بمناسبة العام الثقافى المصرى اليونانى (2021 )، أصدرت هيئة قصور الثقافة مجموعة من أمهات كتب الفلسفة والفكر اليونانى؛ ومنها كتاب «جمهورية أفلاطون» ترجمة الدكتور فؤاد زكريا. في التقديم الذي كتبه الشاعر جرجس شكرى مدير عام النشر بالهيئة؛ والمشرف على مجموعة الإصدارت؛ تحدث عن الشعب اليونانى الذي طعامه الشعر والفلسفة؛ وطرح السؤال: هل نستطيع أن نتصور الحضارة الإنسانية بدون حضارة مصر القديمة واليونان؟. ما يثير الدهشة أن من يقرأ هذا الكتاب سيصعب عليه أن يتصور أو يستدعى إلى ذهنه أفلاطون عملاق الفكر اليونانى؛ دون أن يتذكر فؤاد زكريا أستاذ الفلسفة والمفكر المصرى الذي اشتبك معه على هذا النحو الفريد. ينقسم الكتاب إلى نصفين تقريبا الأول هو عرض ودراسة تحليلية نقدية لسيرة ولكتاب أفلاطون الأشهر أو بالأحرى محاورته التي تحمل اسم «الجمهورية» مع تعريف واسع باتجاهات شراح المحاورة ومفسريها والذين اشتبكوا معها من الفلاسفة والمفكرين على مدار القرون وحتى الآن؛ وتقصٍّ دقيق للخلفية الاجتماعية والعائلية والسياسية التي أنتجت في النهاية أفلاطون وفلسفته السياسية، والنصف الثانى من الكتاب هو المحاورة ذاتها بفصولها العشرة والتى سنشير إليها لاحقا. دراسة الدكتور فؤاد زكريا عمل عجيب فهى بمثابة نقد فكرى يقظ وحاد لأفلاطون؛ ولكنها تنطوى أيضا على تقدير متين لقيمته. الدراسة بحق جمهورية أخرى تتنفس وتحيا بنهجها المختلف جنبا إلى جنب مع جمهورية أفلاطون. عاش أفلاطون في عصر انطفأ فيه بريق انتصار اليونان على الفرس، وتدهورت الدولة وصعدت أسهم خصمها اسبرطة الحربجية؛ بل هزمت أثينا الديمقراطية؛ أمام عينى أفلاطون وكان عمره 23 عاما؛ ولأن كل مفكر كبير هو ابن أزمة كبرى في عصره؛ جاء جوهر نظريته السياسية مؤكدا أن حكم الصفوة أفضل من الحكم الديمقراطى؛ وأن المساواة فيها مقتل الدولة؛ ومن حق الحاكم أن يعامل المحكوم كما يتعامل السيد مع العبدويلزم وجود مسافة بينهما مثل المسافة التي تفصل الرأس (الفكر عند أفلاطون وهو من شأن الطبقة العليا فقط) عن الجسد، أي الجماهير؛ كما تفعل الرقبة. غلاف الكتاب يشير زكريا إلى الإشكالية الكبرى في التعامل مع نصوص عباقرة القرون الغابرة؛ وهى أن كل نص تتراكم تفسيراته حتى لتكاد تطمر الأصل في كثير من الأحيان؛ وقد نكون نتحدث عن أنفسنا دون وعى ونحن نقرأ أو نناقش أو نفسر أو نسلط الضوء على أفلاطون ونصوصه. بل إن ذلك يمتد إلى ما هو أبعد حيث يشير زكريا إلى أنه حتى اللاهوتيين الكبار في شرحهم لتعاليم المسيح ابتعدوا عنه دون وعى منهم. ويضيف بحكمة رفيعة المستوى: كل عصر في النهاية يكتب نفسه ويسبغ ذاته على النص المكتوب. ويدعو زكريا إلى بذل جهد ضخم لاحترام المنطق الداخلى للنص الأصلى، وخاصة في حالتنا لأن محاورة الجمهورية لم تعد نصا قديما فقد اندمجت في الحضارة الغربية وساعد على ذلك سهولة توفيقها مع المسيحية؛ وأفلاطون كما نعلم داعية زهد وهو بحسب زكريا كان شيوعيا مع أهل القمة أي منحهم سلطة واسعة لكن حرم عليهم امتلاك البيوت والمال والذهب؛ ولم يكن شيوعيا مع الصناع والزراع. وقد برزت إشكالية أخرى جاءت من النظرة في دوائر واسعة عموما إلى أعمال أفلاطون بقداسة فقد ترتب على ذلك قيام كثيرين بتبرئته من كل خلل نظرى أو عملى؛ بينما ما ارتكبه من أخطاء ما زلنا نعانى منه وفى مقدمة ذلك تأسيسه لحكم الطغاة رغم كل الضوابط التي وضعها لمنع الطغيان.. يقول زكريا إن اللحظة التاريخية التي ولد وعاش فيها أفلاطون ساد فيه تياران: تهويمى انفعالى؛ وآخر يتضمن بذور فكر علمى تجريبى مادى، وبينما قال ماكسييم شول أكبر أستاذ فلسفة يونانية إن أفلاطون مزج بينهما رأى آخرون أنه لم يكن يؤمن بالتجريب؛ وأن العلم عنده كان يعنى الرياضيات فقط- وبدرجة أقل الفلك- ويعتبر زكريا أن إيمان أفلاطون بالثبات وكراهيته للتعدد والتعقد حتى في الشعر والموسيقى؛ وفصله بين المحسوس والمجرد؛ جنى جناية كبيرة على العلم لقرون طويلة، فالعلم يتعامل مع متغيرات ويسعى لاكتشاف قوانينها وهو يربط جدليا بين المحسووس والمجرد. يشير زكريا إلى تأثره بالفلسفة الشرقية والفكر المصرى القديم؛ وكذا بالفيثاغورثية التي تفسر العالم كله رياضيا؛ وتقسم الناس إلى محبى الحكمة؛ ومحبى الشرف؛ ومحبى الكسب؛ وحسب زكريا فإن إطار المحاورة كله قام على طبقات فيثاغورث حيث قسم أفلاطون المجتمع إلى حكام وحراس ثم صناع. وعن تأثير العامل السياسى والتاريخى عليه فيتمثل في أن أثينا كانت تحولت إلى دولة بوظائف معقدة ثم انهارت على يد اسبرطة؛ ما جعل أفلاطون يكره الديمقراطية وينحاز إلى فكر الأوليجاركية أي الصفوة، أي نهج من هزموا بلده وأذلوها؛ وهو نهج حربى صارم؛ بل حاول أفلاطون مع أمراء صقلية أن يرسخ أفكاره عمليا من خلالهم؛ بأن يجعل الحاكم فيلسوفا؛ ودون أي تغيير في النظام، وهو كان يظن أن كل شرور العالم ستنتهى لو تولى الحكم فلاسفة أو تم جعل الحكام فلاسفة. يوضح زكريا لاحقا أن أفلاطون لم يتعظ من قيام تلاميذ سقراط وتلاميذه هو نفسه بممارسات طغيانية بشعة تفوق ما ارتكبه الطغاة الذين ثاروا عليهم. عائليا كانت أسرة أفلاطون ساخطة على دستور أثينا وورث عنها ذلك، وكان الطغاة أصدقاء له؛ وهم الطغاة الذين تتلمذوا على يد سقراط ولهذا أساسا تم إعدام سقراط أي لأنه أفسد عقول الشباب. يقول فؤاد زكريا إن ذلك هو وحده الذي يفسر لنا كيف أعدم نطام أثينا الديمقراطى سقراط الفيلسوف الكبير الذي تجرع السم راضيا التزاما بتنفيذ الحكم عليه؛ واستخلاص زكريا هذا أصبح نادر الظهور في أي قراءة لسقراط، فالكل لا يراه إلا محض ضحية. كتب أفلاطون الجمهورية في قمة نضجه؛ وهى تتوسط أعماله؛ وفيها كل أفكاره الأساسية عن التنظيم السياسى والاجتماعى والأخلاقى والتربوى والأسرى والفنى. لم يكن أفلاطون؛ الذي لم يتزوج ولم يعرف له علاقات نسوية؛ مع كبت الرغبات، لكن مع تنظيمها بما فيه صالح الدولة. وكان يرى أن الحقيقة هي نتاج محاورة الذهن لنفسه أو مع ذهن آخر؛ يعنى ليست وليدة تجارب عملية؛ ويختلف زكريا عمن يقولون إن أفلاطون تلميذ سقرط فالأخير كان الحوار عنده حقيقيا؛ أما أفلاطون فالحوار في ذهنه أو نتاج تحاوره مع ذهن الآخرين أو فهمه لأفكار الآخرين؛ وفكره بالمجمل قطعى دوجماطيقى رغم أنه في كتبه يعطى مساحة؛ ولو بشكل مراوغ أحيانا أو كثيرا؛ للرأى والرأى الآخر؛ ويؤمن بالحرية بشكل لا لبس فيه. سقراط كان يدخل النقاش وذهنه خال؛ أما أفلاطون فيدخل والإجابات في ذهنه ولكنه أحيانا ما يوهم من أمامه أنها جاءت منهم، ويكون هو من أوحى إليهم بها. من أمثلة المغالطات في المحاورة تعريفه للعدل ثم تفنيد التعريف بطريقة ضعيفة وبذا يوهم من أمامه أنه استعرض وجهتى النظر، بينما هو يؤكد التعريف الذي لديه. أفلاطون أيضا كان يقدم استدلالات طويلة ويسرب أخطاء في وسطها لا تلفت النظر؛ ليصل إلى نتيجة معينة. ويرى زكريا خلافا لآخرين أنه كان واعيا بما يفعل. المتفق عليه أن محاورة الجمهورية تعالج قضايا: الآراء الشائعة عن العدل؛ والعدالة في الدولة ولدى الفرد؛ ونظم الدولة المثلى وحكم الفلاسفة؛ وتدهور المجتمع والفرد؛ والصراع بين الفلسفة والشعر؛ ومصير الإنسان وخلود النفس. والمحير بحسب الدكتور فؤاد أننا لو قلنا إنه يخدم بها الصفوة فهو نفسه يؤكد أن الحكم يجب أن يكون خدمة وليس لتحقيق منفعة. ولو قلنا إنه يدعو إلى الزهد فهو الذي تكلم عن شيوعية النساء بين طبقات الحكم العليا كحافز لهم. لو قلنا يعزز العسكرة فهو يدعو إلى فهم الموسيقى- البسيطة- والاستماع إليها وإلى التربية الفنية. تعج المحاورة بتناقضات كثيرة لكن عبقرية أفلاطون في أنه فتح الأبواب من اللحظة الأولى؛ ولا يزال أمام اجتهادات لا حصر لها في فهم وتفسير النص ومراميه. المجتمع عنده كان هو النفس الواحدة المكبرة والتى يمكن منها أن نفهم الفرد الواحد المعقد؛ وليس العكس؛ وقد قال شراح إن المحاورة هدفها تربوى وتعليمى لبناء المجتمع ومن ثم الدولة المثالية، أما زكريا فيتساءل كيف تكون تربوية تعليمية وهو يتكلم عن طبقة النخبة والحراس فقط كما أن هدف التعليم والتربية عنده الوصول إلى بناء تلك الطبقة لتحكم وتحارب؛ أي أن الشعب ليس له عنده اعتبار. وقال فسرون في موضع آخر إن المحاورة هدفها سياسى أي تقديم نموذج حكم مفضل؛ وزكريا يقول إن المحاورة تشتبك مع واقع وتطمح لتحقيق دولة بمواصفات خاصة؛ كما رأينا في محاولاته مع أمراء صقلية؛ ولم تأت لتقديم نموذج نظرى. زكريا يكمل ذلك في مواضع مختلفة من دراسته بالتأكيد على أن أفلاطون لم يكن أبدا هو الفيلسوف المثالى الذي يقال عنه للآن فلم ينفصل عنده النظرى عن العملى أبدا؛ كما أن الميتافيزيقى أو ما وراء الطبيعة؛ الذي ينشغل به المثاليون؛ لا يكاد يكون حاضرا في المحاورة. يقول زكريا إن أفلاطون أكد أن العامل الاقتصادى هو الأكثر تأثيرا في الدولة وهو الذي يؤدى إلى الشقاق بين من يملك أو يملك أكثر وبين من لا يملك ولذا ابتكر فكرة ملكى وليس ملكى وملك غيرى وليس ملك غيرى. وقد أكد في الكتاب الرابع بالمحاورة أن على كل واحد أن يعمل عمله ولا ينظر إلى غيره؛ وهذه هي العدالة عنده؛ وسمح بشروط صعبة للغاية بأن يغير الزارع أو الحرفى طبقته؛ وبينما يربط الفكر الحديث العدالة بالمساواة هو يراها في اللامساوة بين الحراس والحكام من جانب والصناع والحرفيين من آخر؛ وكان يؤمن بالتراتبية حتى في المعرفة؛ فالمعرفة عقلية عند الكبار ظنية عند العوام ولهذا هم بحاجة إلى إرشاد دائم، وعليه وجب أن يحكم العقلاء فقط. يرفض زكريا تبرير شراح كثيرين لقبول أفلاطون للعبودية وقولهم إنها كانت سائدة في أثينا في زمنه؛ ويقول إن أفلاطون كان أكثر تشددا من غيره في الإيمان بها؛ وهو لم يعترض على حق المالك في قتل العبد؛ كما أن أفلاطون لم يكن هو الذي يخضع للسائد فقد هاجم نظام الأسرة المستقر وقلبه رأسا على عقب؛ فلماذ لم يأخذ موقفا ضد سائد آخر هو العبودية؟. يقول زكريا: ومع ذلك لا يجب أن نفرط في إدانته فهو حرم على طبقة الحكام امتلاك المال والبنين والذهب اكتفاء بالنفيس الذي بداخلهم.. لقد كان ضد حكم المال والقوة لكنه كان مع الحكم المطلق والطاعة المطلقة. يرى زكريا أن الطابع العام لتفكير أفلاطون السياسى؛ هو أنه تقدمى ورجعى؛ وكان فاقد الثقة تماما في الفرد العادى إلى درجة أنه كان ضد علاجه إذا مرض؛ أو منحه حق الحياة إذا ضعف؛ لكن الغريب أيضا أنه كان مع النزاهة والشرف وضد الغوغائية. أي أنه كان يريد أرستقراطية الفكر. أفلاطون كان يماهى بين الخير والألوهة، ورأى في كتاب سابق أن الجسد مقبرة النفس؛ ودافع عن الحرية الإنسانية وقيّم عاليًا السعى المتواصل إلى شمس العقل ونور المعرفة؛ واعتبر شهوة التملك وتجاوز حدود الضرورة أصل كل حرب وبلاء. واستلهاما منه سارت الفلسفة الغربية طوال القرون ال 25 الماضية على أن الماهية أكثر حقيقة من الوجود، بل إن الأخير هو الوهم. كانت الأسطورة؛ التي أبدع فيها اليونانيون؛ عنده تعبيرا عن المعرفة الاحتمالية التي لا يمكن البرهنة عليها؛ وهو لجأ إليها لكن ليس لحل معضلات فكرية؛ ولكن لإقناع المواطنين بأن أفكاره السياسية لها أساس علوى.