قرار الدكتور فاروق العقدة، محافظ البنك المركزى، صباح أمس، بإبقاء معدلات الفائدة على الإيداع والإقراض، عند مستواها الحالى، وعدم خفضها، كما كان متوقعا، يمثل صدمة للحكومة دون شك.. فقد كانت الحكومة، خصوصاً المجموعة الاقتصادية فيها، تراهن طول الوقت، منذ بدء الأزمة المالية العالمية، على أن الدكتور العقدة سوف يفعل ما تفعله كل البنوك المركزية فى العالم، دون استثناء تقريباً، لدرجة أن الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى، وهو ما يعادل البنك المركزى عندنا، وصل بمعدل الفائدة على الدولار، ليس إلى 3٪، أو 2٪، أو حتى 1٪.. وإنما إلى صفر، نعم إلى صفر٪، وهو شىء غير مسبوق فى العالم كله، اللهم إلا فى اليابان، خلال الثمانينيات! وحين تتخذ البنوك المركزية العالمية مثل هذا الإجراء، فالهدف هو تشجيع المقترضين، خصوصاً رجال الأعمال والمستثمرين، على الاقتراض أكثر، لأن ما سوف يدفعونه من فائدة، على القروض، سوف يكون أقل، بما يؤدى إلى إنعاش السوق أولاً، نتيجة ضخ هذه القروض التى سوف يحصل عليها المستثمرون فيها، ثم يؤدى أيضاً إلى خلق فرص عمل، لأن أى مستثمر سوف يقترض لن يحتفظ بالفلوس فى بيته، ولكنه سوف يعمل بها! هذه الدائرة، التى تؤدى كل حلقة فيها إلى الأخرى، كان المتصور، من جانب الحكومة، أن تتم فى البلد، ولن تتم طبعاً، إلا حين يتخذ الدكتور العقدة، بوصفه رئيساً للجنة السياسات النقدية فى البنك المركزى، قبل أن يكون محافظاً له، قراراً بخفض سعر الفائدة، وكانت الحكومة تترقب مثل هذا القرار، وتنتظره منذ فترة بأى طريقة.. غير أن المحافظ لم يشأ أن يسايرها فيما تريده، وقد خيَّب ظنها، لأن له ملاحظات على سياستها المالية التى أدت، من وجهة نظره، إلى رفع معدل التضخم، ولا يمكن خفض سعر الفائدة، فى ظل معدل تضخم وصل فى قياسه الشهرى إلى 20.3٪ خلال نوفمبر الماضى، وكان فى أكتوبر 20.2٪.. وإلا فإن الغالبية من المصريين، من محدودى الدخل، سوف يتحملون عواقب قرار الخفض، لو اتخذه المحافظ، دون مراعاة انخفاض معدل التخضم مسبقاً! المحافظ يريد من الحكومة أن «تلم نفسها» قليلاً، فى الإنفاق العام، الذى لا لزوم له فى وجوه كثيرة، ويريد منها أيضاً أن تتخذ إجراءات عملية، تؤدى إلى خفض الأسعار، فعلاً لا كلاماً.. وساعتها سوف ينخفض معدل التضخم تلقائياً، وسوف يقرر البنك المركزى من جانبه، بالتالى، خفض سعر الفائدة! وربما تكون المفارقة المدهشة أن المهندس رشيد أعلن، فى اليوم نفسه، الذى خرج فيه قرار البنك المركزى على الناس، انخفاض أسعار 17 سلعة، بنسب متفاوتة، وصلت فى أسعار بعض هذه السلع إلى 39٪ من سعرها الأساسى.. ولابد أن مثل هذا الانخفاض فى الأسعار سوف يلفت نظر المحافظ، وسوف يتوقف عنده بكثير من التقدير للوزير رشيد، ولكنه لن يراه كافياً، فالمطلوب هو عدة انخفاضات فى الأسعار، من هذا النوع، بما يجعل البنك المركزى، عند اجتماع لجنة السياسات النقدية، فى المرة القادمة، يفكر بجدية، فى خفض سعر الفائدة، لأن الحكومة، والحال كذلك، قد قامت بما عليها أو بعض ما يجب أن تقوم به على الأقل! هناك بالطبع كثيرون ضد قرار المحافظ، وهناك كثيرون أيضاً يؤيدونه، ويرون فيما اتخذه القرار الأصوب، فى ظل ظروف اقتصادية عالمية، تحتاج إلى قدر كبير من الحكمة، فى اتخاذ أى قرار فى هذا الملف.. غير أن اللافت للانتباه فى الموضوع كله، وما يجب أن نتوقف أمامه أن ما حدث ويحدث بين الحكومة والبنك المركزى إنما هو مسألة صحية، فى كل الأحوال.. فربما تكون هذه هى المرة الأولى التى يأتى فيها وقت على الحكومة تريد فيه أن تفعل شيئا، ولكنها رغم أنها الحكومة بجلالة قدرها لا تستطيع، وتقف عاجزة، لا لشىء، إلا لأن محافظاً فى البنك المركزى يقف فى مواجهتها عند الضرورة، ويقول بأعلى صوت «لا»! وقد قيل إن جهات سيادية تساند المحافظ العقدة فى موقفه، ولكن تقديرى أنه مسنود، قبل الجهات السيادية، على حرفيته ومهنيته، وقدرته على اتخاذ القرار، ثم الدفاع، بالقدرة نفسها، عن القرار الذى اتخذه!.. حتى ولو كان قراراً قد جاء على غير رغبة كثيرين نافذين فى الحكومة، وفى خارجها!