كبرت كثيرا، حتى أنني لم أعد أعرف نفسي عندما أنظر في المرآة، ذلك الكهل الأشعث لا يشبهني أبدا، فأنا لا أزال طفلا مندهشا يحب «الحواديت»، لذلك عندما قلت في نهاية المقال السابق أن لدي قصص مثيرة، سوف نتسلى بروايتها، لم أكن أقصد أن أكتفي بمعلومة من هنا ومعلومة من هناك، لأخبركم بحقيقة أحمد موسى، أو «صبيان المعلم» السريحة في كل الأسواق والمجالات والميادين، المعلومة عن هؤلاء ليست ذات قيمة، فأنتم تعرفونها.. جميعكم تعرفونها، وتعرفون أننا نعيش عيشة هباب، وأن الفساد صار في بلدنا هو البضاعة الوحيدة التي لا تبور ولا تخيب أمل زبائنها. مقالات متعلقة * نجمة سيناء * الرئيس فى خطر! * لماذا يموت السجناء فى سجون مصر؟ لذلك تجنبت الحديث المباشر بالمعلومة الجافة، ولجأت إلى حيلة تعجبني، وهي «الحواديت»، سأحكي لكم بعض «حواديت الكذب».. الحلوة منها، و«الملتوتة» أيضا، فكما تعلمون حتى «الحواديت» دخلت نظاق الفساد ولم تعد كلها حلوة! حدوتة (1) * في عشرينيات القرن الماضي كان هناك شاب ألماني يدعى بول، تفوق في دراسة الفلسفة والأدب، وبدأ يكتب الشعر والمسرح، ونال درجة الدكتوراة بدراسة عن المسرح الرومانتيكى، ومع بداية عمله في السياسة استغل تفوقه الثقافي في الدعاية لحزبه، وصار أشهر وزير إعلام في التاريخ الإنساني. بول المثقف الخجول العليل الذي أحكي لكم عنه، هو بنفسه جوزيف جوبلز الذي لم يبق منه إلا مقتطفات تمجد الكذب والتضليل ومكافحة الثقافة، الرجل الذي حاول أن يبني واقعا مزيفا من أنصاف الحقائق، وأجاد في استخدام الحرب النفسية، وواعتمد التكرار والإلحاح لغرس القناعات بدلا من الحوار والفهم والتحليل، أكلته نظريته، واختزلته إلى مجرد مشجع على الكذب يكره الثقافة ويقول: «كلما سمعت كلمة مثقفاة تحسست مسدسي»! أنا شخصيا، لا أستوعب قصة جوبلز كما روجها الإعلام الغربي، لأن التلميذ تعلم رمي السهام، فلما اشتد ساعده رمي جوبلز بنفس السهم: «الكذب كبديل للواقع»، و«كلما كانت الكذبة كبيرة، كان من الأسرع تصديقها» حدوتة (2) * في بداية الألفية الثالثة، وتحديدا في منتصف ديسمبر 2001، استأجرت فريق صغير من وكالة المخابرات المركزية C.I.A جناحا في فندق فخم بمدينة بتايا السياحية على الساحل الشرقي لخليج تايلاند. كانت المهمة تتمثل في استجواب مهندس عراقي يدعى عدنان الحيدري تطوع للكشف عن أماكن الأسلحة المحرمة التي أخفاها صدام حسين، مقابل منحه حق اللجوء ومنزل وحفنة من الدولارات قبل أن يصل فريق ال C.I.A كان هناك فريق من الإعلاميين والجواسيس يعمل على تدريب الحيدري وعدد من المعارضين العراقيين على التعامل مع جهاز كشف الكذب، والمثير أكثر أن هذا الفريق نفسه كان مكلفا من البنتاجون وال C.I.A أيضا بهدف تهيئة العالم لشن حرب ضد صام حسين، والرجل الغامض الذي كان يقود هذا الفريق هو «جوبلز أمريكي» من مؤسسة واشنطن يدعى «جون رندون»، تعاقدت معه سراً وزارة الدفاع الأمريكية «بنتاجون» للقيام بحملة دعاية كاذبة ضد صدام مقابل 16 مليون دولار! الغريب أن فريق C.I.A أدى عمله باحترافية محايدة، واستجوب الحيدري عدة ساعات، حيث أكد أنه كان مهندسا مدنيا عمل مع شركة مقاولات كبرى دفنت أطنانا من الأسلحة النووية والكيميائية بسرية تامة في مخابئ تحت الأرض أسفل مستشفى صدام حسين التي تعتبر أكبر مؤسسة طبية في بغداد. نظر ضابط المخابرات إلى الخطوط المتعرجة التي سجلها الجهاز، وأدرك بسهولة أن الحيدري لم يتقن الكذب، فالجهاز يوضح أن القصة المغومة مجرد «حدوتة خيالية ملفقة» الجميع يعرف أن القصة مختلقة، لكنهم كانوا يسعون إلى «كذب محبوك»، وبالتالي حمل فريق المخابرات حقائبه وعاد إلى واشنطن، لأن قصة الحيدري لا ترقى إلى المستوى المطلوب، لكن رندون لم ييأس، واستدعى مساعده «زاب سيثنا» لتدارس الأمر حتى لا يخسر «عقد الكذب»، ولما كان سيثنا هو الذي استقطب أحمد الجلبي وأسس ما يسمى «المؤتمر الوطنيِ العراقي» وقام بتهريب الحيدري إلى تايلاند مع عدد من المعارضين لاستخدامهم في الحملة ضد صدام، فقد اتفق مع الجلبي على خطة لترويج الأمر، فاتصل ب«جوبلز أسترالي» يدعى «بول موران» كان يعيش في البحرين، كما اتصل ب«جوبلزاية من نيويورك تايمز» تدعى جوديث ميلر، كانا من المتعاونين مع مجموعة رندون، وقال لهما الكلمة المعتادة في الإعلام: عندي لك خبطة صحفية قوية«، وكانت ميلر، مقربة من لويس ليبي ومسؤولين كبار في إدارة بوشِ، كما كانت تدعم الجلبي و»المؤتمر الوطني العراقي«تحت ستار مواجهة فاشية صدام. سافرت ميلر إلى تايلاند، رتبت لقصتها الصحفية، وأجرى موران مقابلة مع الحيدري، ولما عادت ميلر إلى واشنطن زعمت أنها أجرت اتصالات مع مصادرها في C.I.A وبنتاجون، وأطلقت قنبلة الكذب التي أدت إلى تدمير العراق، وبعد أن سقطت الأكاذيب واحدة تلو الأخرى، تحدثت ميلر بنفس السهولة «والاستعباط» التي تحدث بها أحمد موسى عن استخدام «الفيديو جيم» كوثيقة مصور للغارات الروسية في سوريا، وانكرت معرفتها نَتائجِ إختبار كشف كذبِ التي أجرته المخابرات للحيدري، رغم تفاخرها بقوة مصادرها. كان جون رندون يسعى إلى تلفيق قصة يعرف أنها كاذبة مقابل قيمة اعقد السخي الذي وقعه مع شياطين الكذب الكبار، وحقق هدفه عندما نشرت القصة في الصفحة الأولى للنيوزويك يوم 20 ديسمبر 2001 تحت عنوان: «معارض عراقي يكشف 20 مخبأ سري لأسلحة صدام المحرمة» وفي المتن اجتهدت ميلر في مخاطبة أصحاب الضمير والأخلاق وتفننت في التحريض ضد الطاغية الذي يخزن الأسلحة المحرمة، فيما كان بول موران يعزز قصة شريكته بحوار مع الحيدري في هيئة الإذاعة الأسترالية، ونشطت مجموعة رندون في حشد وعرض التلفيقات التي انتهت بشن الحرب لمجرد تلفيق، تم تقديمه للناس باعتباره الحقيقة والواقع. ما علاقة موسى وعيسى وأم الفلول بهذه الحواديت؟ وما علاقة اللواء سامح الطرابلسي، وهشام الشاذلي، والعباسيين جمعاء بالأخ جون رندون؟ وما علاقة الكذب الأمريكي بالثورة والإعلام في مصر؟ سنكمل الحدوتة.. الحلوة والملتوتة [email protected] اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة