فى لحظة فارقة واستثنائية من تاريخ مصر السياسى اختار رئيس وزراء حصيف المفتش كرومبو وزيراً للداخلية، وطالع الناس عينى كرومبو اللتين تنطقان بذكاء حاد وهو يحلف اليمين، ورأوه بعدها خارجاً من القصر الجمهورى سيراً على قدميه، ينهب الشوارع، متطلعا إلى إشارات المرور العاجزة عن إنهاء فوضى السيارات والمارة المتداخلين بلا هوادة، وإلى عساكر الأمن الرابضين أمام البنوك والكنائس والسفارات، وعربات الأمن المركزى الضخمة المنتظرة قرب الميادين. وعند الظهر دخل إلى مبنى الوزارة فى لاظوغلى، وذهب إلى مكتبه رأساً، والعرق يتصبب من جبينه، ثم طلب كوباً من الماء البارد. وما إن شرب حتى رن الهاتف، وجاءته الأخبار ساخنة، عن مظاهرة حاشدة فى حرم جامعة القاهرة، وجريمة بشعة فى مدينة الرحاب، والقبض على تنظيم صغير يتبنى أفكار «القاعدة» فى شبرا، ومعركة طاحنة بين عائلتين بديروط، وهروب رجل أعمال نافذ من المطار فى وضح النهار، وإضراب فى سجن وادى النطرون، وشجار حاد أمام مخبز فى إمبابة، وبلاغ تهديد تلقته السفارة الأمريكية، ودخول شحنة هيروين إلى البلاد عن طريق البحر، وتجدد الاشتباكات بين البدو ورجال الأمن فى سيناء، وعشرة بلاغات مقدمة إلى نيابات هنا وهناك ضد ضباط شرطة، وموت شاب تحت وطأة التعذيب فى قسم شرطة الخليفة، وعشرين مقالاً فى مختلف الصحف تشكو من غلظة الشرطة وعنجهيتها، ومصادمات بين مسلمين ومسيحيين فى المنيا. وكعادته شحذ كرومبو كل ما أوتى من طاقة عقلية، وراح يرتب هذه الجرائم وتلك المشكلات ليعرف القاسم المشترك بينها، والمنبع الذى تنحدر منه. ولم يستغرق وقتا طويلا حتى اكتشف أن الأسباب لا تخرج عن الاستبداد السياسى والظلم الاجتماعى والفساد البيروقراطى، ثم ابتسم حتى لمعت كل أسنانه على صفحة مكتبه الفخم، وقال لنفسه: «هذا فوق طاقتى، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وعلىَّ أن أبدأ بما يقع تحت اختصاصى». وما إن انتهى من هذه العبارة الهامسة حتى سمع طرقا على الباب، ودخل أحد مساعديه، وأدى التحية، ثم وضع أمامه مذكرة مطولة، وانصرف فى هدوء. وراح كرومبو يفتش على مهل، ويقرأ بإمعان وتدبر، حتى فرغ منها، والشمس تنسحب من نافذة مكتبه على استحياء، وتترك الفراغ لعتمة المغرب الشفيفة. وفتح كرومبو درج مكتبه وأخرج ورقة صغيرة وكتب فى أول سطر: «خطة عمل». وأضاء المصباح، وراح يضع رؤوس موضوعات. وفى اليوم التالى أكمل الناقص، وأجلى ما يحتاج إلى توضيح، حتى صار لديه تصور كامل عما ينوى فعله. وجمع مساعديه، وناقش معهم خطته، فاستقبلوها واجمين. وتشجع أحدهم وقال له: «لم نعهد العمل بهذه الطريقة، وأوضاع البلاد ليست حقل تجارب»، فابتسم كرومبو وقال: «الأمان لا يأتى ويستقر بالعنف والقهر والتعذيب»، ثم أصدر تعليمات نزلت كالصاعقة على رأس الضباط، بعد أن أعاد شعار «الشرطة فى خدمة الشعب»، وأمر بكتابة عبارة فوق رأس كل الضباط فى مختلف الأقسام تقول: «حاصر المتهم بذكائك لا بسوطك». ثم طلب من مدير كلية الشرطة أن يشترط لدخولها مجموعا يتعدى تسعين بالمائة فى الثانوية العامة حتى يجذب إليها الأذكياء، وأن يقرر على الطلاب مواد عن «الكرامة الإنسانية» و«حقوق السجناء» وكتاب «التفكير العلمى» للدكتور فؤاد زكريا، وكتابى «التفكير العملى» و«التفكير الجانبى» لإدوارد دى بونو، وعشرات الكتب التى تدرس فى أكاديميات الشرطة بأوروبا وأمريكا لمساعدة المحقق على معرفة الحيل والأساليب التى توصله إلى الحقيقة دون ضرب أو تنكيل. وطلب الوزير الجديد مد مكتبة الكلية بعشر نسخ كاملة من موسوعة «العذاب» للباحث العراقى عبود الشالجى، والتى تتناول أساليب التعذيب فى حياة العرب عبر ثمانية مجلدات، ثم العديد من مذكرات الإخوان المسلمين والشيوعيين فى سجون عبدالناصر، وأمر بجمع كل ما كتب فى الصحف والمجلات عن التعذيب فى عهد مبارك ثم تصويره وتجليده، وطلب أن يكتب بخط عريض على كل كتاب أو مجلد: «عار يجب أن يتوقف»، وتحته عبارة تقول: «القوة فى العقل لا فى العضلات». وبعد وقت قصير من تطبيق القرارات الجديدة تحسنت صورة الشرطة وأحب الناس رجالها، فتعاونوا على كشف الإجرام والمجرمين، وانضبطت الشوارع وانساب المرور، بعد أن أيقن أصحاب السيارات وسائقوها أن ما يحميهم هو احترام القانون لا زيادة قيمة الرشوة. وأظهرت الإحصاءات أن ترويج المخدرات قد هبط إلى أدنى حد، بعد أن استسلم الكثير من شبكات التهريب، وتعززت مراجعات التنظيمات والجماعات المتطرفة لأفكارها ومسارها، بعد أن أيقن أمراؤها أن جهاز الشرطة بات لا فكاك من ذكائه، وتأكدوا من صدق تشجيعه كل من كان يعتزم الانزلاق إلى الإرهاب على الرجوع والتوبة. ولم يمر سوى شهور حتى تحرر آلاف الأبرياء من السجون، ودخل إليه آلاف المجرمين الهاربين من العدالة، بعد أن وجد القضاة فى معلومات الشرطة وتحقيقاتها ما يعينهم على إصدار الأحكام العادلة الناجزة، وفى عزمها على تنفيذ الأحكام ما يحول دون أن ينعم أى مجرم بالحرية. ولم يمر سوى سنة واحدة حتى أقنع كرومبو رؤساءه بأن ملفات الإخوان والأقباط والشيوعيين والجماعات الإسلامية والشيعة ليس مكانها وزارة الداخلية، وكتب تقريرا عن دولة «العدل والحرية» التى بوسعها أن تضم الجميع، ثم اقترح إضافة جهاز الشرطة إلى وزارة التنمية المحلية على غرار الدول الإسكندنافية. ولما قوبل اقتراحه بالرفض، وكانت صدور رؤسائه قد أوغرت عليه بفعل كيد أعدائه الذين يتنعمون من الظلم والفوضى، صدر قرار بإقالته، لكن الشعب انتفض، ونزل إلى الشوارع عن بكرة أبيه، وطالب بأن يكون كرومبو فوق وزير الداخلية بكثير، ليضبط كل شىء.