بعد كل فضيحة سياسية أو قانونية أو أخلاقية يتعرض لها مسؤول كبير فى حكومة الحزب الوطنى أو نائب من نواب الأغلبية، يخيل إلى أن الدنيا سوف تقوم ولا تقعد، وأن الناس ستعترض وتغضب وتثور، إذا لم يتم اتخاذ اللازم تجاه هذا المفضوح أو ذاك، لكننى لاحظت أن الأمر ليس كذلك، وأن هناك من الفضائح ما كان كفيلاً بإغضاب الناس واستثارة مشاعرهم واستفزاز غضبهم، إلا أنهم لم يستثاروا ولم يغضبوا ولم يحرك لهم ساكن، بل ربما نسوا أو تناسوا حتى مرت الفضائح تلو الفضائح، وكأن شيئاً لم يكن، فمثلاً محمد إبراهيم سليمان وزير الإسكان السابق، وعضو مجلس الشعب السابق ورئيس إحدى شركات البترول السابق، رغم ما نسبت إليه من تجاوزات ومخالفات وإهدار للمال العام بما يتجاوز قيمته 11 مليار جنيه، لايزال إلى هذه اللحظة حراً طليقاً ولم يتم التحفظ على أمواله وممتلكاته بعد، ومع ذلك لم يغضب أحد، ممدوح إسماعيل مالك عبارة السلام 1998، أغرق من أغرق وأخفى من أخفى وهدد من هدد، ولم ترفع عنه الحصانة إلا بعد هروبه من مصر، وتركه لأهالى الضحايا يخبطون رؤوسهم فى جدران اليأس وخيبة الأمل على مرأى ومسمع من الجميع، ومع ذلك لم يغضب أحد، هشام طلعت مصطفى، المعين بمجلس الشورى والمتهم فى قضية المطربة اللبنانية سوزان تميم والمحكوم عليه بالإعدام شنقاً، سبق أن حصل على آلاف الأفدنة بلا مقابل تقريباً، وربح المليارات بلا محاسب، وبنى على أرض مصر المفترض أنها مملوكة للمصريين، جناناً سكنية لخاصة الخاصة، وكأنه يخرج لسانه لمن يعارضه، ممن يستشعرون فى هذه الصفقات احتلالاً وليس تعميراً: (أنا بنفوذى أفعل كل شىء، وأملك كل شىء، وأختار ما يناسبنى حتى لو لم يناسب كل الناس)، ولا يزال إلى هذه اللحظة عضواً لم يتم فصله من مجلس الشورى رغم ما نسب إليه، ومع ذلك لم يغضب أحد، كشفت بعض التقارير مؤخراً، أن عصابات سرقة الأراضى نجحت فى الاستيلاء على 14 مليون فدان أى ضعف ما تملكه مصر فعلاً من الأراضى الخصبة، وذلك بمعاونة مسؤولين صغار وكبار فى وزارات مختلفة، وضياع مثل هذا الكم ليس كارثة فحسب، بل استخفاف بحق الناس فى ملكية أصولهم وعدم احترام لمستقبل أولادهم، وتقنين لكل ما هو غير مشروع على حساب ما هو مشروع، ومع ذلك لم يغضب أحد، جاءت نتائج انتخابات الشورى الأخيرة لتؤكد أن للحزب الوطنى وحده الحق فى احتكار كراسى البرلمان بكل السبل الممكنة وغير الممكنة، بالتصويت بالتزوير بالبلطجة بالقبضة الأمنية، بتسويد البطاقات الانتخابية، بتهريب الصناديق الجاهزة باستحضار الميتين بالرشاوى بالدعاية الوهمية بالذوق وبالعافية، ومع كل ذلك لم يغضب أحد. وهنا الكارثة لأن المخطئ عندما لا يجد من يحاسبه أو يتصدى له، يتحول إلى مجرم غير هيَّاب لأحد ويسلمه غروره للإحساس بأنه لا شريك له، ولا يأتيه الخطأ من بين يديه أو من خلفه، يرفع ويضع يعطى ويمنع يعاقب ويعذر، يزوِّر فى الأوراق غير الرسمية والرسمية، مثلما يزور فى إرادة الشعب، يتستر على من يحمى مصالحه ولا تفعل ضده القوانين، ويفضح من يمثل خطراً عليه وكلما غرق الناس فى صمتهم عنه، غض طرفه وصم أذنه عنهم، وما أكثر المخطئين الذين توحشوا وأصبحوا مجرمين فى هذا البلد، وأساءوا للمسؤولية عندما اعتبروها سبوبة يحصدونها من عرق وكد الغلابة، وبيع شركاتهم فى وضح النهار دون مراعاة أى ضمانات تحفظ لهم الحد الأدنى من الحياة الكريمة، وتركهم يفترشون الأرصفة لتسول حقوقهم المغتصبة ثم إزاحتهم بمنتهى الخسة والدناءة، وكأنهم الزوائد التى لا يصح تركها تنتشر خوفاً من تفشى أمراض الصراحة بين طباخى السلاطين. وما أمر الصمت الذى تحصن به المصريون فى مواجهة من يغتال أحلامهم وينهب ثرواتهم ويستخف بمشاعرهم، ما أمر الصمت الذى أغرق أكثر من نصف المجتمع المصرى فى الفقر وجعل العنوسة فى صدارة المشهد، ونشر الجريمة، ودفع أبناءنا للانتحار، وحاصرنا بكل أنواع الأزمات، وأجبرنا على الرضا بفتات موائد اللئام، وجعل كل ظالم فى هذا البلد يتصور أنه يعيش وحده يتصرف وحده، يبحث عن مصلحته وحده، وأن مصر التى نعيش فيها، هى عزبته وحده، ولم لا يشعر الظالم بهذا؟! وهو يفعل ما يفعل دون خوف من محاسبة أحد أو أن يوقفه عند حده أحد، يفعل ما فعل وكأنه الأصل فى الوطن، وهذا الشعب كله قد أتى للوجود من أجله هو، لراحته هو، لمصلحته هو، لتحقيق أحلامه هو، وعدم غضب المصريين من أفعاله خوفاً منه هو، أو نزولاً على حكمته هو، والكل مجرد تروس فى عجلة حياته هو. ولا شك فى أن اعتياد المظلومين للظلم وسكوتهم عليه، سيضيع ما بقى فى الوطن من قيمة، وفى العقول من إبداع، وفى القلوب من رحمة وطيبة، وسيحبب إلى الناس الخنوع بوصفه أفضل مفاتيح إيثار السلامة، ولا سلامة لمن هون نفسه على نفسه وعلى الآخرين حتى أمتهن بلا ثمن، ولا سلامة لمن حرم حريته وقهرت إرادته، وفرض عليه من يمثله، واكتفى بالفرجة على الصفعات وهى تتوالى على جسده دون أن يعرف كيف السبيل للدفاع عن نفسه، ومأساة المصريين حالياً، أنهم نسوا قول الشاعر: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر وبذا تسامحوا مع الظلم وتصالحوا مع الظالم مجاناً، وفقدوا الإحساس بالمخاطر، وكأنهم نسوا أن فرعون لم يتفرعن إلا على حملة عرشه فوق أكتافهم، والمصريون لم ولن يغيروا ما لم يتغيروا، ويحصنوا أنفسهم ضد الخوف، وينتصروا على الضعف، ويصروا على الثابت ويبدأوا رحلتهم فى المقاومة من أجل الإصلاح والتغيير لانتشال الوطن من مستنقع المنتفعين إلى بر الديمقراطية، باتخاذ المواقف الصلبة لعلاج مشكلات الوطن حتى لا تتفاقم، وتجاه المتجاوزين لردعهم عن تكرار هذه التجاوزات ليعرفوا أن لهذا البلد أصحاب، وأنه لا يصح أن نُظلم ونُظلم ونُظلم، وتكون النتيجة بعد كل هذا الظلم وهذا القهر (لم يغضب أحد).