دخلَ على رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام وقد قرر ترْك الكرسى الذى شغله ستةَ عشر عامًا، رئيسًا لتحرير الجريدة التى أنشأها عام 1994، لتصدر كلّ أربعاء من القاهرة وتنطق بالفرنسية: «الأهرام إبدو». سأله عبدالمنعم سعيد إن كان ثمة ما أزعجه، فنفى محمد سلماوى ذلك، وقال إنه، اليومَ، ببساطة قد بلغ السنَّ القانونية للتقاعد. فأجابه سعيد بأن أمرًا كهذا لا يتمُّ إلا بعد انعقاد لجنة واستصدار قرار، فأصر سلماوى قائلا إنه يحترم القانون، ويسعى إلى تنفيذه بنفسه، ولا ينتظره! وترك منصبه وسط محبة المحررين، ورفضِهم تنحّيه، ثم اقترح تسليمَ الراية لرئيس التحرير التنفيذىّ هشام مراد. التنحّى الطوعىّ عن القيادة ليس ضمن ثقافتنا العربية. من الحاكم إلى أدنى السلّم الوظيفى. هنا درسٌ «عسير»، يقدمه سلماوى إلى جميع القيادات فى المنابر كافة، سياسيةً كانت أو مِهنيةً، بأن الكأسَ يجب ألا تُحتسَى حتى نهايتها، كما علّمنا الإيتيكيت وقواعد الجمال. درسٌ مُرٌّ للمتشبثين بمقاعدهم حتى الرمق الأخير، طمعًا فى عام أو عامين أو عشرة أعوام، دون الالتفات لحتمية تداول السلطة، وتحريك الدماء الجديدة فى جسد المؤسسات كيلا تتكلّسَ ويصيبها تصلّبُ الشرايين والجلطاتُ الدموية القاتلة. درسٌ فى كبح غريزة إنسانية أساسية، السُّلطة، وترويضها، انتصارًا للجمال والرقىّ. إن لم يكن هذا السلوكُ الفريدُ شِعرًا، فلا كان الشِّعرُ. وأندهشُ أن سلماوى لم يكتب الشعرَ! ثم سرعان ما تتلاشى دهشتى حين أعودُ إلى قناعتى الأصيلة أن الشعرَ سلوكٌ وثقافةٌ وأسلوبُ إنصاتٍ إلى العالم، وليس كتابةً. وسلماوى، بعيدًا عن مراكزه القيادية كرئيس اتحاد كتّاب مصر، والأمين العام لاتحاد الأدباء والكتّاب العرب، صحفيٌّ محترفٌ وأديبٌ ومثقف شامل. عرفناه عبر مقالاته فى «الأهرام» كاتبًا باحثًا يحلّلُ الظاهرةَ ويؤصّل لها تاريخيًّا وجغرافيًّا وسياسيًّا وسوسيولوجيًّا، وفى «المصرى اليوم» ككاتب ساخر، يضع يده على مكان الوجع من نقطته المُفارقة الطريفة، فيخرج القارئُ ببسمةٍ لا تلبثُ أن تؤرقَ يومَه وغدَه، وفى «الوفد» ككاتب صحفى يلتقط الخبر من زاويته الصادمة، فيحفّز القارئ على التأمل ليتورّطَ من فوره فى المشاركة، وفى مجلة «أكتوبر» ككاتب بورتريه وصور قلمية يلتقط من ذاكرته الإنسانىَّ من غير الإنسانىّ، وعبر مسرحياته ورواياته عرفناه كمبدع يفنّد أزمةً اجتماعيةً أو سياسية من خلال عين أدبية مفتوحة على التاريخ، تُشعلُ الرمزَ لتثيرَ السؤالَ فى قلب القارئ والمتفرج فيخرج مشحونًا مؤرَّقًا بالبحث عن إجابات، وكمترجم نقل لنا عديد الإبداعات الغربية المهمة. لذلك فهو يدرك تمام الإدراك أن المبدعَ لا يحتاج تسيُّدَ مؤسسةٍ كى يظلَّ حاضرًا فى دائرة العطاء والنور. المبدعُ الحقُّ مؤسسةٌ كاملةٌ، من دون أن يعتلى منصبًا أو يؤازره كرسىّ. المبدعُ أعلى قيمةً من أعلى المناصب، وأشدُّ بأسًا دون مقاعد عاليةٍ يتوكأ عليها. بذلك الدرس الصعب قدّم سلماوى صورةً طيبةً للمصرىّ أولاً، وللمبدع ثانيًّا، ذاك الذى لا يتهافتُ على منصب، بل يتركه طوعًا حين يشاء. المبدع لا يسعى، بل يُسعى إليه. ليتنا نتعلم. [email protected]