توفى يوم الخميس الماضى الباحث والناقد التونسى الكبير «الطاهر الشريعة»، الذى يعتبر الأب الروحى للسينما فى تونس وكل دول المغرب العربى، وفى أفريقيا السوداء، خاصة التى كانت تخضع للاحتلال الفرنسى، فمنذ منتصف خمسينيات القرن العشرين الميلادى وحتى مطلع الستينيات استقلت دول المغرب العربى ودول أفريقيا السوداء، وكان من أبغض نتائج الاحتلال عدم وجود إنتاج سينمائى وطنى فى هذه البلاد، وكان الطاهر الشريعة على موعد مع التاريخ ليساهم فى وجود الإنتاج السينمائى الوطنى ودعمه مع قلة من كبار المثقفين العرب منهم التونسى الشاذلى القليبى، خاصة عند توليه وزارة الثقافة فى تونس، والمغربى نور الدين صايل. كانت البداية فى نوادى السينما وجمعيات الهواة، حيث عمل «الشريعة» على تطويرها بعد استقلال تونس، وتكوين اتحادين كانا الأقوى على الصعيد العربى، وإنشاء مهرجان قليبية لأفلام الهواة، ثم مهرجان قرطاج السينمائى الدولى عام 1966، وفى هذه الدورة الأولى من المهرجان الأعرق فى العالم العربى حضر المؤرخ والناقد الفرنسى العالمى جورج سادول، واقترح على «الشريعة» أن يخصص المهرجان مسابقته للأفلام العربية والأفريقية، ابتداءً من الدورة الثانية عام 1968، وهذا ما كان وإن لم يحضر «سادول» الدورة لوفاته عام 1967. وأصبح مهرجان قرطاج ليس مجرد مهرجان، وإنما مهرجان يصنع تاريخ السينما العربية والأفريقية. قال «سادول» عندما شاهد أول فيلم أفريقى فى قرطاج 1966، وهو «السوداء المجهولة» إخراج السنغالى عثمان سمبين (1924- 2007)، لقد أنهى وجود هذا الفيلم «فضيحة» فى جبين الإنسانية. وبالنسبة للسينما العربية كانت هى السينما المصرية حتى السبعينيات، وفى العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين تنوعت السينما العربية ولم تعد مقصورة على السينما المصرية، وكان مهرجان قرطاج فى فترة إدارة «الشريعة» وبعد انتهاء هذه الفترة النافذة التى تحدد أهم الأفلام العربية والأفريقية وتفتح لها ولصناعها الطريق إلى العالم. ولم يقتصر دور «الشريعة» على تأسيس وإدارة مهرجان قرطاج، وإن كان هذا أكثر أدواره شهرة، فكتبه وأبحاثه بالعربية والفرنسية كانت المراجع الأولى عن السينما المغاربية والأفريقية، ولا تزال من المراجع الأساسية، كما كان دوره بارزاً فى دعم عشرات الأفلام من مواقع مختلفة فى تونس وباريس وداكار وواجادوجو، ودفع «الفاتورة» كاملة بدخول المعتقل السياسى فى تونس أيضاً. وعلى الصعيد الشخصى كان من أصدقاء العمر منذ التقيت به لأول مرة فى مهرجان كان 1967، وقد أودعت رسائله لى فى أرشيف جمعية نقاد السينما فى تونس، وتبلغ نحو 500 صفحة منها كل رسائله أثناء الاعتقال. علمت أن مهرجان قرطاج نظم له حفل تكريم خاصاً أثناء انعقاد دورة هذا العام يوم 27 أكتوبر الماضى، وأنه حضر الحفل على مقعد متحرك، وبوفاته يوم 4 نوفمبر بعد 7 أيام تحول الحفل إلى حفل وداع، وكما قال شكسبير هناك أشياء كثيرة بين السماء والأرض لا نعرفها- رحم الله سبحانه وتعالى الطاهر الشريعة بقدر ما أعطى، وقد أعطى الكثير. [email protected]