أفاجأ برد فعل الناس فى مصر تجاه ما يشاهدونه من أفلام وثائقية عن التاريخ المصرى الحديث، أفاجأ باتساع رد الفعل ووصوله إلى شباب صغير وإلى أطفال نتصور أحياناً أنهم مع مُلهيات العصر الحديث ومشاكل الأيام وضغط الحياة حتى عليهم، أنهم بعيدون كل البعد عن الإحساس بالوطن، بالبلد، بمصر، بالتاريخ وبنماذج الأبطال والشجعان، بمن دافعوا وضحوا واستشهدوا، هنا يتجلى معنى إحياء الذاكرة القومية كما يجب أن يكون، ويحل الفيلم الوثائقى التسجيلى الذى يعرض لأبطال وسيرتهم محّل ألف كتاب وألف مقال، وتبقى الصورة عالقة بالأذهان على مدار العمر. كانت التجربة الأولى مع فيلم سحر ما فات فى كنوز المرئيات الذى كتبه وأخرجه د.مدكور ثابت، وأنتجته قنوات دريم وقدمه نادى السينما منذ عدة أشهر، ونال الفيلم ونالت الحلقة استحساناً وقبولاً واسعاً على الرغم من طول عرض الفيلم الذى وصل إلى مئة وثلاثين دقيقة والجزء الأكبر منه بالأبيض والأسود وكان يعرض تاريخاً مصوراً لمصر منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى بداية الثمانينيات، ثم جاءت تجربة نادى السينما الثانية منذ أيام مع الأفلام التسجيلية، وبمناسبة الاحتفال بالذكرى السادسة والثلاثين لانتصار أكتوبر العظيم، أربعة أفلام اخترتها للعرض من مقتنيات المركز القومى للسينما وكانت جيوش الشمس لشادى عبدالسلام، أبطال من مصر لأحمد راشد، صائد الدبابات لخيرى بشارة، ومسافر إلى الشمال مسافر إلى الجنوب لسمير عوف، وأهداها السيد فاروق حسنى، وزير الثقافة للعرض مشكوراً للقناة وللبرنامج، أفلام تم إنتاجها ما بين عامى 1974 و1975 وبعد عبور أكتوبر ومعركة التحرير مباشرة وعندما كانت أرض سيناء مازالت تشهد آثار المعركة الفاصلة والجنود والضباط مازالوا يجوبونها بأرديتهم العسكرية وبوقائع معاركهم التى خاضوها، وبذكرى زملائهم من الشهداء الأبرار، أفلام من لحم ودم، لم يكتب تفاصيلها مؤلف ولم يخترع وقائعها كاتب سيناريو ولم يجسد أدوارها ممثلون، مصريون حقيقيون مقاتلون على جبهة القتال عاصروا سنوات التدريب الشاق والإعداد للمعركة وشراسة المواجهة ولحظة العبور والانتصار على عدو أشاع أنه لايقهر فتم قهره وإذلاله وإجلاؤه عن أرض الوطن، وقائع تاريخية تم التقاط بعض منها فى تسجيل حىّ من أرض المعركة ومن خلال شباب العسكريين وهم فى العشرينيات والثلاثينيات وتحمل ملامحهم معانى القوة والعظمة والكبرياء. والدة الشهيد فتحى عبادة ريفية بسيطة تستمع إلى خطابه الأخير الذى أرسله لأبيه يطلب منه أن يدعو لجيش مصر بالنصر والعزة وأن يواصل تعليم أخوته وتقول الأم (لماّ جانى الخبر أنا مؤمنة وعارفة إن الموت علينا حق ثم يتحشرج صوتها وتبكى وتردد لكن الفراق صعيب يا ولدى)، نموذج لاينسى لعظمة أم مصرية أدركت بفطرتها أن الوطن له فى ولدها حق . صائد الدبابات عبدالعاطى حامل وسام نجمة سيناء يؤكد ويصر على أن بسيونى ومحمد عوض زملاء سلاحه شاركاه فى رقم قياسى آخر فى تدمير دبابات العدو وأن إنجازهم كان تحت قيادة القائد البطل مراد الخولى، أصر صائد الدبابات أن يحكى عن زملائه وقائده ولم ينفرد بالبطولة لنفسه، ثم المهندس الشاب فاروق وزميله المهندس أحمد عفيفى خريجو نفس الدفعة أحدهم يسهم فى إنشاء كبارى العبور فى شمال مصر والآخر يسهم فى إنشاء سواتر الحديد حول معابد فيلة فى الجنوب وكل منهما يقدم لوطنه، أنقذت الآثار ومرت الدبابات والمعدات وانتقل الجنود إلى الضفة الشرقية لتحريرها فى الفيلم التسجيلى مسافر إلى الشمال مسافر إلى الجنوب، ثم يأتى فيلم جيوش الشمس وهو كما جاء به (الاسم الذى أطلق على الجيش المصرى منذ سبعة آلاف سنة ومقره اليوم فى سيناء)، يعلو صوت الجنود والضباط يوم العبور كنا بناخد بتار زمايلنا كنا نصاب ونواصل القتال، نفقد بعضاً من أطرافنا ولا نلتفت إليها، مقاتل يعود إلى قريته بعدما ظن أهله أنه استشهد فيأتى معه خبر استشهاد أخيه وتواجه الأسرة الحدثين بالفرحة والدموع، ومصابون مصممون على العودة لأرض المعركة. مشاهد لا تُنسى وكلمات لا تُمحى من الذاكرة ودرس فى الوطنية ينفذ سريعاً إلى القلب والعقل والوجدان. ولن أملّ من تكرار اقتراح ابتكار زهرة مصرية صغيرة مصنوعة من الورق نعلقها جميعاً على صدورنا فى ذكرى انتصار أكتوبر من كل سنة كى لا يكف الناس عن التحدث عن معناها ويتم بيعها بجنيه واحد ويوجه عائدها بالكامل وسيكون بالملايين لصالح أسر وأولاد وأخوة وأحفاد جنود وضباط معارك مصر على طول تاريخها من المصابين والشهداء إعمالاً لقيمة العرفان بالجميل وتقديراً لا يضاهى عظمة ما بذلوه من أجلنا وهو تقليد متبع فى بلاد عديدة ويطلقون عليه زهرة المحارب، وأجدد الدعوة لزهرة المحارب المصرى. [email protected]