في البداية يستوقفني سؤال يلح عليّ كثيرا منذ يوم تنحي مبارك .. متى ينتهي هذا التلاحق المستفز للأحداث على نحو لا يجعل أحدا قادرا على التفكير أو تحكيم العقل في أي خطوة حاسمة قادمة !؟ هل هذا أمر مقصود أم أمر تقودهُ الحالة الثورية أو الثورية المضادة على نحو عشوائي !؟؟ وهل هذه هي طبيعة الثورات عموما !؟؟ هذا التساؤل البسيط لا يثير نظرة تآمرية بالضرورة .. بقدر ما يثير نظرة اندهاش وعدم فهم .. تكونت عندي عموما من الأيام السابقة حالة استنكارية تجاه أغلب الآراء التي تبدأ بأن كافة الثورات تقوم على كذا .. وتفعل كذا .. ونتائجها كذا وكذا ! آراء متناقضة تماما تفرض نفسها تحت شعار أن الثورة يجب أن تكون هكذا وأن تصنع هذا الآن .. أو تؤجل هذا لوقت لاحق ! كلٌ يتصرف .. ثم يدافع عن تصرفه بعد ذلك بادعاء أن تصرفه يحافظ على الثورة .. مر شهر تقريبا على تنحي مبارك .. وهي مدة قد يراها شخص قصيرة وأراها طويلة .. والعكس ! قطعا حجم الإنجازات الذي تحقق خلال هذا الشهر كبير وكبير جدا .. ولكن .. ! عندما يتعلق الأمر بخطوة جوهرية أو بالخطوة الأكثر جوهرية تقريبا في الثورة .. ونجد هذه الخطوة يتم "سلقها" بشكل مريب مقابل إنجازات بعضها جوهري وأغلبها هامشي بالمقارنة فهذا أمر يجب أن نتوقف عنده للحظة كي نفكر .. أتصور أن المطلب الإصلاحي الأول الذي يتبناه النشطاء والحركات السياسية الإصلاحية من قبل وبعد الثورة كان وسيظل هو الدستور .. وما حدث في الثورة وبعدها جعل الطريق ممهدا تماما لتعديلات دستورية محترمة إعدادا لانتخابات برلمانية ورئاسية حرة ومتكافئة وعادلة .. وانتقالا "مضمون العواقب ديموقراطيا" للسلطة .. لحين إعداد دستور جديد لاحقا في ظل ما يقال –ويراد له التصديق- عن صعوبة إعداده الآن ! شكل المجلس العسكري بعد تنحي مبارك لجنة محترمة لتعديل الدستور .. بظني أنه حرص من خلالها أن يوجه رسائل كثيرة مهمة .. منها أن المرحلة القادمة ليست مرحلة إقصاء أحد بضم نائب الإخوان السابق صبحي صالح للجنة .. وأن وجود المستشار طارق البشري رئيسا للجنة يطمئن بعض المصابين بفوبيا المساس المادة الثانية نظرا لتوجه المستشار شبه الإسلامي .. وكذلك طمأنة كافة المواطنين نظرا للاحترام الذي يتمتع به أفراد اللجنة جميعا .. تلاحق الأحداث الذي لم يتوقف لساعة .. بين إنجازات جوهرية -مثل الإطاحة بشفيق وحكومته وإسقاط أمن الدولة- وهامشية -مثل قرب الخلاص من سرايا والقط وعبدالله كمال- ! للثورة قضت أو كادت على بقايا النظام .. وبين العديد والعديد من الموضوعات الفرعية والمفتعلة والتي يتم تضخيمها إعلاميا فتتضخم أكثر واقعيا بشكل عجيب .. بين مؤتمرات السلفيين وحرب شوارع الملصقات والبيانات "العجيبة" التي يخوضوها ضد "لا أحد" في الواقع ! وبين هدم كنيسة هنا وحب شاب مسيحي ومراهقة مسلمة قديم وغريب يتطور لاعتصامات مسيحية غرائبية مع مطالبات أكثر غرابة بالإفراج عن قسيسين –وكأن احنا عاوزين نطلب أي حاجة وخلاص- .. لم يسكت بالطبع السلفيون عليها فخرجوا للتظاهر من أجل كاميليا ووفاء –لاحظ أن الفئتين الأكثر تظاهرا وقلقا وعبثا الآن هما نفسهما من حرمتا المظاهرات يوم24 يناير- ! .. هذا التلاحق ألهى الناس في دوامة لا تنقطع من المتابعات الخبرية والتنظريات المتوالية لأحداث "اللحظة والساعة واليوم على أقصى تقدير" .. في مقابل تقلص مدهش لمساحة المتابعة والتنظير لما هو أهم من هذا كله وهو الدستور الذي سنخوض وفقه انتخابين ربما فارقين في تاريخ مصر –يكفي أننا نأمل في أن يكونا أول انتخابين نزيهين ومؤثرين!- .. اللجنة المحترمة أنهت ما ارتأته مناسبا من تعديلات .. والمجلس العسكري قرر الاستفتاء على هذه التعديلات بعد عشر أيام من الآن .. يوم 19 مارس .. ولا زالت 90% من المتابعات خبريا وتنظيريا تدور في فلك الاعتصامات الفئوية والفتن الطائفية ! الآن نحن أمر واقع .. استفتاء على عشرة مواد دستورية معدلة بعد عشرة أيام .. بالنظر إلى النخبة سنجد مجموعة من الانقسامات وليس انقساما واحدا من خلال ردود الفعل المحدودة التي صدرت –مقارنة بجسامة الحدث- .. فهناك تيار محدود يرى بأن هذه التعديلات جيدة وكافية الآن .. أفضل من شرح هذا الاتجاه هو د.معتز بالله عبدالفتاح الذي بين في مقاله بالشروق أن علينا أن نخفض الآن سقف المطالب .. وننتقل من المثالية الثورية إلى الواقعية الثورية .. ويعدد مخاوفا من وجهة نظره قد تجعلنا نقول إذا استمر هذا الوضع الفوضوي لأن نقول " يا ليت ما جرى ما كان! " .. هو إذا يرى أن علينا أن ننطلق بناء على قاعدة مؤقتة جيدة أو شبه جيدة لاتخاذ خطوات أخرى لاحقة تستقر بالأوضاع قليلا وتساعدنا على دفع الوضع الديموقراطي والتنموي الآمن .. في المقابل فإن تيارا يبدو الأكثر اتساعا نخبويا يرفض هذه التعديلات .. وتتعدد وجهات نظرهم في ذلك .. فبينما يرى فريق أن هذه التعديلات في هذه المواد مقبولة لكنها غير كافية وكان يجب أن تشمل مواد أخرى مثل المواد التي تمنح صلاحيات مطلقة لرئيس الجمهورية مثلا .. بينما يرى فريق ثاني أن هذه المواد بجانب أنها غير كافية فبعضها أيضا عليه ملحوظات وعلامات استفهام كبيرة مثل المادة التي تشترط ألا يكون المرشح لرئاسة الجمهورية متزوجا من غير مصرية ! .. وهناك فريق ثالث يرفض أصلا القبول بمبدأ التعديل الجزئي لدستور يرى أن الثورة أسقطته تماما وأن ما يحدث هو ترقيع لدستور بالي فعلا .. ويريدون دستورا جديدا تماما عبر لجنة تأسيسية أو حتى إعلان وثيقة دستورية مؤقتة .. هذا هو مجمل كل ما يدور في أروقة النخبة .. لكن تظل هناك عدة أمور تؤرقني أنا على المستوى الشخصي تدور كلها في فلك أن ما تم يشابه ما كان يتم في السابق وكنا نرفضه جميعا ومن غير المقبول أن نقبل بنفس الفعل لمجرد تغير الفاعل .. أول هذه الأمور أن هذه التعديلات تمت من جانب واحد .. صحيح أنه جانب محترم ومشهود له بالنزاهة .. إلا أنها نفس المشكلة التي نعاني منها ونشكو منها من سنين ! العمل المنفرد أحادي الجانب دون الاستماع للآخر ! ثم تمرير هذه الرؤية الأحادية والتجاهل التام لكل ما يثار حولها من ملاحظات قيمة وجديرة بالتأمل والانتباه من أناس مشهود لهم كذلك بالنزاهة والكفاءة والتخصص ! هذه واحدة .. الثانية هي أن هذه التعديلات بها مادة تحمل شبهة الإقصاء الشخصي ! وهي المادة الخاصة بشروط جنسية المرشح الرئاسي وزوجته .. فكما يعلن أن هذا التعديل مؤقت وبالتالي ستقتصر على الانتخابات القادمة فقط .. إذن لا يمكننا أن نبرئ ذمة هذه الشروط شبه المجمع على غرابتها وإجحافها من شبهة إقصاء عمد لمرشح ك د.أحمد زويل –خاصة أنه أعلن تفكيره في الترشح- أو غيره .. وطالما أننا كنا دوما نرفض شبهة تفصيل التعديلات الدستورية لصالح جمال مبارك فإننا يجب أن نرفض بالتالي شبهة تفصيلها إقصاء لأشخاص محددين أو حتى غير محددين ! وهذه الثانية .. أما الثالثة والتي تؤيد الثانية بشكل ما .. أن هذه التعديلات ستقدم لنا بنظام "اللوكشة الواحدة" ! .. بمعنى أنه إما أن نقبلها كلها أو نرفض كلها ! وهذا شئ عارضناه جميعا في ال34 مادة التي عدلها مبارك في ولايته الأخيرة ! فكيف يمكن أن نقبل به الآن والمطروح لا يتجاوز عشرة مواد !؟ نفس ما كنا نقوله من أن هذا دس للسم في العسل يتكرر الآن .. بمعنى أنه لكي نخطو خطوة للأمام فنقبل بشروط جيدة للترشح من حيث عدد الموقعين وتوزيعهم .. وتحديد مدد الرئاسة وغيرها .. فإنه علينا أن نقبل بمادة يراها الكثيرون إقصائية ! شئ مدهش ويضطرنا أن نربطه بالملحوظة السابقة ونضعها في إطار العمد ! هذه الملاحظات الثلاثة على قدر تشابهها مع ما كان يحدث سابقا .. وبما يعطينا مؤشرا خطيرا أننا نسير في اتجاه ليس صحيحا تماما .. فإنه كله كوم .. والملاحظة الأخيرة لي التي تحمل نفس هذا التشابه كوم آخر .. إنني أرى أننا مقبلون على عملية اقتراع نتيجتها محسومة سلفا .. فكل ما أوردته عن نقاشات وأطروحات حول هذه التعديلات تبقى مجرد آراء جدلية نخبوية لم تأخذ أي صدى ملموس بين عموم الناخبين ! .. إنني ما زلت أعرب عن اندهاشي الشديد من أن هناك استفتاء دستوري بعد ما يقارب الأسبوع ووسائل الإعلام الأكثر تأثيرا ووصولا للناس في منأى تماما عنه إلا من بعض الفقرات محدودة الوقت ضبابية الرسالة .. كان هناك استعجالا مريبا لتمرير هذه التعديلات .. وتعتيما أكثر ريبة على مناقشتها وتوضيحها لرجل الشارع البسيط الذي أتصور أنه من المفترض أنه سينزل واثقا من أن صوته له قيمة .. وأتصور أن هناك حالة من قصد هذا التعتيم لتظل الصورة التي وصلت لرجل الشارع البسيط أن التعديلات الدستورية هذه قدمت لتحقيق المطالب الإصلاحية كاملة وكل ما عليه هو أن يضع تأشيرته أمام "موافق" ! في انتخابات مجلس الشعب السابقة التي لم يمر عليها سوى عدة شهور .. حزنت لأن اسمي لم يكن مدرجا بجداول الانتخاب لأني كنت أتممت بالكاد وقتها ثمانية عشر عاما .. لكن خفف من هذا الحزن إدراك داخلي أن صوتي لم يكن حرا بشكل كامل .. وكان سيتم تزويره بصورة أو أخرى .. وأن النتيجة ستكون شبه محسومة .. أما بعد الثورة فقد استبشرت خيرا أن القادم سيحمل طبعا مثاليا .. وأن صوتي من الآن مؤثر وجذري ! لكني الآن أخشى أن صوتي في هذا الاستفتاء ليس مؤثرا كذلك .. وأن النتيجة تبدو كذلك شبه محسومة ! كاذب من يقول أن الديموقراطية تساوي فقط اختيار الأغلبية في صندوق الاقتراع .. فهذا إنما هو قول حق أريد به الباطل .. إذ يجب أولا أن تكفل فرصة عادلة لأن توعي هذه الأغلبية بالرأي والرأي الآخر .. وأن تحاول منحها حرية التفكير في النماذج المختلفة والحلول والبدائل .. لا أن توجهها إعلاميا إلى سيناريو واحد .. معتمدا على إلهائها بأحداث متلاحقة يوميا لتنشغل عن التفكير في الحدث الأهم ! الأمر الواقع أن الناس في مصر ستقول وفق رؤيتي ومشاهداتي المحدودة : "نعم" لهذه التعديلات .. ليس لأنها مقتنعة بها بشكل كامل .. وإنما لأنها لم تعرف عن هذه التعديلات سوى أنها تعديلات تم إدخالها تلبية لطلبات الثوار .. ولم تسمع شيئا في الغالب عن هذه النقاشات والتحفظات الوجيهة .. مع تلاحق مريب للأحداث .. وتغطية أكثر ريبة لها .. أشعر أننا بالفعل لسنا مخيرون بين "نعم" و "لا" .. بل إننا أمام عملية اقتراع يشوبها أسوأ ما يمكن أن يشوب عملية اقتراع .. وهو الإحساس بأنها شبه محسومة سلفا .. أخشى أن النظام السابق كان يتعامل معنا بديكتاتورية حقيرة سيئة النية .. بينما يتعامل معنا النظام الجديد بديكتاتورية نبيلة حسنة النية ! نفس الأسلوب .. ونفس المنهج .. أحادي الجانب .. إقصائي .. إلهائي .. يمرر ما يراه .. الفارق أن النظام السابق كان يمرر ما يراه في مصلحته بينما النظام الجديد يريد أن يمرر ما يراه في مصلحتنا ! هل نحن مخيرون !؟ ربما لكن لا أظن ! هل يمكن أن تتصف الديكتاتورية بالنبل !؟ ربما لكن أشك !