عنه إنه بين الكتاب «أمة بمفرده»، وهذا صحيح مائة فى المائة، بل من يقرأ قصصه ورواياته خاصة رواية «عصافير النيل» يكتشف أنها «عدة روايات» بمفردها، ومن رحمها خرجت روايات وأعمال أخرى منها روايته «وردية ليل» والتى كتبها أثناء انشغاله برواية العصافير، ورغم ذلك لم تأخذ حقها من النقد والدراسة مثل روايته الرائعة «مالك الحزين». ولعل المخرج الكبير مجدى أحمد على قد أعادها مرة أخرى إلى الأذهان بعد ظهور فيلمه الجديد والذى يحمل نفس العنوان «عصافير النيل» وذلك على رجاء أن يبلغ فيلمه من النجاح ما حققه فيلم داوود عبدالسيد «الكيت كات» المأخوذ عن رواية «مالك الحزين». وبقدر ما تثير رواية «عصافير النيل» التى أعادت دار الشروق طبعها الشجون والحب والتساؤل والحيرة، يثير أصلان نفسه ما تطرحه رواياته، فشخصه يخفى الحدود الفاصلة بين البساطة والعبقرية، طارحا عدة أسئلة أهمها: كيف يدخل كلامه إلى القلب والعقل؟!، وقد سمعت أكثر من مرة، وأصدق ذلك لأنه حدث معى، أن القارئ حين ينتهى من إحدى روايات أصلان لا يريد أن يتركها تضيع منه، وكأنها كنز، فيبدأ فى احتضانها وتقبيلها إلى أن تهدأ حالته العاطفية فيحتفظ بها فى أفضل مكان شأن الأعمال الإبداعية الكبرى. قبل أن يبدأ أصلان روايته كتب أن الإهداء إلى ابنيه (هشام وشادى)؛ لأنه رأى أن الرواية تتضمن شيئا من تاريخهما العائلى البعيد الذى لا يعرفان عنه شيئا، ولن يعرفا إلا من خلال الحكايات والروايات. ولهذه الرواية والتى تعتبر تنويعة من سيرته الذاتية وهو العاشق لهذا النوع من الكتابة بل والقراءة أيضا قصة عند أصلان إذ قال ردا على سؤال: إنه أخذ 20 عاما فى كتابتها»، كنت أهرب منها غالبا.. فأنا عادة ما أهرب من الكتابة بتمزيق ما أكتب، وبعد أن تعلمت الكتابة على الكمبيوتر واستخدمته فى كتابة هذه الرواية بالذات، اكتشفت أنه سهّل على مهمتى أكثر.. أقصد مهمة المسح والإلغاء وليس مهمة الكتابة. فالكمبيوتر له قدرة فائقة على مسح أى شىء والإزالة فى ثانية واحدة»، وبذلك تكون رواية «عصافير النيل» هى أولى رواياته الإلكترونية. زمن الرواية ما بين زمنين تدور «عصافير النيل»: زمن الجدة التى انتبهت من غفوتها، وهى أصلا فاقدة الإحساس بحاضرها، وتظل حية فيما تتعاقب عليها أربعة أجيال «استدارت دلال، وفتحت الباب». خرجت إلى فضل الله عثمان، ومرت على شباك عمتها نرجس المترب المقفول، ورفع الولد عبدالله وجهه وقال: «عمتى نرجس ماتت». جذبته من يده، قال: «وعبدالرحيم مات، وهانم مش عارفة». «يا واد اسكت». «دى ما بتفهمش حاجة خالص» « يا نهارك أسود يا عبدالله، اوعى يا واد تتكلم معاها فى حاجة زى دى» « مش عبدالرحيم وعمتى نرجس يبقوا ولادها؟» «أيوه ولادها» «خلاص. أنا ما ليش دعوة» اشترت الفول، وأثناء العودة، قالت: «مش عبدالرحيم، يبقى أبوك؟» «ما أنا عارف» «يبقى مالكش دعوة إزاى؟» «مش هو اللى راح المستشفى، ومات؟». أما الزمن الثانى فهو المستقبل البشع أو القبيح الذى يمثله البطل وهو الحفيد عبدالله والبشر من حوله بالطبع. فى زمن الجدة يبدو الموت مرادفا للحياة، والعكس يحدث لدى زمن البطل إذ يصبح حاضره الحقيقى الواقعى موت للأحلام وللحياة نفسها، ويقف شامخا خلف زمنى الرواية شارع فضل الله عثمان مسرح الرواية والذى سبق أن كتب عنه أصلان كتابات سردية حملت عنوان «حكايات من فضل الله عثمان». ويحمل الزمان مفارقات إنسانية عظيمة تحدث لنا باستمرار، ولكن فى رواية أصلان تحدث لعائلة تعيش فى منطقة إمبابة الشعبية فى الثمانينيات من القرن الماضى حين يأتى شاب من الريف للعيش مع شقيقته وزوجها لحصوله على وظيفة ساعى بريد فى القاهرة. وبمجىء هذا الشاب يبدأ السرد يتدفق ويتناوب على شخوص الرواية. بطلها يصاب بمرض خطير وكذلك حبيبته مما يثير شجنهما ويعيدهما إلى زمان مضى فى حالة من الاستذكار الرائع، ثم ينتقل السرد من الماضى إلى الحاضر والعكس، فيتذكران معا بداية تعرفهما. يذهب الشاب الريفى لصيد السمك فبدلا من أن تصطاد صنارته سمكة، تصطاد عصفورا فلا يملك سوى أن يبدأ فى الجرى إلى أن يصل لقسم شرطة إمبابة فيتم اعتقاله والاعتداء عليه، وكأنه قدره الحتمى فلا سبيل للحرية أو التمتع بالحياة. بعد ذلك يتعرف على عشيقته، فيصور السرد كيفية انتهاء العلاقة بينهما عندما ترفض الزواج منه بعد رفضه الرد على سؤال وجودى ومهم بالنسبة لها وهو «إذا ما كان يؤمن بأن سمعتها سيئة كما يقول أهالى المنطقة أم أنها إنسانة حقيقية تبحث عن حياة جديدة فى القاهرة بعد طلاقها من زوجها فى مدينة بورسعيد؟». وعندما لم يجب على سؤالها بشكل مباشر اعتبرت ذلك إدانة فهجرت الحى بعد رفضها الزواج منه. ولا تنتهى الرواية بذلك بل تبدأ متاهة أبطالها فى العالم القاسى الواسع. الولع بالعصافير ويؤكد عنوان هذه الرواية ولع أصلان بالطيور فضلا عن ولعه الشديد بالزهور فقد وضع لروايته الأشهر عنوان «مالك الحزين» (Snowy Egret) أو البلشون الأبيض الصغير وهو نوع من الطيور يشبه طائر أبو قردان وهو طائر نهرى يتغذى على الأسماك والضفادع والحشرات والفئران والأفاعى. وهو شره ، يأكل أربعة أضعاف وزنه من الطعام!, وله سيقان طويلة ويمتاز بلون ريشه الأبيض. ويعيش هذا الطائر فى المستنفعات التى ينمو فيها القصب الطويل. وعندما يقف هذا الطائر بين القصب، ويمد رقبته النحيفة، تصبح رؤيته صعبة، لأنه يشبه القصب. وقد حاولت البحث عما يدل على عصافير النيل، ووجدت أن هناك «عصفور نيل» يهاجم سنابل القمح ابتداء من الطور اللبنى فيمتص المادة الغذائية أو ينتزع الحبوب من أبراجها تاركا سنبلة بيضاء جافة مخربة منكوتة فارغة من الحبوب مما يؤدى إلى خسائر كبيرة فى المحصول. ولعل ما يفعله هذا العصفور هو ما جعل أصلان يضع عنوانا كهذا لروايته الممزوجة بالشعر. والرواية شأن كل الأعمال الإبداعية تحتمل أكثر من تأويل لما يقصده أصلان بعصافير النيل، فهل المقصود بالعصافير الشخوص الضعيفة الفقيرة القاطنة فى مناطق عشوائية تحلم إحداها بشراء طبق قيشانى واسع للأرز، وسلطانية شوربة كبيرة أو آخر همه إرسال شكاواه إلى المسئولين بعد إحالته للمعاش قبل 5 سنوات مما توقع. و«عصافير النيل» فى مجملها محاولة لفهم الوجود الإنسانى، مغلفة بأسلوب شعرى، منطلقة من الريف إلى الحضر، ترصد أخطاء البشر، وتغوص فى اليوميات العادية لأناس بسطاء، وترتكز فى مجملها على المزج بين الحاضر والمستقبل. ختاما أقول للعم إبراهيم أصلان: ليس هناك تلميذ أفضل من معلمه، ولا يستطيع تلميذ أن يكتب عن عظمة أستاذه كما يحسها.