فُجعتُ وأنا أشاهد تجمهر أهالى «زفتى» من أولياء أمور طلاب وطالبات الروضة التى أُحيل معلم فيها إلى القضاء بعد نشر صورته وهو يضرب أطفال الروضة، يشد البنات من شعورهن ليضربهن على ظهورهن وعلى صدورهن وأيديهن، ويشدُ الصبيان من أذرعهم ليفعل الشىء نفسه. كانت فجيعتى بموقف الأهل- أهل أولئك البراعم- من ذلك المعلم أكبر من فجيعتى به، حيث ذهبوا متجمهرين إلى المحكمة ليقولوا أمام المحكمة: إنّهم راضون بكل مَا كان يفعل المعلم بأبنائهم، وأنّهم مؤيدون له فى ذلك وموافقون؛ بل صرّح بعضهم بأنّه كان سعيدًا وهو يرى المعلم الجلاد يضرب ابنته أمام عينيه. فاستعمال ذلك المعلم الجلاد الضرب كان شهادة له عند كل أولئك الذين يسمّون بأولياء الأمور بأنّه معلم ناجح، بل معلم فاضل، بل معلم جاد، وجاءوا بشاهد من الأطفال فى العاشرة أو دونها ليشهد بأنّ المعلم الجلاد إنّما ضرب الجميع لأنّهم لم يفعلوا واجباتهم، واعتبر ذلك عذرًا شرعيًّا للجلاد أن يفعل مَا فعل. لم يكن عند الجلاد وقت لأن يسأل أى طفل أو طفلة من طلابه عن الأسباب الحقيقية التى حالت دون قيام الطفل بالواجب المدرسىّ، وما إذا كانت أسبابًا معقولة، كأن لا يكون فى البيت أى أسباب تشجع الطفل على عمل الواجب، أو أنّ البيوت تفتقد كل الوسائل التى يمكن أن تسمح بذلك أو أنّ شجارات الأبوين واستبدادهما حال بين أولئك الأطفال الأبرياء وبين أدائهم واجباتهم، فذلك كلّه لم ير الأستاذ الجلاد أن يهتم به أو يسأل عنه ولم يتجشّم عناء ذلك، وقد وجد أسرًا تأتيه بأولئك البراعم وهى تحمل نفسيّات العبيد لتقول له: «لك اللحم ولنا العظم». وأقسم أن تعليمًا كهذا لم يحفظ لحمًا من النتن ولا عظمًا من الانسحاق. إحدى المتحمسات للمدرس الجلاد قالت: إنّها محاميّة ومربية وإنّها لا تؤيد المدرس فى كل مَا فعله فقط؛ بل تطالبه بأن يستمر على ذلك. لقد تذكرت قول سيدنا نوح على قسوته لكنّنى سآخذه إلى القول بأنّ العبيد لا يمكن أن يلدوا أحرارًا، فالعبيد الذين يستمرئون العبوديّة وينشَّأون عليها ويدعمونها بالطريقة التى رأينا من أهالى الأطفال فى «زفتى» لا يلدون إلاّ عبيدًا مثلهم ومثل المدرس الذى وصفوه زورًا بأنّه مربٍ فاضل، ولو كانوا أحرارًا لطالبوا بحبسه وتأديبه، بل ضربه أمام الأطفال أنفسهم وإخبارهم بأنّه يُضرب لأنّه ضربهم، وأنّ الضرب اعتداء ينبغى أن ينال فاعله جزاءه. إذا بُرئ مدرس فاشل مثل هذا بعد كل مَا فعل وأطلق عليه أنّه مربٍ فاضل وتضامن معه العبيد من أولياء الأمور الذين لا يصلحون أن يكونوا أولياء أمور، فذلك يعنى أن ليس لنا أن نلوم الضابط أو العسكرىّ الذى يضرب متهمًا أو يعذبه لأنّ الضابط والعسكرىّ فى هذه الحالة والمحقق يمكن أن يعتبروا مؤدبين لذلك المتهم المشاغب الذى لم يقم بواجب الاستكانة والذل والخضوع والخنوع المستسلم للسلطة. صدقونى مَا شعرت بخطر على ثورة مصر كما شعرت وأنا أتابع مشهد محاكمة المدرس الفاشل ومواقف ذوى الطلاب والطالبات منه، لقد أشعرنى ذلك بالخطر لأنّ العبيد لا يكون سهلا عليهم التمتّع بالحريّة، فالحريّة بالنسبة لهم انفلات وتدمير. إنّ مجتمع الأحرار يصنع الحريّة فى الطفولة، وأنا وإن كنت لا أتفق مع شاعرنا الجاهلىّ فى مغالاته حين قال: إِذَا بَلَغَ الفِطَامَ لَنَا رضيع * * * تَخِرُّ لَهُ الجَبَابِرُ سَاجِدينَا لكنّنى أقول إن تربية الأحرار على الحريّة أمر فى غاية الصعوبة يقتضى أن تتضافر الجهود كلّها عليه، وأنّ أولياء الأمور فى حاجة إلى توعية وإلى تربية وإلى إعادة تربية وإعادة تأهيل، وتربية الزوجين الرجل والمرأة على معنى الأسرة ومعنى الطفل ومعنى التربية. إنّ أهم مَا تمتاز به علينا الشعوب الديمقراطيّة، وهو السبب نفسه الذى يجعل ديمقراطيّتهم ناجحة وديمقراطيّتنا فاشلة، أنّ أبناءهم يُعدّون إعدادًا على الاستقلاليّة وقوة الشخصيّة وعدم قبول الإهانة منذ الصغر. ولا بأس أن أذكر واقعة أخرى هنا؛ وجدت مُدرّسة تعلم أطفالا فى إحدى المدارس فى أوروبا كيف يقبلون الرأى الآخر، كانت بين يديها لوحة متوسطة الحجم وضعت بها صورتين: صورة حيوان فى المقدّمة، وصورة شجرة فى الجانب الآخر، فكانت تأتى بمجموعة من الطلاب وتريهم الوجه الأول من الصورة، وتأتى بفريق آخر وتضعهم على الجانب الآخر، ثم تسأل الفريق الأول مَا الذى تراه، فيضجّون: نرى حيوانًا.. فيخطئهم الآخرون، ويقولون: هذه شجرة. وتتركهم حتى يحتدم النقاش بينهم، فتغيّر من وضع الصورة ثم تسأل، فيضحكون جميعًا، ويعرفون كم كانوا مخطئين حين أصرّ كل منهم على كون مَا فى الصورة صورة حيوان أو صورة شجرة، ثم تبدأ تشرح لهم أنّ الأمور نسبيّة، وأنّ قدرة الإنسان على رؤية جميع جوانب الشىء غير ممكنة، فهو يرى من جانب شيئا، ويرى الآخر من جانب شيئًّا آخر يغايره، فلا ينبغى المسارعة برفض الآخر، إنّنا فى حاجة إلى مربين ومعلمين على هذا المستوى، ولكى لا يظل الثائرون ثائرين، ولا نضطر إلى تكرار الثورات مرة بعد مرة؛ بل نهدم الفساد ثم نهدأ لنبنى الأمجاد، كما قال الشيخ الشعراوى، يرحمه الله تعالى، لابدّ لنا من إعادة النظر فى العمليّة التعليميّة كلّها وإعادة بنائها لبنة لبنة.