جامعة سيناء تنظم النسخة الثالثة من ملتقى التوظيف لفرع القنطرة    الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء: عدد سكان العالم سيصل 8.9 مليار نسمة بحلول 2035    الخط الأول لمترو الأنفاق على طريق التطوير الكامل.. مصدر بالنقل يكشف التفاصيل (خاص)    أيمن موسى يكتب: شريك أساسي بالمعركة    في اتصال مع مبعوث ماكرون.. المنفي: لا تساهل مع من ينتهك وقف إطلاق النار    خبير دولي: روسيا لن تتراجع عن مطالبها في أوكرانيا.. والموارد تلعب دورًا خفيًا    انطلاق مباراة برشلونة وإسبانيول في الدوري الإسباني    الداخلية تضبط صاحب فيديو التعدي على سيدة شبه عارية بالضرب بالقاهرة| فيديو    حسين فهمي في ندوة مصر بمهرجان "كان السينمائي": بدأنا ننهض مرة أخرى    جدول مواعيد امتحانات الترم الثاني 2025 في محافظة مطروح لجميع المراحل (رسميًا)    أبرز محطات زيارة ترامب يوم الخميس إلى قطر والإمارات    أتلتيكو مدريد يسقط أمام أوساسونا بثنائية في الدوري الإسباني    المركزى للتعبئة العامة والإحصاء يناقش عدد السكان 2027 مع تحالف العمل الأهلى    وفد اللجنة الأولمبية يدعم اتحاد الدراجات ويشيد بتنظيم بطولة أفريقيا للمضمار    بمشاركة واسعة من المؤسسات.. جامعة سيناء فرع القنطرة تنظم النسخة الثالثة من ملتقى التوظيف    مد الفترة المخصصة للاستديوهات التحليلية في الإذاعة لباقي مباريات الدوري    إعلان الفائزين بجائزة «المبدع الصغير»    مهرجان العودة السينمائى يُكرّم أحمد ماهر وسميحة أيوب وفردوس عبد الحميد    «ملامح من المنوفية» فى متحف الحضارة    أمين الفتوى يوضح الفرق بين الدين والتدين    ما حكم الأذان والإقامة للمنفرد؟.. اعرف رد الإفتاء    هل يجوز الزيادة في الأمور التعبدية؟.. خالد الجندي يوضح    طريقة عمل القرع العسلي، تحلية لذيذة ومن صنع يديك    دايت من غير حرمان.. 6 خطوات بسيطة لتقليل السعرات الحرارية بدون معاناة    حبس عامل مغسلة 4 أيام بتهمة هتك عرض طفلة في بولاق الدكرور    لابيد بعد لقائه نتنياهو: خطوة واحدة تفصلنا عن صفقة التبادل    طارق محروس: مشاركة منتخب الناشئين في بطولة أوروبا أفضل إعداد لبطولة العالم    تعزيز حركة النقل الجوى مع فرنسا وسيراليون    ضبط سيدة تنتحل صفة طبيبة وتدير مركز تجميل في البحيرة    «الرعاية الصحية» تبحث آليات تعزيز التعاون في سلاسل الإمداد وتوطين الصناعة الطبية    وكيل صحة المنوفية يتفقد مستشفى رمد شبين الكوم ويتابع معدلات الأداء.. صور    بسبب سوء مستواه.. لجنة تخطيط الزمالك توصي برحيل دونجا أو إدراجه في صفقة تبادلية (خاص)    أمام يسرا.. ياسمين رئيس تتعاقد على بطولة فيلم «الست لما»    تيسير مطر: توجيهات الرئيس السيسى بتطوير التعليم تستهدف إعداد جيل قادر على مواجهة التحديات    استعدادًا للصيف.. وزير الكهرباء يراجع خطة تأمين واستدامة التغذية الكهربائية    التأمينات الاجتماعية تقدم بوكيه ورد للفنان عبدالرحمن أبو زهرة تقديرًا لمكانته الفنية والإنسانية    الإعدام شنقا لربة منزل والمؤبد لآخر بتهمة قتل زوجها فى التجمع الأول    محافظ الجيزة: عمال مصر الركيزة الأساسية لكل تقدم اقتصادي وتنموي    كيف تلتحق ببرنامج «سفراء الذكاء الاصطناعي» من «الاتصالات» ؟    إحالة 3 مفتشين و17 إداريًا في أوقاف بني سويف للتحقيق    تصل ل42.. توقعات حالة الطقس غدا الجمعة 16 مايو.. الأرصاد تحذر: أجواء شديدة الحرارة نهارا    الأهلي يبحث عن أول بطولة.. مواجهات نصف نهائي كأس مصر للسيدات    زيلينسكي: وفد التفاوض الروسى لا يمتلك صلاحيات وموسكو غير جادة بشأن السلام    موريتانيا.. فتوى رسمية بتحريم تناول الدجاج الوارد من الصين    "الصحة" تفتح تحقيقا عاجلا في واقعة سيارة الإسعاف    تحت رعاية السيدة انتصار السيسي.. وزير الثقافة يعتمد أسماء الفائزين بجائزة الدولة للمبدع الصغير في دورتها الخامسة    أشرف صبحي: توفير مجموعة من البرامج والمشروعات التي تدعم تطلعات الشباب    "الأوقاف" تعلن موضع خطبة الجمعة غدا.. تعرف عليها    رئيس إدارة منطقة الإسماعيلية الأزهرية يتابع امتحانات شهادة القراءات    خطف نجل صديقه وهتك عرضه وقتله.. مفاجآت ودموع وصرخات خلال جلسة الحكم بإعدام مزارع    إزالة 44 حالة تعدٍ بأسوان ضمن المرحلة الأولى من الموجة ال26    فرصة أخيرة قبل الغرامات.. مد مهلة التسوية الضريبية للممولين والمكلفين    شبانة: تحالف بين اتحاد الكرة والرابطة والأندية لإنقاذ الإسماعيلي من الهبوط    فتح باب المشاركة في مسابقتي «المقال النقدي» و«الدراسة النظرية» ب المهرجان القومي للمسرح المصري    ترامب: لا أرغب في اللجوء إلى القوة مع إيران وسنراقب تطور المفاوضات معها    جهود لاستخراج جثة ضحية التنقيب عن الآثار ببسيون    جدول مواعيد مباريات اليوم والقنوات الناقلة    مؤسسة غزة الإنسانية: إسرائيل توافق على توسيع مواقع توزيع المساعدات لخدمة سكان غزة بالكامل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«خارج العزلة».. قصة قصيرة
نشر في المصري اليوم يوم 02 - 01 - 2020

كنا نضحك حين كنا نرى «مُعوض» يمشى على مهل أمام جاموسته ليس بينه وبينها سوى رسن غير متين، وأيام من العشرة الحسنة والتفاهم. كان ضحكنا لأنه لنا مثل صارخ على الانقطاع عن الدنيا بأكملها، فى سبيل المسافة القصيرة بين بيته الخفيض، وحقله الضيق.
تذكرته وأنا واقف فى ميدان التحرير فى ساعة الذروة، وقلت لصديق من قريتى، كان يصطحبنى فى سفر عابر:
هل لو كان «معوض» مكاننا سيكون بوسعه أن يعبر الشارع؟
ضحك يومها وقال:
سيقف يوما كاملًا ولا يستطيع العبور.
لم يغادر قريتنا أبدًا، فصار مضرب أمثالنا فى الولاء المقطوع به للشوارع والجسور التى احتضنت أيامنا الأولى وغادرناها. رآه بعضنا الشىء الوحيد الذى ورثناه من الأجداد، قبل أن يخرج من صلبهم الذين هم نحن، ممن غادروا القرية، واختلطوا بأناس وأشياء لا تروق للجدات والأجداد، الذين طالما استعذبوا العزلة الهادئة.
لم يدر أحد منا أبدًا أن هذا الذى نسخر منه فى المدن المتوحشة، بوسعه أن يكون لديه ما نتعلمه منه.
من أين راقت هذه الحكمة فى رأسه؟
سأل أحدنا، فأجابه آخر:
شىء عجيب أن يكون هذا الذى نعتبره من البلهاء قادرًا على أن يرد علينا بهذه الطريقة.
كنا يومها نسأله عن الحياة، ففوجئنا به يقول لنا:
مشوار قصير، والمهم أن البنى آدم لا يؤذى أحدًا أبدًا.
كان يعيش بين بيته البسيط وحقله الذى تقبض بقية الحقول على أنفاسه، ولم يكن أحد منا بوسعه أن يدرك يومًا أن له لسانًا، ينطق بما يهتدى إليه عقل يفكر.
«هل بوسع الحمير أن تستلهم الحكمة؟»
سأل واحد منا كان يعتقد أن سفره إلى بعض بلاد الدنيا قد جعله مميزًا، لكن آخر قال له:
ليس هو حمار على أى حال.
سافر كثيرون إلى بلاد النفط، وعادوا بأموال هدموا بها بيوت الطمى، وأقاموا مكانها حوائط الطوب الأحمر والأسمنت، ولبسوا أثوابًا نظيفة، وانتعلوا أحذية تلمع فى صهد الشمس، وذهبوا إلى البندر واشتروا ما لذ وطاب حتى نفدت نقودهم.
وحده لم يكن ينظر إلى أى شخص، إن مدوا أيديهم التى صارت ناعمة إلى يده الخشنة تأففوا، لكن أحدًا منهم لم يستطع فى أى يوم أن يزعم أن رائحة الرجل المعزول ليست طيبة.
هل عرف العطور مثلنا؟
سأل أحدهم، فقيل له:
لا يمكن.
لكن هناك من كذبوا هذا، وقالوا:
تنبعث من جسده رائحة طيب.
كانت الإجابتان سليمتين، فهو قد اهتدى إلى الحبق الذى كان ينبت على ضفتى الترعة، يقطف أوراقه، ويدعك بها تحت إبطيه، وكفى يديه، كلما أهال الماء على جسده فى الطست الواسع الذى لا يسعه الكنيف الضيق فيضعه أمام باب الحظيرة، مطمئنًا إلى خروج ابنيه، وإغلاق زوجته باب البيت بالمزلاج القوى.
حين فتحنا عيوننا على الدنيا وجدناه على هيئة لم تتغير مع تقدم العمر بنا. وتد فى الأرض، وعمامة تشاكس الريح حين تميل، وبينهما جسد قصير متين مدكوك، كأنه قُدَّ من صخر. كلنا عرفنا عيادات الأطباء، ومعامل التحاليل، وغرف العمليات الجراحية. وحده بقى على حاله، لم يزره مرض، وحين كنا نسأله، كان يبتسم، ويصمت قليلًا، ويقال:
عليك بالبصل والثوم وحشيش الأرض.
نظرنا إليه فى تعجب:
حشائش الأرض؟!!
نعم.
إنها أكل البهائم.
يضحك من جديد، ويقول:
ما بهيم إلا بنى آدم.
كان يعرف الكثير عن الذين ماتوا ولم نرهم، وصار يعرف أكثر عن جيلنا الذى حل على رأسه بغتة، وسمع منه كلامًا غريبًا، تعلمه فى المدارس. مع الأيام تفرقت بنا السبل، فمن بيننا من سافر إلى بلاد بعيدة، ومن استقر فى البندر، أو انتقل إلى قرية مجاورة فيها من مظاهر التمدن الكثير، لتشحب ذاكرتنا، وتغيض فيها التفاصيل الآسرة.
وحده بقى، يحكى للأجيال التالية قصصًا عن زمن طويل مضى على بلدنا، لم يره أحد رأى العين مثله، ولم يسمع غيره، وهو صامت كجبل، كل هذه الأسرار، حتى صار لا غنى عنه إن أراد اللاحقون أن يسألوا عن الذين سبقوهم، عن حسبهم ونسبهم، وعما إن كانوا من الأخيار أم من الأشرار، ويستيقنون منه عن أخبار سمعوها ونسجت حولها الأساطير، فيعيدهم إلى مجرى الحكاية الأصلية فى هدوء.
أطلقنا عليه من أماكننا البعيدة، بعد أن وصلتنا أخباره لقب «مؤرخ القرية»، فذهب إليه كلامنا، فلم يلق له بالًا، واستمر يحفر فى الزمن ويأتى بأصل الحكايات. ورغم أنه لم يكن يتحدث من تلقاء نفسه، لكن حينما تنهمر فوق رأسه أسئلة الصبية والشباب لا يكف عن الحديث.
قهقه واحد منا، نحن الذين ابتعدنا لأسباب شتى، وكتب ذات يوم على صفحته فى موقع «فيسبوك»، تحت صورة «معوض» وهو جالس تحت سيقان جاموسته، وخلفه مدى أخضر تحط عليه زرقة صافية:
«الآن أدركنا أن الرجل الذى حسبناه فى الزمن البعيد مقطوعًا عن العالم، هو وحده فى قلب العالم، أما نحن، فقد انقطعنا عن كل شىء حميم حين تفرقت بنا السبل، وغرق كل منا فى أحزانه اليومية لاهثًا وراء مطالب لا تنتهى، كلما هرول نحوها ابتعدت عنه جذوره».
واستملح الناس الصورة وما كتب حولها، فانهال التحبيذات والمشاركات والتعليقات، التى جذبت كل أبناء القرية المنثورين فى بلاد الله، فدخلوا جميعًا ليعلقوا ويردوا على أسئلة الغرباء، واستمر هذا أيامًا، حتى صار «معوض» أشهر شخص فى قريتنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.