أثار ما كتبته فى العمود المنشور فى هذه الزاوية يوم 10/3 تحت عنوان: «الفساد والأجهزة الرقابية» ردود أفعال واسعة النطاق ومتباينة. ولأننى استهدفت مما كتبت مناقشة دور الجهاز المركزى للمحاسبات وتساءلت عن جدوى وجوده فى بلد تعرض أثناء وجوده للنهب، فقد كنت آمل أن تركز ردود الأفعال هذه على تفسير الأسباب التى حالت دون تمكين الأجهزة الرقابية من القيام بدورها المأمول فى حماية المال العام، وبحث السبل الكفيلة بتلافى تكرار ما وقع من نهب فى المستقبل. وكان بوسع المستشار جودت الملط - والذى أكن له على المستوى الشخصى كل تقدير واحترام - أن يسهم بنفسه فى إثراء النقاش الدائر وتوجيهه الوجهة الصحيحة لو أنه تعامل مع الموضوع دون حساسيات أو عقد، وقبل وضع تجربته العريضة فى إدارة الجهاز المركزى للمحاسبات تحت الضوء وإخضاع تجربته الثرية هذه لرؤية نقدية تستهدف كشف ما وقع من أخطاء والعمل على تصحيحها والحيلولة دون تكرار حدوثها فى المستقبل، لكن السيد المستشار لم يفعل، وقرر للأسف أن يختار طريقا آخر يقوم على شخصنة القضية المطروحة للنقاش، على الرغم من أن أحدا لم يتهمه فى شخصه أو فى ذمته المالية. فقد اعتبر الرجل أن أى انتقاد للجهاز ينطوى على مساس ضمنى بنزاهته الشخصية. ولا أخفى أننى أصبت بدهشة كبيرة حين علمت أن سيادته شارك فى نفس يوم ظهور مقالى المشار إليه فى برنامج حوارى مطول بثته إحدى القنوات الفضائية المصرية، عبّر فيه عن استيائه الشديد من هذا «الأستاذ الجامعى» الذى جرُؤ على توجيه النقد للجهاز الذى يترأسه، ثم راح يتحدث بإسهاب عن نزاهته الشخصية وعن طهارة يده، مؤكدا أنه لا يزال يسكن شقة صغيرة فى حى الدقى لا تزيد مساحتها على 120 مترا ويستخدم نفس السيارة التى اعتادها منذ سنوات! ويبدو أن هذا الحديث أثار التعاطف لدرجة أن أحد أصدقائى من قدامى السفراء المخضرمين، والذى أثق كثيرا فى رجاحة عقله وحكمته، اتصل بى منبها إلى أن مقالى المشار إليه تسبب على غير المعتاد فى انقسام شديد بين القراء. ليس لدىّ علم بحقيقة الأسباب التى دفعت المستشار جودت الملط لسلوك هذا المنحى الشخصى للرد على انتقادات موضوعية موجهة للجهاز، على الرغم من أن أحدا لم يتعرض لشخصه أو يطعن فى ذمته المالية. ولا أريد أن أشكك فى صحة المعلومات التى ذكرها حول شقته وسيارته، والتى لا تتسق على أى حال مع ما هو معلوم عن مسيرته المهنية والتى تشير إلى أنه كان قد شغل من قبل وظائف مرموقة فى الخارج لسنوات طويلة. ولأننى أجهل حقيقة الأسباب التى دفعته للحديث عن أحواله المعيشية وأن يتخذ من تواضع هذه الأحوال دليلا على نزاهته الشخصية (وكأنه يتهم كل من يحيا حياة ميسورة أو يعيش فى بحبوبة بالفساد واللصوصية)، فليس لدى من تفسير لهذا السلوك سوى أنه ينطوى على محاولة بائسة للهروب من مواجهة الحقيقة التى سأتحدث عنها لاحقا باستدرار العواطف واستثارتها. لقد كان بوسع المستشار أن يكسب تعاطفا أكبر، فى تقديرى، لو أنه كان قد اختار منحى آخر وتحلى بما يكفى من الشجاعة للقيام بعملية نقد ذاتى تتيح للمصريين المصابين بالذهول من حجم الفساد الذى استشرى خلال فترة رئاسة المستشار الملط لأكبر جهاز رقابى فى مصر وأن يتعرفوا بدقة على حجم ونوعية الضغوط التى تعرض لها هذا الجهاز للحيلولة دون تمكينه من أداء دوره المتوقع والمنشود فى حماية المال العام. ولكى نصل إلى توافق عام حول الدروس الصحيحة التى يتعين استخلاصها من طرح قضية الأجهزة الرقابية فى بلد تعرض للنهب رغم وجودها للنقاش العام، دعونا نتفق أولا على: 1- أن مصر تعرضت فى عهد الرئيس السابق لعملية نهب منظم وواسع النطاق. 2- أن الجهاز المركزى للمحاسبات لم يتمكن أو يمكّن من تأدية دوره فى كشف الفساد وتقديم المسؤولين عنه للمحاكمة والحساب، على الرغم من وجود شخصية مشهود لها بالنزاهة على رأس هذا الجهاز. 3- أن المستشار الملط كان أحد الشخصيات المقبولة والمرضىّ عنها بدليل قيام الرئيس السابق، والمتهم الأول بالفساد، بالتجديد له ثلاث مرات وتمكينه من قيادة الجهاز الرقابى الأهم والأكثر حرفية فى مصر لمدة 12 سنة، وصل فيها الفساد إلى ذروته. لكن دعونا نعترف بأن الإجماع على هذه الأمور الثلاثة يضعنا جميعا أمام معضلة تحتاج إلى حل. وللتوصل إلى حل لهذه المعضلة، فلا مناص من طرح عدد من الافتراضات أو الاحتمالات، بعضها يتعلق بالمستشار الملط وبعضها الآخر يتعلق بطبيعة النظام السياسى نفسه. ففيما يتعلق بالمستشار الملط، قد يرى البعض أنه لم يكن حازما بما فيه الكفاية، إما بسبب طبيعته الشخصية غير الصدامية، أو إيثارا للسلامة خوفا من بطش النظام، أو طمعا فى منصب رفيع. أما البعض الآخر فقد يرى أن الرجل بذل أقصى ما يستطيع وأدى ما عليه ولكن فى الحدود التى لا تعرّض مصالحه للخطر، مكتفيا بالرصد والتحليل والتنبيه وإبلاغ أولى الأمر. وربما يكون هناك فريق ثالث يرى أن الرجل تعمد إمساك العصا من المنتصف حفاظا، من ناحية، على سمعة شخصية نظيفة لدى الرأى العام سعى لتثبيتها والترويج لها، وحرصا، من ناحية أخرى، على علاقة جيدة بالنظام تبقى على فرصه فى الوصول إلى مناصب أعلى، ومنها منصب رئيس الوزراء، مستلهما فى ذلك نموذج الدكتور عاطف صدقى على سبيل المثال! أما فيما يتعلق بالنظام السابق، الذى خبرناه سنين طويلة تكفى للتعرف الدقيق على أساليبه ومناهجه فى الحكم، فمن الواضح أنه كان ماهرا جدا فى الجمع بين جميع أنواع المتناقضات. فلم يكن هذا النظام يمانع فى استخدام وتوظيف شخصيات نظيفة وحسنة السمعة، من أمثال المستشار الملط، كى يصبح فى وضع يمكنّه من درء شبهة الفساد، لكنه كان حريصا فى الوقت نفسه على شل قدرة هذه الشخصيات على الفعل، أما الإدارة الحقيقية لشؤون الدولة والمجتمع فقد تركت عمدا لعناية زوجة الرئيس السابق ونجله الطامح فى الرئاسة وللمجموعات الفاسدة من رجال الأعمال الملتفة حولهما. ولأن المستقبل وليس الماضى هو ما يتعين أن تنشغل به مصر الآن أكثر من أى شىء آخر، فنأمل من المستشار جودت الملط أن يساعدنا على التعرف على حقيقة الأسباب التى أدت إلى شل فاعلية الجهاز المركزى للمحاسبات ومنعته من كشف وتعقب الفساد وتقديم المسؤولين عنه للمحاكمة. ورغم علمنا بتصريحاته التى تؤكد قيامه بإرسال أكثر من 1000 تقرير إلى المسؤولين، يدعى أنها تضمنت تشخيصا دقيقا للمخالفات التى أدت إلى إهدار المال العام، فاءننا نود رغم ذلك أن نطرح عليه أسئلة محددة نتمنى أن يساعدنا على معرفة الإجابات الصحيحة والدقيقة عليها. السؤال الأول: هل صحيح أنه أرسل تقارير سرية إلى رئيس الجمهورية السابق تتعلق بوقائع فساد محددة، خاصة عقود تخصيص أراض فى توشكا للوليد بن طلال وعقد مشروع مدينتى لشركة هشام طلعت مصطفى وعقود تخصيص الأراضى لعائلتى الجمال ومجدى راسخ وغيرهما، تجاهلها الرئيس؟ ولماذا تراعى السرية فى مثل هذه الأمور؟ وهل هناك ما يلزمه بالسرية؟ وماذا فعل أو كان عليه أن يفعل إزاء تجاهل الرئيس لها؟ السؤال الثانى: هل صحيح أنه امتنع عن إرسال تقارير تدين شخصيات بارزة أو نافذة فى النظام إلى الجهات المعنية، وظلت لسنوات طويلة حبيسة أدراج مكتبه لم يفرج عنها إلا بعد ثورة 25 يناير؟ وما حقيقة الأسباب التى منعته من ذلك؟ وهل قدم الآن كل ما لديه؟ السؤال الثالث: هل صحيح أنه امتنع عن استخدام صلاحياته فى إحالة المخالفين من أصحاب النفوذ إلى النيابة العامة، أو أنه أمر فى بعض الحالات بحذف الفقرات التى توصى بالإحالة إلى النيابة العامة من بعض التقارير؟ وهل يعود ذلك لتعرضه لضغوط؟ وما هى طبيعتها؟ وهل زالت الآن بحيث يمكن تقديم جميع المتهمين بالتورط فى الفساد إلى سلطات التحقيق؟ السؤال الرابع: كم عدد التقارير التى أعدها الجهاز المركزى للمحاسبات خلال السنوات العشر الأخيرة حول حسابات رئاسة الجمهورية وهيئة قناة السويس ووزارات الداخلية والمالية، والتأمينات الاجتماعية، وغيرها؟ وما تواريخ هذه التقارير ومصيرها؟ تحت يدى أوراق عديدة تؤكد إحجام الجهاز المركزى للمحاسبات عن القيام بواجبه لكشف وتعقب الفساد فى حالات عديدة، رغم توافر جميع المعلومات لديه. غير أن أكثر ما أثار دهشتى هو اضطرار رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات للثناء، دون مبرر، على رئيس الدولة والتأكيد على أنه الوحيد المنحاز للفقراء والمحتاجين فى هذا البلد. ففى تقرير بتاريخ 2/3/ 2009 عرض على مجلس الشعب كتبه المستشار، وأنا أنقل هنا مباشرة من نص التقرير أمامى، يقول: «إن السيد رئيس الجمهورية يتابع مع الوزراء والمحافظين وجميع المسؤولين بالدولة، ما يتعلق بحياة الناس، وتوفير الحياة الكريمة لأبناء مصر، والتركيز على مشاكل المواطنين. فالشغل الشاغل للرئيس هو حياة المواطن البسيط.. إن الرئيس مبارك لم يجد مفرا من التدخل المباشر لمواجهة سلسلة من الأخطاء فى عمل عشرات الأجهزة الحكومية..». فهل هذه لغة التقارير الرقابية؟ وهل رئيس الجهاز مضطر لذلك؟ وإذا كانت المشكلة فى القوانين واللوائح التى تنظم عمل الجهاز، فلماذا لا نحاول تغييرها من أجل مصر الجديدة؟!