لا أرفع هذه الشكوى لمحافظ الشرقية.. فأنا أعرف أن معظم المحافظين فى أقاليم مصر المحروسة مشغولون عن قضايا الناس وهمومهم، بأشياء أخرى أهم، لا تدركها عقولنا القاصرة، ولا أرفعها إلى وزير التنمية المحلية، الذى يرأس المحافظين، فأنا أعرف أن سيادته لا يملك الآن مراجعة محافظ فى قرار، أو إلزام محافظ باتخاذ قرار، ولا أرفعها إلى رئيس الوزراء، لأن الرجل يتأذى عادة من مجرد لفت نظره إلى أن مصر تضم إلى جانب قريته الذكية «خالص» آلاف القرى والنجوع غير الذكية بتاتاً. والحال كذلك، أرفع هذه الشكوى إلى الله، لعله سبحانه وتعالى - يلهم أحد المسؤولين الكبار، ويدفعه إلى اتخاذ قرار بحل هيئة الأملاك الأميرية، وتشتيت موظفيها بين عشرات الهيئات الأخرى فلا يجتمع لهم شمل.. ولا يتحقق لهم مراد أبداً. لقد نامت هذه الهيئة العجيبة عشرات السنوات، ثم استيقظت فجأة منذ سنوات، فإذا بها وحش كاسر، يعيث إرهاباً وفوضى فى بيوت ملايين المواطنين الغلابة.. ولكنها بقدرة قادر تتحول إلى نعامة لطيفة فى مواجهة الكبار، الذين وضعوا أياديهم على ملايين الأمتار من أراضى الدولة. ولا تكاد توجد قرية مصرية غير ذكية الآن، إلا ويقضى الآلاف من سكانها أعمارهم ذهاباً وإياباً بين دار المحفوظات بالقاهرة والشهر العقارى والسجل العينى وهيئة الأملاك فى الأقاليم والعاصمة أيضاً.. فى محاولات مستميتة للدفاع عن آخر ما تبقى لهم: «بيوتهم التى يعيشون فيها منذ عشرات بل مئات السنين»! «هذا آخر ما تبقى لنا.. أربعة جدران مهترئة يختبئ داخلها آلاف المواطنين بأكباد متليفة وكلى معطوبة دمرتها مياه الشرب المختلطة بمياه المجارى». تلك هى كلمات المهندس عاطف الطحاوى أحد سكان قريتى سعود القبلية والبحرية بمركز الحسينية فى محافظة الشرقية.. ويضيف المهندس عاطف: «ارتضينا أن تخبز الحكومة 20 ألف رغيف يومياً ل 70 ألف مواطن من سكان القريتين.. وارتضينا بطالة أبنائنا، وانهيار الخدمات بشكل كامل، وصبرنا على الأمراض الرهيبة التى تأكل أعمارنا، فإذا بنا بعد هذا كله مطالبون بإعادة شراء بيوتنا من هيئة الأملاك الأميرية، التى قدرت سعر المتر ب 100 جنيه، ولجأت إلى قطع المياه والكهرباء عن البيوت، التى يعجز أصحابها عن الدفع»! يطالبنى المهندس عاطف بزيارة القريتين، للوقوف على الانهيار الخدمى «الذى وصل لمرحلة غير إنسانية.. وطعم مياه الشرب الذى لا يطاق وإلقاء نظرة على الحالة الاقتصادية لآلاف المواطنين الذين أضناهم البحث عن علب الدواء فى مستشفيات الدولة.. وباع بعضهم آخر ما يمكن بيعه لشراء الدواء من الصيدليات.. وأصبح فى حكم المستحيل أن يقدر أحدهم على شراء بيته، الذى أقامه الأجداد منذ 300 سنة، بسعر 100 جنيه للمتر». 100 جنيه للمتر يا معالى المحافظ؟.. يا سيادة المستشار؟ يا رجل القانون؟ 100 جنيه للمتر؟ والقانون رقم 31 لسنة 1984، الذى وقعه رئيس الجمهورية محمد حسنى مبارك فى 27/3/1984، ينص على «بيع الأرض لواضعى اليد فى الكتل السكانية المستقرة، على أن يدفع كل مواطن جنيهاً واحداً عن كل متر.. حتى تجتمع اللجنة المختصة وتضع تقديراً نهائياً لثمن الأرض». قبل سنوات انتهت معظم اللجان المختصة إلى تقدير ثمن الأرض فى الكتل السكنية المستقرة بعشرة جنيهات للمتر.. وقد تصادف أن الذى استفاد من هذا التقدير اللطيف هم فقط الأثرياء وأباطرة وضع اليد على أراضى الدولة.. ولم يتمكن فقير واحد فى هذا البلد من الحصول على استمارات تقنين وضع اليد.. وفجأة استيقظ الوحش الكاسر فى هيئة الأملاك وأصدر تعليماته المشددة المؤيدة من المحافظين بقطع المياه والكهرباء عن بيوت الأرامل والمرضى والفقراء وحصارهم حتى يدفعوا 100 جنيه عن كل متر وهم صاغرون. يا رب.. لقد اكتمل الحصار، فارحمنا من أقاربنا فى القرية الذكية.. أو ارحمهم مرة واحدة من فقرائنا فى القرى، التى لم تعد قادرة على ضخ مزيد من الجبايات فى خزائن الدولة المتخمة بالفساد! [email protected]