حفل العرض الاحتفالي المحتفي بإبداعات عشرة من كبار الفنانين التشكيليين في صالون مصر الثاني بالكثير من اللقطات الجمالية التي تعكس تعدد إيقاع الفكر التشكيلي ودلالاته ما بين حوارية القطع والوصل في فنون المثاقفة التشكيلية ولعبة التوازنات على النحو الذي تمثل في أعمال الفنان مصطفى عبد المعطي، وتلاشي الجزئي في الكلي في تأملات الشكل المتشظي في التكوينات الإيقاعية اللونية في أعمال الفنان فاروق شحاته وثنائية المادة والروح وتزاوجهما في أعمال الفنان أحمد نوار – حول الإنسان والطاقة – تلك التي تعود بنا إلى حالة من حالات التناص التشكيلي مع دلالة التزاوج بين المادة والروح التي شكلت ثنائية الحضارة المصرية عبر مسارها التاريخي في (عودة الروح) التي أبدعها شباب فكر توفيق الحكيم، فضلاً عن دلالة التزاوج بين العلم والخرافة في الواقع المصري الذي عكسه فكر يحيى حقي المتدرج ما بين خطوتين للأمام وخطوة للخلف في (قنديل أم هاشم). ويشف إيقاع فكر الفنان مصطفى الرزاز في أعماله المعروضة عن القيد التراثي على انطلاق التحديث والحداثي في إطار الكشف – ربما- عن دور الفن التشكيلي في نقد مسيرة واقعنا التاريخي المعاصر، والرسوبيات الثقافية التي علقت بتجليات فعله نحو مستقبل أفضل. أما التماثل التشكيلي والتماثل المضموني فهو الطابع الذي تأسست عليه بعض الأعمال المعروضة للفنان حلمي التوني التي تشف عن رتابة الواقع الحياتي في الريف المصري (لوحة الذهاب إلى الحقل والعودة إلى البيت) ولوحتا المخلّص الديني حيث يغرس الفارس حربته على الأرض بجوار الأهرامات ويهبط الملاك المجنح بتيمة الصليب النسوي الهيئة شاهراً سيفه في الهواء أسفل جناحيه وهو يشرع بالهبوط إلى جوار الأهرامات. على أن تجاور لوحتي الذهاب والعودة وما تشف عنه من رتابة الحياة العملية، مع لوحتي الخلاص الديني سواء المجنح بسيفيه هبوط الديمومة على حياتنا اليقينية والظنية ربما كان تجاوزاً مقصوداً في تنسيق لوحاته في الحيز المخصص لأعماله، حتى يوحي ذلك التجاور للقراءة النقدية – قراءة كقراءتي تلك – من منظومة (فوكوه) حول انحدار تيمة من تيمات سابقة سواء عن طريق الإحالة المعرفية للمتوسطات القرائية أو عن طريق التغذية الراجعة لمخزون إبداعات تشكيلية سابقة وصوره في الذاكرة التخيلية البصرية. على أن فكر الصورة في أعمال الفنانة زينب السجيني قد تقنّع بأقنعة الفعل النسوي الخلاّق منفرد الفعالية والتفعيل عبر المسيرة الحضارية على ضفاف النيل. وهو اتجاه صح في مجال الأدب وفي مجال النقد النسوي في تاريخ ما بعد الحداثية في العالم كله، فلئن رادته الفنانة زينب السجيني منفردة أو مع غيرها في الفن التشكيلي فذلك يحسب لها. أما الفنان جميل شفيق فقد تدرّع بالتناص التشكيلي وهو وإن كان تقنية أدبية إلا أنه تقنية فنية ينوّع هو عن طريقها على تيمة الانتظار في تصوير لقطة أو مواقف ذا صبغة درامية هي أقرب إلى أسلوب الأداء. تأسيساً على بنية السرد التشكيلي الدرامي لفكرة بناء الأسرة بدءاً من الثنائية الرومنسية بين الجنسين خوضاً في نهر الحياة ؛ في خلفية اللوحة التي تتفرع في تكوينين منفصلين أحدهما للذكر تحت الماء منشغلاً بحلم احتضان صيده (سمكة بحثاً عن قوت أسرته). والآخر للأنثى تحمل فوق رأسها شكلاً بيضاوياً شفافاً يحوي سمكة أيضاً (حلم انتظارها لمولود) فكلاهما في حالة انتظار، وهو في معاناته لاصطياد الرزق وهي في معاناة الحمل واصطياد مولود. كما تمثلت تيمة الانتظار أيضاً في تعبيرات متعددة لحالات الانتظار الطويل الذي ربما استمر على فصول أربعة أو مدار يوم (صبحه وضحاه وعصره وليله) مما جعل الفنان يقسم اللوحة إلى أربعة أقسام متناصة الأسلوب في شكل الرباعية الشعرية. كما أعاد إنتاج تيمة الانتظار في لوحة أخرى لامرأة تعيش حالة الانتظار، مستخدماً الرمز اعتماداً على (قطة وسمكة) متلازمين في حالات انتظارها التي ربما تكون ممتدة مع الرغبة في لقاء حميمي ساخن يعتمل بين جوانحها وهي رغبة مكبوتة عبّر عنها الفنان بتنمر القط في سكونه إلى جوارها غير أنها رغبة متذرعة بالصبر، على أمل وقوع الصيد (المعبر عنه بالسمكة) في حضنها، بمثول صاحب الصورة المعلقة على الحائط مثولاً مادياً. ويعوّل الفنان فرغلي عبد الحفيظ على ذاكرته البصرية كثيراً في إعادة إنتاج متتاليات يقارن فيها بين نماذج من ثقافات شعوب تأثرت بموقعها المنفتح على ثقافات شعوب البحر المتوسط، ليصل إلى مقاربة ثقافية كونية تغرس جذورها في ماضينا البعيد على امتداد تاريخ الإسكندرية البطلمية. وتمتد فروعها لتصل إلى حاضرنا – حاضر فرغلي عبد الحفيظ نفسه – محمولة على ألوان فيها من الزهد وبلاغة النظر على الثقافة الكونية بعين باردة، لذلك سيطرت الألوان الباردة لتضفي على الكثير من أعماله في هذا المعرض سمة باهتة توحي بقدم تلك الأعمال أو تشي بأنها أعمال اكتشفت حديثاً لفنان من عصور سابقة. أما مسك الختام في جولتنا التأملية لأعمال فنانينا التشكيليين الكبار في مهرجان الإبداع التشكيلي فتمثلت في تأمل بلاغة التشكيل وجماليات الروعة والتشويه في أعمال الفنان أحمد فؤاد سليم، حيث فن قيادة اللوحة لعين المتلقي يتخذ من التشويه الجزئي المتعمد في التكوين وسيلة لتوجيه عين المتلقي نحو التركيز على مناط الجمال في ذلك التكوين نفسه. ففي آخر لوحاته 2008 التي اعتمد فيها على بلاغة الألوان حيث اقتصرت على مساحة لونية سوداء تتحول إلى خضرة داكنة تتصاعد من قاع اللوحة حتى ثلاثة أرباعها تصاعداً رأسياً كما لو كانت تشكل حائطاً جبلياً من جبال مدينة حقل السعودية أو قطاعا من قطاعات جبال نويبع الشهيرة في ليل حالك الظلمة، حتى أني تصورت أنه جبل يحول بيني والتقدم وكدت أتراجع بعيداً عنه، غير أني في خطواتي المتراجعة شدني سطوع الضوء في أعلاه حيث فضاء فضي علوي وهالة بنفسجية اللون تؤطر تكويناً رقيق اللون أخضر، اقتربت متأملاً له فإذا بي أتصوره وحشاً. فكانت دهشتي حيث يواجه الفنان متلقي لوحته بحائط كوني داكن شديد الارتفاع تنحدر قمته القاتمة انحرافاً حاداً نحو يمين اللوحة ليبدو سطحه المتوج بمهد بنفسجي بيضاوي مضيء ينام في داخله وحش كساه الفنان بعباءة رقيقة ساطعة الاخضرار وينصبه على سرير الطبيعة. وهنا تذكرت قول المعري: " عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوّت إنسان فكدت أصيح " وتساءلت في نفسي ترى هل آمن أحمد فؤاد سليم بما آمن به أبو العلاء المعري فعبّر عنه في بيته الشعري هذا ؟! هل يرى سليم أن الإنسان يستحق أن يقبع بعيداً عن تسنم قمة الكون، لافتقاده لروح المغامرة، أو لأنه كما رأى صاحب الرؤية النقدية لإبداعات هؤلاء الفنانين قد بنى صرحاً من الشرائع والعادات والقوانين واللوائح، حالت بينه وبين الصعود إلى قمة الكون فهو بنفسه الذي صنع تلك التشريعات والعادات والقوانين واللوائح التي قيدت حريته وشلت حركته وحالت دون صعوده في الوقت الذي عاش فيه الوحش حراً طليقاً لذلك استأهل الجلوس على عرش الطبيعة متوجاً بالهالة الوردية التي توجه بها الفن وتلك هي بلاغة الروعة والتشويه في جماليات تلك اللوحة. في لوحة السباق يبدو السباق إلى الخلف ربما بقصد الإحالة التاريخية إلى قدم هذا اللون من الرياضة وربما الإحالة إلى قدم صراع التسابق في مسيرة الحياة الإنسانية بصفة عامة حيث الإنسان في صراع مع الزمن ومع نفسه ذاتاً وجماعة. ذلك أن تكوين الأجساد يميل بالجذوع إلى الخلف واتجاه الأقدام نحو الأمام. والتسابق في الركض بفرض على المتسابق الميل بجذعه إلى الأمام. غير أن تكوين جذع المتسابقين في اللوحة ينحرف عن الحقيقة الواقعية التي تفرضها حالة الاستعداد للانطلاق نحو الأمام. وهذا الانحراف أو التشويه المقصود في وضعية الأجساد المتسابقة لا يشف عن حالة الاستعداد والتهيوء الموحي بحالة الانطلاق، لأن جهد الطاقة موزع بالكلية في اتجاه معاكس لعملية الانطلاق، حيث انتقل مركز الثقل في التكوين الجسدي للمتسابقين نحو النصف الأعلى للجسد منحنياً نحو الخلف وليس نحو الأمام. وهو أمر يحض المتلقي على التأمل وتوجيه نظره نحو المسكوت عنه في تلك اللوحة، ومن ثم يدرك دلالة اللصورة، ذلك الإدراك الذي يولد في داخله نشوة الشعور بالتفرد بفك شفرة الصورة. تلك النشوة التي هي مناط الابتهاج الجمالي لفعل التلقي. على أن التكوين في حالة إرهاص أجساد المتسابقين بالحركة (الثبات ظاهرياً والحركة الساكنة الكامنة في تجليات التهيوء لانطلاق الطاقة الجسدية) لا يحقق الدلالة المسكوت عنها في الصورة منفرداً، بل يتآذر مع الأرضية في تحقيق تلك الدلالة، وهو ما يوجه إليه تقسيم المساحة الأرضية في تحقيق تلك الدلالة، وهو ما يوجه إليه تقسيم المساحة الأرضية إلى لونين أحدهما يشكل مضمار السباق وقد اتخذ اللون الأزرق السماوي الصافي الذي تشكل على هيئة تكوين هرمي قمته إلى الخلف بعكس اتجاه أقدام المتسابقين وتلك بنية مقصودة تجسد فكرة التسابق التي تقوم على وصول أحد المتسابقين إلى القمة. غير أن وجود قمة التكوين اللوني الهرمي لأرضية مضمار الركض في خلفية المتسابقين هو الذي يخلق حالة تآذر خلفية اللوحة مع التكوين بإيقاعه الحركي المرهص في صنع دلالة اللوحة. ولتأكيد دلالة السباق لجأ الفنان إلى البعد المنظوري في اللوحة ماثلاً في أرضية السباق الزرقاء ليحقق تلاشي مسار السباق على مدى امتداده بعيداً عن نقطة انطلاقه. وتتجلى جماليات التشويه في هذه اللوحة في التباس التكوين ليس في مراوغة التمويه باتجاه المتسابقين بعكس مركز الثقل في أجسادهم، ولا في امتداد مسار مضمار السباق خلفهم (وفق البعد المنظوري للأرضية أو الحيز الفعلي المهيئ لفعل التسابق) فحسب، بل في تداخل التكوين نفسه حيث يعكس صورة فارسين على حصانين جامحين في التكوين للعلوي الذي له سيقان بشرية تتجه في اتجاه نقيض لاتجاه أمامية الحصانين والفارسين اللذين يمتطيانهما. على أن جمالية التشويه هنا وإن تجلت في الدلالة التي صنعتها مراوغات التمويه، إلا أن الوجهة السيريالية في آلية الأسلوب والتداخل التلقائي المركب في آن قد أسهم في خلق مزاوجة الروعة والتشويه في اللوحة.