فى وقت يتطلع فيه الإنسان المصرى نحو الحرية، بعد أن كافح من أجلها، يجب تعريف ما هو المعنى بالضبط لكلمة ال«حرية». هل هى مثلا الحرية التى تأتى كمنحة من السلطة الجديدة، أم هى حرية التحرك المتاحة للفرد فى مجتمع تيقن أن من الضرورة أن تتاح تلك الحرية للإنسان المستقل، ومن ثم فرضها على السلطة المسيطرة؟ إن الفصل بين الحالتين يحتوى على جوهر مهم، بالذات فى حالة مصر الحالية، لأن البلاد محكومة من قِبل سلطة مؤقتة جاءت فى ظروف ثورية غامضة.. فهل المطلوب من تلك السلطة الانتقالية أى المجلس العسكرى أن تمنح الحرية للمصريين وتحاسب المفسدين، أم أن هذا الأمر يقع على عاتق المجتمع المدنى السياسى، وعلى القضاء المصرى عندما يكون له وضع مستقل فعلا، بأن ينظم نفسه ويصعد للمقدمة فى أعقاب انتخابات حرة؟ فلنفترض أن المجلس العسكرى فى المستقبل القريب قام بتلبية كل المطالب المتعلقة بمحاسبة قيادات النظام السابق، عن طريق الضغط على الأجهزة المختصة، هل هذا هو السبيل المراد فعلا، من أن تقوم جهة مؤقتة وغير منتخبة بفعل ذلك؟ يجب ألا يكون الحال كذلك، لسبب بسيط وأساسى، وهو أن الحرية تعنى أيضا المسؤولية، وبالتالى لا يجب إلقاء ثقل الحرية على «أولياء الأمر» فى السلطة، لأن ذلك يعبر عن التملص من المسؤولية ومن ثم الحرية. وهو وضع لا يمكن التكهن بنتائجه، لأن إلقاء أساسيات حرية التصرف تجاه جهة معينة قد يؤدى لإساءة استخدامها.. حتى يعطى الفرصة للجهة الموكل إليها منح الحرية لأن تتصرف باسم الشعب ومطالبه كما تشاء، وربما تفرض ديكتاتورية جديدة، لأن الشعب، ببساطة، منح هذه الجهة حقوقه فى الحرية، وأصبحت حقوق الشعب ملكا لها، فحرية التصرف صارت ملكا لها بالتالى. وقد يكون الحكم الاستبدادى الناتج عن ذلك أقسى بكثير مما عرفناه أيام النظام السابق، فقد يكون مشابها مثلا للحكم العسكرى الناصرى الذى قال أيضا إنه يمثل «الشعب»، وإنه كان يحارب أعداءه، أى أعداء الشعب، حتى انتهى الموضوع بأن يصبح الشعب نفسه هو الذى صار مستَهدفا من قِبل ذلك النظام، و«زوار الفجر» الذين كان يبعث بهم. أعتقد أننا لا نحتاج لقائد شعبوى آخر ليأتى ويحكمنا بالنيابة عن ال«شعب»، بل على ذلك الشعب أن يفعل الآليات التى تؤدى لتقرير مصيره. وهناك فرصة ذهبية لفعل ذلك حاليا.. فرغم وجود بعض التجاوزات المفزعة من قِبل سلطة المجلس العسكرى- وليس من أقلها ما حدث من عمليات إهانة وتعذيب داخل المتحف المصرى- فمن المرجح أنه سيعطى فرصة حرة للمصريين لاختيار طريقة الحكم التى يرونها مناسبة.. وهذه مسؤولية مروعة تقع على عاتق مجتمع لم يتعود عليها، مجتمع قد تم تفكيك أنسجته الفكرية والسياسية لمدة عقود، مجتمع يشبه الشخص ال«شيزوفرينى» الذى يتطلع لاكتشاف شخصيته وهويته من جديد، من خلال إعادة بناء واكتشاف جوانب نفسه المتعددة.. وفى حالة مصر، فإن ذلك يعنى آلاف السنين من تراكمات التاريخ. فى هذا الإطار يجب طرح السؤال بطريقة أدق: هل الحرية هى فقط حرية الرأى والتفكير أم حرية الفعل؟ فالأولى كانت موجودة إلى حد كبير فى ظل نظام مبارك، أما الثانية فيحتاج تفعيلها لإرادة اجتماعية تعترف، بل تدعم فكرة الاختلاف، ومعها حرية الاختيار الفكرى والثقافى والعقائدى.. بمعنى أن الإنسان لا يمكن أن يكون حرا إلا إذا كان لديه أكثر من نمط حياة وتفكير وتصرف مطروح أمامه ليختار منها ما يناسبه بطريقة مستقلة.. وأن يطبق مثل هذه الأفكار على أرض الواقع، وأن يتحمل مسؤولية تداعياتها على الحياة العامة إذا وصل فعلا إلى الحكم، أو حتى إذا كان له تأثير ملحوظ. أعتقد أن هذه هى الطريقة الوحيدة التى يمكن من خلالها للإنسان أن يتخلص، ليس فقط من الكبت الفكرى، إنما أيضا من جور النمطية المسيطرة بالذات فى مجتمع محافظ مثل مصر، فالمطلوب خصوصا فى مثل هذا المجتمع هو التخلص من الإخلاص لفكرة إرضاء السلطة - أو الخضوع للضغط الاجتماعى- والتركيز على التطلعات الجوهرية التى تعطى معنى لحياة الإنسان، والتى من خلالها يمكن أن يشعر باستقلاليته وكرامته، وبالتالى حريته. فمن المشاكل الأساسية التى تواجه الثورة المصرية فى رأيى، وجود عدد هائل من البشر الذى اكتشف «مصادفة» أنه كان حرا فى نطاق الحيز الضيق الذى كان يقدمه ضمنيا النظام السابق المتسلط، رغم عنفه واستبداده، ذلك لأن هؤلاء الناس قد تأقلموا معه وأحسوا بأن هناك من يتحمل المسؤولية بالوكالة عنهم- بصرف النظر عن طبيعة الوجوه المشؤومة غير الممثلة للشعب التى كانت تقوم بهذا العمل.. أو فسادها وفشلها العملى. الخلاصة البديهية هى أنه يجب الترتيب لمرحلة ما بعد خروج «الأب» والتفكير عن كيفما سنساعد الأم (مصر) على النهوض من جديد.. وتبديل التفاعل التلقائى الذى تحقق فى ميدان التحرير بمجتمع منظم وحر، ليس فقط لأنه ثورى، لكن لأنه كان متسقا وعقلانيا، وذلك قبل الاختلاف والتعدد فى مختلف أنماط الحياة. [email protected]