لا تخلو السياسة الفلسطينية، رغم ما باتت تبثه فينا من كآبة، من بعض المواقف الطريفة والتى تشبه النكات المصرية فى إيحاءاتها ودلالاتها السياسية. واحدة من هذه الطرائف حدثت فى عام 1974 أثناء مداولات زعماء الفصائل قبل انعقاد المجلس الوطنى للمنظمة أيامها فى القاهرة، كان النقاش احتدم بينهم على بند فى برنامج النقاط العشر يدعو إلى إقامة السلطة الفلسطينية على أى شبر يتم تحريره أو تنسحب منه إسرائيل، والغريب أن أحدًا لم ينبههم إلى أن الضفة كلها وغزة كلها والقدس أيضا لم تكن محتلة قبل 67، وأنهم وصموا بالخيانة كل من دعا إلى إقامة سلطة فلسطينية عليها كلها وليس على شبر واحد فقط منها قبل أن تحتلها إسرائيل بالكامل، كان الخلاف قد نشب حول تعريف السلطة التى ستقام على أى شبر، وأصر أحدهم على تعديل البند ليصبح نصه «يتم إقامة السلطة الثورية»، لكن زعيمًا آخر أصر من جهته على إضافة صفة الديمقراطية بعد الثورية، فيما أصر زعيم ثالث على تعديل النص ليصبح إقامة سلطة وطنية ثورية ديمقراطية على أى شبر، وكان يمكن لهذا المزاد السياسى أن يواصل مضارباته على طريقة تغيير اسم الشقيقة ليبيا إلى الجماهيرية الشعبية الاشتراكيةالديمقراطية الليبية العظمى، قبل أن يتدخل أحد القادة ليقترح بشكل تهكمى إضافة صفة «النفاثة» إلى السلطة تعبيرًا عن الاستياء من الانشغال بقوة اللفظ بديلا عن دور الفعل وقوة المعنى. لكن هذا الأمر تغير كثيرًا الآن بعد أن أصبح للفلسطينيين منذ 1996 سلطة منتخبة للحكم الذاتى، ولم يعد من المقبول ألا يتم تحديد طبيعة هذه السلطة ليس على الطريقة الليبية وإنما لاختيار نهج واضح يسمح بتحويل سلطة الحكم الذاتى المحدودة إلى الدولة المستقلة ذات السيادة. ومن الغريب ألا تطرح هذه المسألة، بما تستحقه من أهمية، على العقل السياسى الفلسطينى أو المصرى لاختيار أفضل السبل الممكنة لتحويل الحكم الذاتى إلى دولة مستقلة، ومن المثير حقًا للدهشة أن تكون إسرائيل هى من اهتم أكثر بهذا الأمر، فقد شكلت وزارة الخارجية هناك إدارة خاصة بالحكم الذاتى وفى نهاية شهر أكتوبر 2005، أى فى عهد شارون، ناقشت الخارجية تقريرًا يوصى بعدم معارضة تحويل الحكم الذاتى إلى دولة فلسطينية، مقيدة السيادة، بإعتبارها مصلحة إسرائيلية، كما جرت مناقشة رسالة دكتوراه أعدها الباحث أورى زنكى درس فيها 389 حالة نزاع إقليمى، وأشار فيها إلى الحالات التى نجح فيها تحويل الحكم الذاتى إلى دولة مستقلة والحالات الأخرى التى أخفقت فيها هذه المحاولات، ورغم أهمية التنويه بهذا الأمر إلا أنه لا يثير لدينا أى نوع من الانبهار لأنه لا يتعدى الفرق بين الطرف الذى يؤدى واجبه بالتزام وموضوعية والطرف الآخر، صاحب الشأن، الذى ينشغل عن واجباته الأساسية بصراعات موهومة ولا طائل منها.لكن الوقت لم يفت تمامًا ولاتزال الفرصة متاحة للبحث بكل موضوعية وعمق عن أفضل السبل لإنجاح عملية التحول من طور الحكم الذاتى المحدود إلى رحاب الدولة المستقلة، وتبرز فى هذا المجال الحاجة لمناقشة فكرة الاعتماد على بناء وتطوير نموذج ديمقراطى حقيقى لسلطة الحكم الذاتى، لأن بناء هذا النموذج الديمقراطى حتى تحت الاحتلال هو حق طبيعى ومشروع للشعب الفلسطينى الواقع بين شقى رحى الاحتلال الإسرائيلى والاستغلال والاستبداد والفساد الداخلى، فضلا عن أن بناء هذا النموذج الديمقراطى من شأنه أن يسهم كثيرًا فى تأهيل الحكم الذاتى للترقى ونيل استحقاق الدولة المستقلة بكل جدارة. إن حاجة الفلسطينيين للديمقراطية تتجاوز فى أهميتها وضرورتها حاجات العديد من الشعوب الأخرى بالنظر إلى العوامل الخمسة التالية: أولاً- إن الفلسطينيين يواجهون حالة شديدة الخصوصية من الاحتلال والاستعمار، فإسرائيل تزعم أنها «ليست محتلًا أجنبيًا»، وأنها الديمقراطية الوحيدة فى المنطقة، وأنها تنتمى إلى حضارة القرن الواحد والعشرين وليس إلى ظلام القرن التاسع، وقد وردت هذه العبارات فى متن الكلمة التى ألقاها نتنياهو على مسامع العالم من على منبر الأممالمتحدة يوم الخميس الماضى، ويعيش الفلسطينيون فى وضع متداخل مع الأوضاع الإسرائيلية وتابعوا عن كثب إجراء ستة انتخابات مبكرة فى فترة لا تتجاوز 13 عامًا ولم يتهم أحد هناك أى قوى خارجية بالتآمر عليه، ويتابعون الآن محاكمة رئيس الدولة بتهمة التحرش الجنسى بإحدى موظفاته، ومحاكمة رئيس الوزراء بتهمة الرشوة واستغلال النفوذ، والصراع مع هذا النوع من الاحتلال يجب أن يكون شاملًا وحضاريًا وتتنوع وتتعدد فيه الأساليب والوسائل لكنها جميعًا يجب أن تستند إلى نموذج ديمقراطى ينافس بل ويتفوق على النموذج الإسرائيلى. ثانيا- إن التزام الفلسطينيين ببناء وتطوير نموذج ديمقراطى هو شرط واجب النفاذ لإقامة الدولة المستقلة وفقًا لما قررته إرادة المجتمع الدولى وكما وردت فى بنود خطة خريطة الطريق، وحتى لو لم يلتزم الجانب الإسرائيلى بتنفيذ هذه الخطة، فإن المصلحة الفلسطينية العليا تستوجب من الفلسطينيين الالتزام من تلقاء أنفسهم بكل المعايير الدولية المعروفة للنظام الديمقراطى والمعمول بها فى أغلب المجتمعات المتقدمة. ثالثًا- إن هناك قرابة المليون ونصف المليون مواطن فلسطينى يحملون الجنسية الإسرائيلية ممن نسميهم فلسطينيى 48، ويمثلهم الآن بشكل ديمقراطى 11 نائبًا فى الكنيست الإسرائيلى، وما لم ينجح الفلسطينيون فى الضفة وغزة فى بناء نموذج ديمقراطى ينافس ويتفوق على النموذج الإسرائيلى فإن قطاعات غير قليلة منهم سوف تمضى فى طريقها للاندماج فى الأسرلة. رابعًا- إن النظام الديمقراطى هو وحده الذى يحترم المواطن الفلسطينى وإرادة الأغلبية التى تحتكم بشكل حضارى إلى المنافسة عبر صناديق الانتخابات الحرة والنزيهة، وهذا الحل الديمقراطى هو السبيل الوحيد لإنهاء حالة الانقسام ومنع الاستقطاب بين فتح وحماس وإعادة التوازن المختل إلى الخريطة السياسية الفلسطينية. خامساً- ومن وجهة النظر المصرية فإن وجود كيان فلسطينى غير ديمقراطى على الحدود الشرقية يمكن أن يشكل مصدراً لتهديد الأمن القومى ومرتعاً لجماعات التطرف وشبكات الإرهاب الدولى، وعانت مصر من مشكلات مماثلة عابرة للحدود مع بعض دول الجوار، خاصة النظام فى السودان، وليبيا وإمارة غزة. وتؤكد هذه المعطيات الخمسة الأهمية الاستثنائية لخيار الديمقراطية بالنسبة للفلسطينيين، ولذا يبدو غريباً أن تميل الورقة المصرية فى الحوار الفلسطينى لرغبة حركة حماس وحدها بشأن تأجيل الانتخابات المقرر إجراؤها فى 25/1/2010 لانتخاب رئيس جديد للسلطة ونواب للمجلس التشريعى. وخلافاً للدعاية المحمومة، التى تبثها الفضائيات المحسوبة على الإخوان المسلمين، والتى كانت تزعم دائماً أن الموقف المصرى ينحاز ضد حماس، فإن الوقائع وليس الدعاية والشائعات تؤكد العكس تماماً وأن الموقف المصرى كان أكثر انحيازاً لحماس على حساب كل الفصائل الأخرى. كانت مصر بدأت جولات الحوار الوطنى فى مطلع شهر فبراير من هذا العام بدعوة ومشاركة كل الفصائل الفلسطينية وبعض الشخصيات الوطنية المستقلة غير المحسوبة على أى فصيل، ولكن حماس اعترضت وضغطت من أجل استبعاد كل هؤلاء وحصر الحوار ثنائياً فقط مع فتح، وقبلت مصر موقف حماس وتحول الحوار منذ جولته الثالثة إلى حوار ثنائى، الذى تسميه الجبهة الديمقراطية حوار المحاصصة أى تقاسم الحصص بين فتح وحماس، ما يؤدى إلى إعادة إنتاج الاستقطاب وإدامة حالة الصراع، ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط، فقد اتفقت كل الفصائل بما فيها الجهاد الإسلامى فى 19/3/2009 على أن تجرى الانتخابات الفلسطينية فى موعدها المحدد فى 25/1/2010 وفقاً لنظام القائمة النسبية، لكن وحدها حماس اعترضت على ذلك، ومرة اخرى وليست أخيرة مالت الورقة المصرية لموقف حماس، ودعت إلى إجراء الانتخابات بنظام مختلط 70% بالقائمة النسبية، 30% بالنظام الفردى فى الدوائر. وقد لاحظت كل ردود الفصائل على الورقة المصرية تراجعها عما جرى الإجماع عليه من كل الفصائل فى الجولات الأولى من الحوار الوطنى وميل هذه الورقة لتبنى مواقف حركة حماس، ولهذا تعتقد الفصائل أن حماس سترد إيجابياً على الورقة المصرية هذه المرة لأنها تنقذها من الهزيمة فى الانتخابات إذا أجريت فى موعدها المقرر، ولأن اعتماد مبدأ التأجيل يفتح الباب أمام تأجيل آخر وترحيل لاحق وهكذا إلى ما لا نهاية. إن تأجيل الانتخابات يوجه ضربة قاسية لعملية بناء التجربة الديمقراطية، والأهم والأخطر من ذلك أنه يسمح بتكريس الانقسام بين غزة والضفة بل يرشحه بقوة لأن يتحول إلى انفصال دائم سوف تدفع مصر فاتورته الثقيلة بالكامل. وإنه لمن السذاجة السياسية أن يتوهم البعض أن موافقة حماس وفتح والفصائل على الورقة المصرية يمكن أن تنهى الانقسام وتستعيد الوحدة الوطنية، ربما يجب أن نذكر الجميع بأن فتح وحماس كانتا وقعتا فى مطلع فبراير 2007 على اتفاق مكة، وبعد التوقيع تعلق زعماء الطرفين بأهداب الكعبة الشريفة وأقسموا بأغلظ الأيمان على الالتزام بالاتفاق وحمايته بعد أن تزودوا بالهبات الكريمة والعطايا السخية، وبعد أسبوع واحد أعلن الدكتور الزهار، الذى خرج من الحكومة الجديدة، من على منبر المجلس التشريعى أن اتفاق مكة غير ملزم لحركة حماس، فيما اتهمت حماس من جهتها تيار دحلان بأنه يتآمر على الاتفاق، والنتيجة انهار الاتفاق وانحلت حكومة الوحدة الوطنية بعد ثلاثة أشهر فقط، فهل سيؤدى تأجيل الانتخابات وإعلان القاهرة إلى إنهاء حالة الانقسام الثقافى والمجتمعى بين غزة والضفة؟، وهل يمكن أن يتنازل إسماعيل هنية عن رئاسته لما يسميه «الحكومة الربانية»؟ أو أن يتخلى الزهار عن قيادته لما يسميه «طليعة الثورة الإسلامية العالمية التى تنطلق من غزة»؟، وبالمقابل هل يمكن أن يتراجع الدكتور سلام فياض عن المشروع، الذى بدأه فى الضفة الغربية ووعد بأن ينهيه خلال عامين بإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة؟ الأمر يبدو أقرب إلى الوهم منه إلى الحلم.ومن جهة أخرى يعتقد البعض أن الورقة المصرية تعاملت بحكمة مع قرار تأجيل الانتخابات لتفادى رفض حماس المشاركة فيها ومنعها بالقوة المسلحة فى غزة، ومع وجاهة هذا الرأى فإنه مع ذلك يجب أن نسأل عن أسباب رفض حماس إجراء الانتخابات فى موعدها رغم أنها تؤكد صباح مساء أنها تحظى بتأييد الأغلبية من أصوات الشعب. ومع ذلك ترفض الاحتكام لصناديق الانتخابات، ربما لأنها تعرف حقيقة تدنى شعبيتها، خاصة فى غزة، أو لأنها لا تؤمن أصلا بالديمقراطية وتعتبرها بدعة غربية، ولهذا تعاملت مع الانتخابات على طريقة ورق التواليت لمرة واحدة فقط. ولابد أن نشير هنا أيضا إلى أن قرار تأجيل الانتخابات يضع مصير الشعب الفلسطينى فى يد الفصائل وحدها رغم أنها باتت مكشوفة ومخترقة ولا تملك ما يكفى من قرارها المستقل، وقد فشلت فى التفاوض وأفلست فى المقاومة، ولم يعد هناك مبرر لاستمرار هيمنتها وتحكمها فى مصير الشعب وقضيته، وقد تجاهل قرار تأجيل الانتخابات رأى الأغلبية من الشعب الفلسطينى، وكأن الانتخابات شأن يخص أمراء الفصائل والميليشيات فقط، فيما تؤكد نتائج كل استطلاعات الرأى التى أجرتها مراكز محايدة وهيئات أكاديمية مستقلة أن نسبة تكاد تصل إلى 47% من الشعب الفلسطينى لم تعد تؤيد أى حركة أو فصيل، وليس هناك من سبيل غير النظام الديمقراطى الحقيقى الذى يمكن أن يحرر هذه الأغلبية الصامتة من أسر الفصائل وسطوة أمراء الميليشيات. إن التمسك بإجراء الانتخابات فى موعدها المقرر فى نهاية ولاية واحدة من أربع سنوات، ليس موجهاً ضد أحد وإنما هو قرار سياسى تربوى يعلم الأجيال الجديدة مبادئ الديمقراطية، التى تحترم القانون وتخضع لأحكامه، ولا تأخذه بيدها أو تعتدى عليه وتنتهكه، وهو فضلاً عن ذلك يؤكد قيم احترام رأى الشعب وتجديد شرعية السلطة، وكنا وجهنا انتقادات شديدة للرئيس الفلسطينى أبومازن لأنه لم يقبل التحدى ويتوجه فوراً فى 9 يناير الماضى لانتخابات رئاسية جديدة حتى لو كان النظام السياسى يسمح له بالبقاء إلى أن تجرى انتخابات متزامنة للرئاسة وللبرلمان أو المجلس التشريعى، لأنه لا يجب أبدا أن نجفل أو نتراجع فى كل مرة تكون هناك ضرورة لسماع كلمة الشعب وتجديد الثقة أو حجبها عبر الاحتكام لصناديق الانتخابات الحرة النزيهة. ومع الأهمية الكبرى للجهود التى تبذلها مصر مع الفصائل من أجل التوصل إلى اتفاق يبدو ممكنا، لكن المصالحة الحقيقية وإنهاء الانقسام يبدو مستبعداً، فإنه لم يعد من المقبول أن تستمر مصر لأكثر من ذلك فى إدارة حوار بلا قرار، ولا بد من فتح قناة أخرى موازية لهذا الحوار للتوافق على اختيار السبيل الأنسب لتحويل الحكم الذاتى المحدود إلى دولة مستقلة وذات سيادة، وفى كل الأحوال فإنه يجب التأكيد على الطابع الديمقراطى للسلطة، لأنه ما لم تكن هذه السلطة ديمقراطية فإنه لا أمل يرجى فى تحويلها إلى دولة مستقلة، وما لم تكن السلطة ديمقراطية حقاً فإن من الأفضل للجميع حلها.