لا أمل فينا على الإطلاق، فنحن لا نفهم كيف يسير العالم ولا نريد أن نتعلم.. هل يعقل أن نرشح أنفسنا للمناصب الدولية ونحن لا نعرف ما المواصفات الأولية المطلوبة لذلك الترشيح؟ لقد رشحت مصر وزير ثقافتها الفنان فاروق حسنى لمنصب مدير عام منظمة اليونسكو، واتفق على ترشيحه بقية المجموعة العربية وأيده وزراء ثقافة أفريقيا وعدد من الدول الأوروبية والآسيوية ودول أمريكا اللاتينية، لا لسبب إلا لأنه وزير ناجح، حقق الكثير من الإنجازات فى مجال حماية التراث وترميمه، (بما فى ذلك ترميم الآثار اليهودية)، وإقامة المتاحف وإنشاء المكتبات ورصد جوائز الإبداع ومضاعفة قيمتها على مدى السنين، كما أنه ألغى التقسيمات السياسية التى كانت سائدة من قبله، فصارت الساحة الثقافية مفتوحة أمام الجميع بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية، وأصبح عدد من القائمين على أنشطة وزارته، ممن كانوا أشخاصاً غير مرغوب فيهم فى ظل الأوضاع السياسية السابقة. يضاف إلى ذلك قيمة مصر الثقافية والحضارية، التى يفترض أن تُنْجِحَ كفة أى مرشح مصرى فى المحافل الثقافية الدولية، فمصر هى إحدى الدول المؤسسة لليونسكو قبل أكثر من نصف قرن من الزمان، وذلك هو ما دعا الكثير من الدول داخل اليونسكو إلى أن ترى أنه آن الأوان أن يتولى العرب إدارة اليونسكو لأول مرة بعد أن تولاها، ولأكثر من مرة، مرشحون من أوروبا وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. لكن الحقيقة التى يجب أن تقال، والتى تناستها مصر وتناساها العرب والأفارقة وسائر الدول الأخرى التى أيدت المرشح المصرى، هى أن مرشحنا يفتقر إلى أهم شرط للترشيح، وهو أن تكون إسرائيل راضية عنه.. صحيح أن مثل هذا الشرط غير معلن وغير مكتوب فى أى من أدبيات اليونسكو، لكنه واضح لكل ذى عينين.. ولست أعرف كيف مر علينا بهذه السهولة ومر على ما يقرب حتى الآن من نصف عدد الدول، أعضاء المجلس التنفيذى لليونسكو الذين أيدوا فاروق حسنى. لقد التزم فاروق حسنى طوال فترة توليه وزارة الثقافة بموقف المثقفين المصريين، الذين كان يمثلهم، بعدم التطبيع مع إسرائيل إلا فى إطار التسوية الشاملة التى تعطى للفلسطينيين حقهم الشرعى، وذلك ضماناً لاستمرارية ذلك التطبيع، وحتى لا تتكرر أحداث قيام الجماهير بالاعتداء على الجناح الإسرائيلى فى معرض الكتاب أو حرق العلم الإسرائيلى تعبيراً عن رفض المصريين التعامل مع دولة الاحتلال والتوسع والعنصرية وتكسير عظام الأطفال، والتى يقبع فى سجونها الآن ما يزيد على 11 ألف مواطن فلسطينى فى ظروف مأساوية، تمتلئ بها تقارير المنظمات الدولية، وفى ظل حصار غير إنسانى لقطاع غزة، وصفه الرئيس الأمريكى السابق جيمى كارتر بأنه أكبر انتهاك لحقوق الإنسان فى الوقت الحالى. كل هذا صحيح ولا أحد يختلف عليه، لكنا حين نتحدث عن الترشيح للمناصب الدولية، فلا ينبغى أن نختار الشخص الكفء ولا من يمثل ضمير أمته، وإنما من ترضى عنه إسرائيل، ولقد صرح السفير الإسرائيلى فى القاهرة بمجرد الإعلان عن ترشيح فاروق حسنى، بأنه لن ينجح إلا بمباركة إسرائيل، ورغم أن هذا التصريح نشر فى الصحف فى ذلك الوقت، فإننا مع ذلك لم نتنبه له، وكان علينا أن نتحرك على الفور، تنفيذاً لما أشار به سفير دولة الاحتلال والتوسع والعنصرية وتكسير عظام الأطفال ونتراجع عن هذا الترشيح الذى لا ترضى عنه تلك الدولة، أو أن نستبدل بمرشحنا مرشحاً آخر ممن زاروا إسرائيل ويحبونها.. صحيح أن مثل هذا المرشح لم يكن سيحصل على تأييد الشعب المصرى ولا بقية الدول العربية، لكنه كان سيحصل على تأييد دولة الاحتلال والتوسع والعنصرية وتكسير عظام الأطفال وهذا هو الأهم.. فها هى الآن إسرائيل تستخدم إدارة الرئيس بوش فى محاربة المرشح المصرى، وها هى تلك الإدارة تنصاع تماماً لإرادة إسرائيل، فتهدد بالانسحاب من اليونسكو فى حال انتخابه، والامتناع عن دفع حصتها البالغ قدرها 22٪ من ميزانية المنظمة، وتقوم بالضغط على الدول التى أيدت مصر فى هذا الترشيح للتراجع عن موقفها. ولنقل ما نشاء فى مثل هذا الابتزاز الأمريكى المشين الذى يشير بالفعل إلى أن العلاقات المصرية - الأمريكية علاقات استراتيجية، ولنقل ما نشاء فى موقف إسرائيل العدائى، الذى يؤكد التزامها بالفعل باتفاقية السلام التى تصدع أدمغتنا بها ليل نهار، ولكن علينا فى الوقت نفسه - نحن العرب - إدراك خطئنا والتكفير عنه بالاعتراف بسيادة دولة الاحتلال والتوسع والعنصرية، وتكسير عظام الأطفال، والسعى حثيثاً للحصول على بركاتها قبل الإقدام على الترشيح للمناصب الدولية.