كانت مصر الراعى الرئيسى للقضية الفلسطينية إلى أن حدثت تطورات دولية وإقليمية أتاحت لإيران نفوذاً فى جمع الملفات الإقليمية بما فيها القضية الفلسطينية وحالفتها حركة حماس التى تغرد خارج سرب منظمة التحرير، وتجلت المزاحمة الإيرانية لمصر فى الرعاية والتأثير خلال العدوان الإسرائيلى على الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة. وفى هذه الأجواء جاء استدعاء «الدور التركى» لدعم تيار الاعتدال فى التعامل مع الأحداث المستجدة مقابل تيار التشدد أو ما يسمى ب«الممانعة» فى إطار أوسع وتجاذب بين المشروعين الإيرانى والإسرائيلى حيث لكل منهما تصور لمستقبل الإقليم يتضاد مع الآخر. تقدم التركى بخطى ثابتة، ودخل بقوة من البوابة الرئيسية للصراع العربى الإسرائيلى.. قضية فلسطين بعدما كان دخل من شباك المسار السورى الإسرائيلى كوسيط طارحاً خطاباً سياسياً، لاقى ترحيباً شعبياً وإجماعاً مسبقاً؟! فى العالم العربى. أما على المستوى الرسمى فقد لاقى ترحيباً على مضض، ولم يخف البعض على الجانبين (المعتدل والممانع) امتعاضه منه لأنه أحرج بخطابه كلاً من الطرفين أمام جمهوره حيث قدم التركى درساً سياسياً رفيع المستوى فى معانى الاعتدال والتشدد ومتى وكيف يكون!، كما قدم نموذجاً للدولة القائدة عندما تمارس الاعتدال. بلغة واضحة -على لسان رئيس الوزراء رجب طيب أردوجان ووزير خارجيته على بابا جان ومستشاره السياسى أحمد أوغلو- دعمت تركيا حركة حماس بوصفها منتخبة فى اختيار ديمقراطى حر بالمعايير الغربية، وكشفت ازدواجية الغرب فى قضية الديمقراطية حيالها، وشددت على عدم استبعادها وتهميشها، وسعت من هذا الباب إلى تأهيل حماس سياسياً وإدماجها فى العملية السياسية بما يترتب على ذلك من التزامات، وفى الوقت نفسه لم تتطرق إلى موضوع تسلح حماس كحركة مقاومة مشروعة ضد الاحتلال الأجنبى، فهى (تركيا) عضو فى حلف ال«ناتو» المكلف بمنع تهريب السلاح إلى المقاومة فى غزة. ورغم انتقاد تركيا لحماس والملاحظ هنا أن دعوتها للحركة بالتخلى عن السلاح والاشتغال بالسياسة جاء بعد وقف العدوان، فلم يكن من اللائق سياسياً -أو إنسانياً- توجيه هذه الانتقادات، بينما يتعرض الشعب الفلسطينى للقصف وقيادات حماس للقتل حتى لا تتشتت أنظار الناس وتنصرف عن العدوان وتتماهى مع القاتل ضد الضحية. تفهمت تركيا حق إسرائيل فى حماية شعبها وأمنها، لكنها لم تقبل بالتفسيرات الإسرائيلية للدفاع المشروع عن النفس بالاستخدام غير المبرر للقوة ضد مدنيين عزل. طالبت تركيا ب«عقاب إسرائيل»، وبمنعها من دخول الأممالمتحدة، وأعلن أردوجان أن رئيس الوزراء إيهود أولمرت ووزيرى الدفاع إيهود باراك والخارجية تسيبى ليفنى لن يفلتوا من العقاب السياسى ومن الملاحقة القضائية.. لكن تركيا لم تدع إلى «زوال إسرائيل»، بل شجعتها على الاندماج كدولة طبيعية فى المنطقة. الخلاصة هى أن تركيا فعلت -وتفعل- ما لم يستطع تيار الممانعة فعله، وقالت -وتقول- ما لم يستطع تيار الاعتدال أن ينطق به، فقد تفاعل التركى مع كل الأطراف والأدوار فى المنطقة، ولم يسع إلى إقصاء طرف أو استبعاد دور.. هكذا الدولة القائدة فى النظام الدولى. فقد قدم التركى بياناً عملياً للحكومات ذات الجذور الإسلامية فى التعامل مع الأزمات وفى ترجمة الطموحات ما يمكن اعتباره درساً لتهذيب طموحات الإيرانى، ولتيار الاعتدال فى عدم الاستخدام المفرط للاعتدال الذى لا تقل عواقبه عن الاستخدام المفرط للقوة. وحرص التركى على نزاهة دوره، وقدم نفسه خلال الأزمة وسيطاً «غير محايد» فيما يتعلق بالحاصل فى غزة وحقوق الشعب الفلسطينى، و«محايد» فيما يتعلق بالمستقبل. جاء التركى لأداء دور.. فبدا أنه قام بتعديل السيناريو أو رسم لنفسه دوراً جديداً يليق به، وجعله أداؤه شريكاً وراعياً مقبولاً بسبب منظوره للحوادث والتسوية، وقبلت حماس بتركيا وسيطاً فى تثبيت وقف إطلاق النار وتحقيق المصالحة الوطنية ومراقبة المعابر الحدودية ومنها معبر رفح على الحدود الشرقية لمصر؟! ربما يساهم الانخراط التركى فى بلورة تصوراته لمستقبل الإقليم تكون لتركيا فيه بما يميزها عن غيرها (ديمقراطية - علمانية - ذات أغلبية مسلمة سنية - عضو فى الناتو - جزء من المعسكر الغربى - لديها علاقات وطيدة مع إسرائيل وإيران وسوريا ومصر) دور فى تحديد ملامحه بعدما استعصى عليها الانضمام للاتحاد الأوروبى. فيما الأطراف الأخرى تعانى من ازدواجية وتكبل سياستها بأعباء داخلية.. تتحدث عن ريادة ولا تمارسها.. تدعى الديمقراطية وتحاصر معارضيها.. تتعاون مع الناتو وتخجل من الإعلان عن ذلك.. تستضيف قواعد عسكرية أمريكية وتزعق بخطاب قومى.. لديها علاقات مع إسرائيل وتعجز عن استخدامها أداة ضغط.. ترفع عقيرتها بخطاب دينى وتمارس البراجماتية فى سياستها الخارجية. [email protected]