مع دقات الخامسة مساء، ينهى مصطفى ابن الخامسة عشر عامًا عمله بمنطقة «شق الثعبان»، يخرج من ورشة الرخام التى يعمل بها، ينفض عن ملابسه غبار الرخام، الذى علق بها طوال النهار، وتظل ذرات خفيفة تعلو رموشه ووجهه، أغلب الظن أنها لا تختفى قبل أن يغسلها بالماء، وهو أمر على ما يبدو لا يحدث إلا داخل منزله بمنطقة «المعصرة». مصطفى أخ لثلاث فتيات: «باشتغل من خمس سنين عشان أجهزهم». قبل السنوات الخمس كان مصطفى - كما يروى - طالبًا بالصف الأول الإعدادى، وكان عليه أن يترك المدرسة ليلتحق بأى عمل يوفر به قوت يومه له ولأسرته، ليس فقط لأنه لم يكن يحب المدرسة التى لم تعلمه شيئًا على حد تعبيره، لكن لأن العبء كان ثقيلاً على أكتاف الأب الذى يعمل سائقًا، وكان على مصطفى أن يساعده. لم يكن أمام مصطفى - كما يروى - إلا أن يرافق خاله الذى كان يعمل صنايعيًا فى منطقة «شق الثعبان».. منطقة جبلية على حدود القاهرةالشرقية، تبعد أمتار قليلة عن مجموعة سجون طرة الشهيرة، وتحتوى على عدد ضخم من ورش ومصانع الرخام الطبيعى المستخرج من المحاجر، كانت المهنة التى تنتظر مصطفى شاقة للغاية «المشكلة كانت فى ألواح الرخام الثقيلة - لا قدر اللّه - لو وقع على واحد منها يبقى ربنا يرحمنى». لم يكن مصطفى وحده هناك. كان مئات الأطفال ممن لم تتجاوز أعمارهم السادسة عشرة، يعملون داخل المنطقة الصناعية ب «شق الثعبان»، يجمعهم مكان العمل و«الهم الواحد» الذى دفعهم للتسرب من التعليم والالتحاق بمهن قاسية تعرضهم لمخاطر لا حصر لها دون تأمينات ولا ضمانات ولا عقود دائمة ولا حتى مؤقتة. يحدث هذا فى الوقت الذى نظم فيه قانون العمل المصرى رقم 12 لسنة 2003 عمالة الأطفال، وحظر تشغيلهم قبل بلوغ الرابعة عشرة بل منع عمل الأطفال الأقل من 17 سنة فى الأعمال الخطرة التى ورد ذكرها فى «اللائحة التنفيذية» مثل «العمل بالمناجم أو باطن الأرض أو المحاجر، وجميع الأعمال المتعلقة باستخراج المعادن أو الأحجار وحمل الأثقال أو جرها أو دفعها إذا زاد وزنها». يقول أحمد عبدالعليم، المدير التنفيذى لجمعية تعاون الأطفال، إن إتفاقية العمل الدولية الخاصة بأسوأ أشكال عمالة الطفل تحظر عمل الأطفال فى المهن الخطرة، التى من شأنها أن تضر بالطفل وتحرمه من ممارسة حياته التى من المفترض أن يعيشها بشكل طبيعى، ولأن الكثيرين فى مصر لا يلتفتون لقانون العمل ولا لغيره من القوانين سواء كانوا يعرفونها أو يجهلونها بدأ مصطفى عمله وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره ك«صبى» صغير لأسطى كبير فى ورشة لتقطيع وصنع الرخام. تلخص عمله وقتها فى مناولة الأسطى أى شىء يريده، أزميل.. صاروخ.. وحتى أكواب الشاى وأطباق الأكل، وبين المناولات كان عليه أن «يفتح مخه» ويلتقط بسرعة كل ما كان الأسطى يلقى به إليه من معلومات ليتعلم الصنعة التى ستصبح مهنته القادمة. كانت يومية مصطفى وقتها لا تزيد على تسعة جنيهات فى اليوم بعد ثمانى ساعات من العمل المرهق «كنت باديهم كلهم لأمى، ومصاريفى كل يوم على اللّه»، ومع مرور الأيام تعلم مصطفى كيف يقف على ماكينة جلى وتلميع الرخام، بالإضافة إلى ماكينة التقطيع التى تتطلب منه انتباهًا مضاعفًا «لو ما أخدتش بالى ممكن الموس يطيّر صوابعى أو ياكل دراعى». زادت يومية مصطفى ووصلت إلى 25 جنيهًا يقبضها 150 مجمعة كل أسبوع، حيث يعمل ستة أيام فقط ويأخذ الجمعة إجازة. لم تقتصر مخاطر المهنة على موس باتر يقطع أصابع مصطفى فى لحظة يغيب فيها انتباهه، لكنها تجاوزت ذلك إلى حادث تعرض له أثناء سيره فى الجبل بجوار الورشة التى يعمل بها «سواق كان سكران خبطنى بالعربية، دراعى اتكسر وفيه ضلعة اتحركت من مكانها رحت لصاحب الورشة قاللى انت ما اتعورتش وأنت جوة الورشة وعشان كده أنا ماليش دعوة بيك»، ولأن المنطقة ليس بها وحدات للإسعاف فقد توجه مصطفى لمستشفى حلوان العام، بعد أن رفض صاحب الورشة أن يتحمل مصاريف علاجه، وكاد يقطع عنه يوميته طوال الأسبوع الذى جلس فيه فى البيت، لولا تدخل الصنايعية الكبار، الذين ضغطوا عليه وأجبروه على أن يدفع أجرة الأسبوع كاملة لمصطفى، الذى يقول عنها إنها «راحت على الأدوية والأشعات». وحسبما يقول مركز الأرض لحقوق الإنسان، فى إحدى مطبوعاته، بعنوان «حقوق الأطفال العاملين وحمايتهم»، فإن مصطفى «محروم من التعليم المناسب والصحة الجيدة والحريات الأساسية، ويدفع ثمنًا فادحًا من تطوره وحياته كما أن هذه البلدان - التى يعمل بها أطفال مثل مصطفى، تفقد قوة شبابها وقدراتها على النمو، والتطوير بعمل هؤلاء الأطفال»، ولا يختلف حاله كثيرًا عن حال شريف، 14 سنة، من المعادى، ترك الدراسة فى عامه الرابع الابتدائى، لم تستهوه الدراسة بقدر ما استهواه العمل مثل أشقاؤه الأربعة الذين يكبرونه فى العمر والذين تركوا الدراسة من قبله ليلتحقوا بمهن مختلفة كميكانيكية ونجارين وعمال بورش شق الثعبان. ومثل أخوته لم يقف الأب الموظف على المعاش حائلاً دون رغبة الابن الصغير، فترك شريف يعمل فور خروجه من المدرسة «استورجى» يدهن ويلمع الموبيليا، ويبدو أن المهنة لم ترق له كثيرًا فسارع بتركها وذهب مع شقيقه الأكبر طارق للعمل داخل منطقة «شق الثعبان». شريف لا تغيب عنه ابتسامته العذبة وهو يشرح كيف يمسك الصاروخ الكهربائى ويحفر حوضًا رخاميًا داخل كتلة الرخام الصماء التى تتشكل بين أصابعه تحفة فنية، رغم أنه لا يخفى خوفه من تلك الآلة الكهربائية «بابقى شغال بالصاروخ وباقول فى سرى استرها معايا يا رب». شريف يتقاضى 90 جنيهًا نظير عمله ستة أيام، كل أسبوع، من التاسعة صباحًا حتى الخامسة مساء، يعطيها كلها لوالده الذى يقول إنه فتح له دفترًا للتوفير يضع له فيه 50 جنيهًا كل شهر من أجل مستقبله، ومن شريف إلى محمد، 15 سنة، صبى الحداد بالمنطقة الذى التحق بالعمل بعد تركه الدراسة فى الصف السادس الابتدائى، أخذه عمه معه ليوفر لنفسه مصاريفه الشخصية وليعفى والده عامل البناء من عبء مصروفاته، خاصة وأنه يعول سبعة أبناء آخرين غيره ولد واحد وست فتيات يعملن من أجل توفير مصاريف زواجهن فى المستقبل كما يقول محمد. ربما لا يعلم مصطفى وشريف ومحمد شيئًا عن هذه الأرقام والإحصائيات، وربما لا تهمهم فى كثير أو قليل، كل ما يعنيهم وما يهمهم هو كيف يوفرون قوت يومهم لذويهم، وكيف يتعلمون مهنة تساعدهم فى مستقبلهم، قد تشكل خطورة على حياتهم وقد يخافون منها، إلا إنهم ينفضون خوفهم عنهم مثلما ينفضون ذرات التراب العالقة بملابسهم بعد انتهاء يوم عمل طويل.