يصدر المعهد الدولى لدراسة الإسلام فى العالم الحديث بمدينة لايدن الهولندية مجلة فصلية أكاديمية بحثية، غالبا ما تتمتع موضوعاتها بدرجة عالية من المهارة البحثية التى لاتدل إلا على كون الإسلام بشكل عام وأشكال ممارسته بشكل خاص لديهما مساحة ضخمة فى «سوق» البحث بالغرب، كما تدل تلك الأبحاث- من وجهة نظرى- على تمكن العقل الغربى من تحويل الإسلام وممارساته إلى موضوع للدراسة والفحص الدقيق كأحد بدائل علم الاستشراق الكلاسيكى الذى أصبح سيئ السمعة فى المجال الأكاديمى مؤخرا. تدور هذه الأبحاث حول إشكاليات لا يمكن للذات العارفة التى تحولت إلى موضوع للبحث أن تنتبه لها أو حتى تتعامل معها بوصفها إشكالية، وهذا بالتحديد هو ما يلفت انتباهى دائما، ففى العدد رقم 19 من تلك المجلة والذى صدر فى ربيع 2007، قدم الدكتور ريتشارد جوفين وهو أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة البريطانية بمصر بحثا (أو لنقل مقالا) بعنوان: «الأسلحة الطقسية: ممارسات الطهارة الإسلامية فى القاهرة». يشرح جوفين أن ما أثار اهتمامه بموضوع الطهارة- والمقصود هو الوضوء- لقاؤه بالشاب عمرو عام 2005 الذى يعمل موظفا بأحد البنوك فى جنوبالقاهرة- أحد أفقر الأحياء على حد قوله، فقد أخبره عمرو أنه يسبغ الوضوء قبل أن يستمع للخطب الدينية المسجلة على شرائط الكاسيت «ليشعر أنه أقرب إلى الله»، كما أنه يسبغ الوضوء كلما شعر أنه قام بعمل «يبعده عن الله». وعندما لاحظ جوفين أن ذلك الفعل يتنافى مع فقه الطهارة الذى يوجب الوضوء فى سياقات بعينها قام باجراء بحثه- وهو ما استغرق عاما كاملا- اعتمد فيه على مقابلات أجراها مع اثنين وثلاثين شابًا إسلاميًا ينتمون للطبقة المتوسطة، أطباء ومدرسين ومهندسين وخبراء كمبيوتر وطلابًا وعاطلين. توصل جوفين إلى ثلاثة سياقات رئيسية تدفع هؤلاء الشباب إلى إسباغ الوضوء فى غير الشروط المحددة له فقهيا. كانت الملاحظة الأولى تتعلق بمسألة عدم قول الحقيقة، ولم أفهم كيف تساوى اختباء الشاب بوصفه منظمًا فى جماعة مع اضطرار التاجر إلى تجميل بضاعته للمشترى، فلا يمكن منطقيا أن يتساوى الفعلان بوصفهما «نجاسة» تستدعى الطهارة. أما السياق الثانى فهو متعلق بنظرة المرأة لهؤلاء الشباب، فمن وجهة نظرهم- على حد قول جوفين- تسبب هذه النظرة النجاسة وهى غالبا نظرة قادمة من امرأة «أجنبية» لأنها فاسقة بطبعها، وهو ما يدفعهم إلى المناداة بالفصل بين الجنسين. ويأتى السياق الثالث الذى أثار دهشتى، فلم أتمكن من تخمين إمكانية وقوعه، إلا إذا كانت المقابلات قد حاولت افتراض سياقات لإسباغ الوضوء فى غير شروطه المحددة. كان هذا السياق هو ملامسة «اليهودى»، فاليهودى من وجهة نظر الشباب «الإسلامى»- كما حدده جوفين- لا يهتم بنظافة جسده وهو السبب فى تدهور حال الأمة الإسلامية، ولذلك يتوجب إسباغ الوضوء بعد ملامسته (بالصدفة طبعا). وفى الخلاصة العامة للمقال، أكد جوفين أن هؤلاء الشباب قد قاموا بتحويل الفروض كما جاءت فى الأصل- كالوضوء مثلا- إلى أسلحة مجازية تدفع عنهم «النجاسة» وتحميهم فى المجتمع الذى تم إنشاؤه داخل المجتمع، أى مجتمع إسلامى «طاهر» داخل مجتمع كبير سمته «النجاسة». تبدو سمة القفز إلى الاستنتاجات فى تلك الأبحاث لافتة للنظر بشدة، فإسباغ الوضوء فى غير شروطه المحددة هو فعل رمزى له تأثير نفسى، ولو كان ريتشارد جوفين قد نظر إلى السياقات التى يستخدم فيها الماء بأشكال رمزية فى الأديان الأخرى والكثير من الطقوس العقائدية لكان وصل إلى استنتاج مغاير تماما يتعلق بمركزية الماء فى كافة الثقافات والأديان بشكل عام، مع خصوصية الاستخدام فى كل منها. يبدو أن جوفين أغفل أيضا أحد أهم الدوافع التى قد تؤدى إلى إسباغ الوضوء فى غير شروطه المحددة، فمن السائد أن الوضوء يسكن الغضب الشديد، والكثيرون يستعيذون من الشيطان ثم يسبغون الوضوء لإطفاء نار الغضب، وذلك لما لهذا الفعل من تأثير نفسى كبير، إلا أن جوفين اختار- بفعل الكثير من الصور النمطية- التركيز على المثلث المعروف: الفساد، المرأة، اليهود، وذلك عبر مقابلة اثنين وثلاثين شابًا، تم اقتباس كلامهم باللغة العامية المصرية. هل يبرر هذا العدد استخدام صفة «القاهريين» فى عنوان المقال؟ وهل يساهم هذا العدد فى الخروج بهذه النتائج؟ هكذا تتحول الذات الممارسة لطقوسها بالشكل الذى يلائمها إلى موضوع للدراسة والعرض وإلى مساحة خصبة للوصول إلى استنتاجات.