■ هل سيكون من قبيل التنكيت أن نسأل: ماذا أعدت مصر فى حال وقوع السودان فى حالة فوضى؟ - لا يستطيع الغريق أن ينقذ غريقاً، ولا العيان أن يحيى محتضرًا. لكن هذا لا يمنع من طرح السؤال النكتة، ولو باعتباره الحق الممكن من حقوق الإنسان الذى نستطيع أن نحصل عليه فى هذا البلد. نعم، من حقنا أن نمزح كما يمزح الزعماء فى مؤتمرات قمتهم، وحتى من دون مؤتمرات. لسنا أقل وعيًا ولا أكثر هيبة منهم لكى نقاطع الفكاهة والضحك، وندعهم يتصرفون فى مستقبلنا وهم يضحكون. السؤال عن مستقبل السودان، وإن بدا مزاحًا، إلا أنه يختلف عن لهو القادة العرب، لأن جانبه الآخر جاد ومؤلم؛ فالسودان ليس البوسنة والهرسك، نتضامن معه لندخل الجنة، بل هو ضرورة حياة لنا فى هذه الدنيا. والأوضاع السيئة أصلاً ستتدهور أكثر، إذا انهار البلد الجار الشقيق. وإذا كانت مماطلة نظامنا فى دفع الاستحقاقات الديمقراطية للمرحلة، ورفض الاستجابة لتقديم تنازلات ديمقراطية تهدد مستقبل مصر بالفوضى، فإن الفوضى ستكون مؤكدة إذا تفكك السودان، وهو احتمال أصبح قائمًا أكثر من أى يوم مضى، بعد إعلان الأحزاب الرئيسية بالسودان مقاطعتها الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها يوم الاثنين القادم. المنسحبون هم اللاعبون الأساسيون فى الحياة السياسية السودانية قبل أن يخرج عمر البشير بانقلابه عام 1989، وهم الصادق المهدى رئيس حزب الأمة، وإبراهيم نقد زعيم الحزب الشيوعى، وخاتم السر مرشح الحزب الوحدوى الديمقراطى، ومبارك الفاضل زعيم إحدى فصائل الأمة. جاء انسحاب المعارضين الأساسيين بعد يوم واحد من انسحاب مرشح الحركة الشعبية لتحرير السودان ياسر عرمان. ولدى كل من الأحزاب المنسحبة حساباته التى قد لا تكون مستقيمة دائمًا. هناك مطالب بضمانات ديمقراطية واحتجاجات منذ أشهر طويلة على كشوف الناخبين، لكن هناك أيضًا حسبة الحركة الشعبية المعقدة؛ فهى جزء من الحكم مع المؤتمر الوطنى، بموجب اتفاقية نيفاشا، لكنها انضمت إلى المعارضة فى مطالبها بشأن ضمانات نزاهة الانتخابات. ويمكن أن يكون انسحابها ظاهره التضامن مع المعارضة وباطنه التضامن مع الرئيس لأن مرشحها كان الأقوى من بعده، وإذا أنهكه فى المنافسة الديمقراطية وانتهت العملية الانتخابية بفوز البشير فربما يعمد إلى معاقبة الجنوب بإلغاء الاستفتاء. على أية حال، لم يبق للبشير من الأسماء المعروفة سوى حسن الترابى الذى أعلن تمسكه بالمنافسة، وكأنهما معًا قدر السودان وشعبه، فبعد إعلان الانقلاب على حكومة الصادق المهدى، ظهر أن البشير لم يكن سوى القفاز الذى ارتداه زعيم المؤتمر الشعبى الإسلامى للإطاحة بالقوى الديمقراطية، ثم تمرد القفاز على اليد فقطعها وحكم بنفسه. تم الطلاق بينهما، وصار الترابى يتمشى بين بيته والسجن. ويبدو أن الأدوار ستنعكس هذه المرة ليصبح الترابى القفاز، أو المحلل الذى يُبقى عمر البشير فى السلطة بمظهر ديمقراطى. الاتهام بالعمالة للغرب الجاهز دائمًا لأى عربى يسعى إلى التغيير فى بلده، أطلقه البشير فى وجه قوى المعارضة، بينما كان هو يستقبل المبعوث الأمريكى!! لكن السودان فى هذه الانتخابات ليس كالسودان فى أى مرة سابقة، وليس مثل أى بلد عربى آخر يمكن أن تطبخ فيه الانتخابات تطبيخاً، أو العيش بلا انتخابات أصلاً. الانتخابات السودانية هى جزء من اتفاقية السلام الشاملة التى عقدت فى نيفاشا (وليس فى القاهرة، هه؟؟) عام 2005. ومن المفترض أن تجرى هذا الشهر الانتخابات الرئاسية والتشريعية وانتخابات الولايات، لتكون الفترة التى تعقبها مرحلة اختبار لسودان جديد قبل إجراء استفتاء يناير 2011 الذى سيقرر مصير الجنوب وحدة أو انفصالاً. وإذا مضت الانتخابات على هوى الرئيس البشير، واستمر فى الرقص بالعصا والتلويح بها للمعارضين، فهناك أحد احتمالين لا ثالث لهما: إما أن تشتعل الحرب الأهلية بضراوة تلغى الاستفتاء وتعلن انفصال الجنوب وربما أقاليم أخرى، وإما أن تبدأ أحداث عنف محدودة يمكن معها إجراء الاستفتاء والوصول إلى النتيجة نفسها، أى الانفصال فى مظهر ديمقراطى. ليس هناك من مهرب للسودان إلا إلى الديمقراطية، وأن يكون هناك من ينبه الرئيس عمر البشير إلى أن عصاه ليست عصا موسى لكى تبتلع كل النيران الموجهة إلى صدر بلده الغنى بإمكانياته البشرية والطبيعية المهدرة. ولابد أن تطلب مصر منه ألا يلعب بعصاه فى مستقبلها أيضًا. ومن منطلق الأخطار التى تهدد السودان وارتباط المصير مع مصر، يصبح سؤال: كيف حال الأهل فى السودان؟ جادًا، لكنه يبدو مزاحًا فقط من باب أن عبدالمغيث يحتاج إلى من يغيثه!