حضر الجسد فى الفنون منذ الزمن القديم فى القطع واللوحات الأثرية والتماثيل، حيث تجسد من خلال شكل الإنسان أو الجسم المثالى للآلهة.. ولكنه تعرض إلى محرمات دينية ترى التماثيل أصناما والصور المجسدة عملا شيطانيا. وفى التناول الفلسفى اقترن خاصة بالروح أو الوعى. فالوعى منفصل عن الجسد الذى يحيى بالتنفس، أما من منظور ثقافى اجتماعى فلاحظنا تملصا من الجسد والاهتمام بالروح، فهو على غرار الفكر الدينى يعتبر الجسد عارضًا. وفى الشعر مثّل الجسد موضوعا للغزل المادى للمرأة، وعادة ما يتميز برونقه وغضاضته وجمال شكله المادى وفق المقاييس الجمالية والعصر الذى كتبت فيه القصائد الشعرية، ولم يكن وصف الجسد الهدف الأسمى للشعر الذى تحركه العواطف والأحاسيس الجياشة أو التصورات الذهنية ولحظات الوجد الصوفى. ومع أن الجسد مثّل الجانب المرئى والملموس، ولكن مع ذلك يقع الحديث عن الروح وكأنها منفصلة عن الجسد تحلق فى عالم معنوى، ولا ترتبط بخبرات الحواس، وإدراك الأشياء، وكأن الجسد يجب أن يطمس ويرى بطرف عين. وأن تعنون الشاعرة راضية الشهايبى كتابها الشعرى بعنوان «جسد قديم»، فذلك قد يدل على تقدم الجسد فى السن أو مرت عليه العديد من التجارب، فهو جسد فقد غضاضته فيزيائيا وهو جسد موشوم ثقافيا، وهو الحامل للجينات على مر التاريخ، وهو فضاء جغرافى بتضاريسه وانكساراته بما تعرض له من عنف وقسوة أو حب. هيام الفرشيشى قد يدل على العمل، التعب، النضال، الفرح، الحزن. أى كل التجارب التى يتلقاها الجسد ويعيها ذهنيا ويختبرها حسيا. وكان الشاعر «والت ولتمان» أول من عنى بالجسد فى شعره، كل شىء يدرك بالجسد حسب رأيه. والجسد مقدس فى كل صوره وحالاته: «فى ترهله، وانتفاخه، واسترخائه. ففى تجزئته لتناوله الشعرى للجسد فى تسعة أجزاء يعى أنها غير منفصلة عن بعضها ففى كل جزء من الجسد روح»، وذلك بقوله: «هذه ليست أجزاء وقصائد الجسد فقط، بل الروح». وما بين العنوان والمقطع الذى انتقته الشاعرة على ظهر الغلاف، ندرك أن القصيدة ثوب ترتديه الشاعرة لتتقمص دورها داخل النص، وتستدعى الزمن ليشاركها حالات التقمص.. راضية الشهايبى كالعارضة/ أخلع يوما أرتدى يوما والزمان.. خزانة ملابس ليست لى وهى هنا لا تغير جلدها، بل تعرض معاناة المرأة، وتشعرنا أنها تشاركها أحاسيسها حد تخيل الألم.. تعترضنا عتبات نصية لافتة، وهى عناوين بعض النصوص، لها علاقة وشائجية مع آلام الجسد، من «السكرى» إلى «قميص النوم» إلى «فقر» إلى «تحرش» إلى «قبلة الاحتضار» إلى «جسد قديم» إلى «آلام ممتعة». وهى تستدعى الألم لنقل المعاناة وتمر بنا إلى شعرية الجسد ما يستدعى لحظات رونقه.. ماذا لو سكنت الشاعرة فى أجساد معذبة؟! على سبيل الإحساس بالتجسد وتقنية اختبار اللاوعى وكسب التعاطف، وأين الذات من كل هذا وقد تنصلت منها الشاعرة فى أكثر من نص، وأى هوية متغيرة من نص إلى آخر؟ أليست معرضة لتكون هى ذاتها فى ظل بيئة أخرى ضمن بناء اجتماعى أو تحت عارض صحى يجتث منها جزءا من جسدها وأنوثتها؟ هل تكفى بعض الذكريات المماثلة المدركة تصوير تلك المعاناة؟. غالبا ما يصور الشعراء معاناة الآخرين من خلال التصوير الخارجى والوصف، لكن ليس إلى درجة الاستبطان والحلول فى جسد آخر، ولكن الشاعرة راضية الشهايبى تعيشها وتنقل كل مشاعر الرعب الممكنة. فالجسد معرض للأورام، للاعتداء، للبتر، للموت تاركا رائحته، هل الجسد ملك الذات أو الزمن والطبيعة والقدر والآخر؟، كيف تتحول الشاعرة إلى ممثلة تتقمص معاناة الجسد وتستبطن وضعيات شتى دون أن تعيشها.. تصبح عارضة لمآسى الآخرين؟ كيف تتملص الشاعرة من ذاتها وتصبح أجساد الأخريات؟!. غلاف الكتاب ففى قصيدة «مذكرات نهد» تتقمص دور امرأة بتر نهدها وتعيش شعريًا تجربة شاعرات عشن تلك التجربة، ولكن كتبنها إثر معاناة جسدية على غرار مارلين هاكر التى كتبت عن «جسدها الخائن» فى عرض شعرى عن استئصال الثدى فى «شتاء السرطان». وفاطمة بن فضيلة فى ديوانها الصادر مؤخرا «حمالة صدر بعين واحدة». رغم المرض الذى يصيب الجسد ينسل الخيال لحظة هاربة من الوجع محلقة بأجنحة أثيرية، فالوجع يؤدى لحالة من السكر والانفلات لملامسة لحظة شعرية، و«الخيال ليس كما يوحى منشؤه القدرة على تشكيل صور للواقع ؛ إنه بالأحرى القدرة على تكوين صور تتجاوز الواقع، تغنى الواقع» (غاستون باشلار)، «فى الخيال الشعرى وأحلام اليقظة». السكرى جسدى ساحة.. دمى أرجوحة لسكر يتأرجح طبيبى مثل مدرس منضبط وأنا.. خفية عنهم أرسم فراشة فى حقل فى قصيدة » قبلة الانتظار« التى تصور فيها الزوجة الأم تسترجع صورة الأم ورائحتها، فهو استحضار لصورتها من خلال تصوير نقيضها، ورمزية الأم فى وجودها وراء أبنائها تسندهم من خلال رسوخها فى القلب الخافق بمحبتهم. يا وجهها يتلعثم يا حضنها المسامير يا عطرها يغتال رائحة أمى يا أمى الجالسة داخل قلبى تسندنى تمسك أحاسيسى كى لا أتعثر فى كرنفال الحب فى قصيدة «آلام ممتعة»، تصرح بجمالية الوجع، لأنه ينفذ بالجسد للنشوة والثمالة والهذيان وكل مظاهر الجنون الإبداعى التى تطرب الجسد. أركض بأصابعى خلف جراحى من يصل أولًا ينعم بالألم وتغنم بقية الأصابع الشد على الألم.. فليرقص الجسد من قال إنى أنتفض من قال إن الألم يؤلم ننتشى أو كأننا ننتشى حين نسكر أو نطأ غيبوبة يا حبذا لو تطول نستظل قليلا من حريق الحياة لتخلص فى قصيدة «جسد قديم» إلى الصور التى تسترجعها كرنين الذاكرة وأطياف المعنى تختفى وراء الصور المحببة، فما خريف العمر غير خريف الذكرى وتيقظ ما يبهج الروح ويريحها.. كان يعجبها الخريف ابتسامة أمها الصباحات المشرقة فى وجه حبيبها الورود المتفتحة دائما عند بائع الورد جسدها المستنفر شعرها المتمرد إيقاع كعبها العالى مغازلة الريح لفستانها آهات العابرين رهافة المطر قصص الحب والرسائل الصغيرة المهربة أهازيج الرحلات والهمسات خطف كتاب لصديق وردة نحفظها فى ذاك الكتاب رسومات القلوب على كراسها خريف آخر لوردة ذبلت، وطائر داخل القفص، أوراق تصفر وتسقط فى الخريف وتهرب الطيور/ خريف العمر. بقى القول أيضا إن هذه المجموعة الشعرية الصادرة عن «دار زينب» للنشر بتونس، أغلبها نصوص قصيرة جدًا تُصنف ضمن ما يُعرف بقصيدة الومضة، التى اشتغلت عليها الشاعرة الشهايبى، وأنشأت لها تظاهرة يتم تنظيمها سنويا بمحافظة سوسة الساحلية. تمثل نصوصها ومضات تضىء عزلة الروح فى عالم موحش. حاولت الشاعرة نقل تفاصيله فى سياقات مختلفة وبأدوات مختلفة، لكنها تلتقى ضمن غرض شعرى يكاد يكون واحدا، وهو رثاء للروح والجسد المهمل. وهذا هو الديوان السادس فى مسيرة الشاعرة راضية الشهايبى بعد «تراتيل الترحال»، «المسار الرقمى للروح»، «كتاب القهوة»، «أرواح تائهة» و«ما تسرب من صمتى»، مشيرة إلى أنها جاءت بعد توقف عن الإصدار دام ست سنوات، بعد أن كانت المجموعات الشعرية الأولى متلاحقة ومتتالية من حيث تواريخ صدورها. وتكشف الشاعرة عن ملامح مهمة فى هذه التجربة، وذلك من خلال كلمتها فى حفل توقيع الديوان، حيث قالت إنها وجدت فى هذه المجموعة ذاتها وهويتها الشعرية، وأن نضج تجربتها الشعرية خلق لديها نوعا من القسوة فى الاختيار والتدقيق والتمحيص، وهو ما يفسّر تأخّر هذا الإصدار الذى أرسى بالشاعرة على شاطئ قصيدة النثر وحدّد بوصلتها فى الكتابة؛ لتعلن انتماءها بشكل واضح إلى هذه المدرسة. وأضافت قائلة إنّها «فى المجموعات الأولى كنت أبحث عن بصمتى، واليوم أزعم أنّ هذه المجموعة الشعرية استقر فيها مسار التجربة وتحددت البصمة الشخصية للكتابة». أما عن مرجعية اختيارها لهذا العنوان، فقد قالت الشهايبى إنّ أفلاطون يقول إن العقل الذى يسمو إلى معرفة الحقائق الأبدية لا يفنى حيث يتداعى الجسد، فكلما كان الجسد قديما كان الفكر فتيا باحثا عن المعرفة متجددا، وقِدم الجسد يعكس تعبه من رحلة الحياة ومدى تأثيرها على الفكر وعلى الروح. وتترجم الشهايبى بهذه الكلمات معنى نضج تجربتها الشعرية وتجربتها فى الحياة، وسمو الفكر ووضوح الرؤية والبصيرة، رغم تقادم الجسد واتجاهه نحو الفناء؛ لأنّ المثقف هو أساسا فكر وعقل، بهما يقود المجتمع ويعمل على تغييره. وأضافت: «ولذلك اهتممنا بالكتابة الشعرية الوامضة، وأسسنا ملتقى قصيدة الومضة الذى يهتم فى كل دورة بقصيدة الومضة مقارنة بشكل أدبى مجاور يعتمد هو أيضا الإيجاز كالقصة القصيرة جدا والفيلم القصير.. وغيرها من الأنماط الأدبية والفنية الموجزة». وتعتبر الشهايبى من الشاعرات التونسيات اللاتى يدافعن عن قصيدة النثر والقصيدة الومضة (القصيرة جدا)، وتقول إنّ الكتابة الموجزة أو الأدب الوجيز هو شكل الأدب فى العصر القادم الذى سيزداد إيقاعا وسرعة أكثر مما نعيشه اليوم. * قاصة وناقدة تونسية