يخطئ مَنّْ يتصور أن الاتحاد السوفيتى انهار عام 1989، لأنه فقط كان وقتها قد ضاعف من إنفاقه العسكرى ليواجه حرب النجوم التى كان الرئيس ريجان قد استدرجه إليها! فلا حرب النجوم هى التى أدت إلى انهياره، ولا حتى حرب الشموس، وإنما «الفواتير العادية»، إذا جاز التعبير، هى التى قصمت ظهره، وهو يسددها يوماً وراء يوم! كان الاتحاد السوفيتى يحتفظ وراء أسواره بآلة سوفيتية جبارة، تمثلت فى الحكومة بدواوينها، وفى القطاع العام بشركاته، وكانت الدواوين والشركات معاً تعمل على تخليق فرص عمل كاذبة، فى صورة بطالة مقنعة، وكانت الدولة فى كل الحالات ملتزمة بالوفاء برواتب جيوش من الموظفين، مع مطلع كل شهر، ولم تكن تستطيع بحكم توجهها الاشتراكى، أن ترفع يدها عن مسألة كهذه، فى أى وقت! وكان القطاع العام، مع دواوين الحكومة، مجرد وحدات مستهلكة لا تعرف قيم الإنتاج، وكانت خزانة الدولة، بالتالى، تعطى ولا تأخذ، ولم يكن هناك قطاع خاص يمكن أن يؤدى ضرائب هى بالضرورة مورد أساسى من موارد الدولة السيادية، التى تنفق منها على خدمات الجماهير فى العالم الحر! ولم تكن هذه هى فقط الفواتير العادية فى الدولة السوفيتية، وإنما كانت الدولة هناك قد أنشأت جهاز مخابرات رهيباً هو «الكى. جى. بى» الشهير وقوات بحرية جبارة، وسلاح طيران جباراً، ومدفعية جبارة، وجهاز أمن جباراً على كل مستوى، وكلها كانت الدولة هى التى تنفق عليها، من أول قرش إلى آخر مليون جنيه، فى وقت كانت فيه صناعة السلاح فى الولاياتالمتحدة، وفى الغرب، فى يد شركات القطاع الخاص، الذى كان يصنع 5 دبابات - مثلاً - لبلده، وللخارج، وكان يصدر منها جزءاً، ويستبقى جزءاً للسوق المحلية، وكان القطاع الخاص يكسب، فيسدد ضرائب على أرباحه، وكان يتيح فرص عمل حقيقية لا كاذبة، وكانت أرباحه تتيح توسعات أكبر، بكل ما فى هذه التوسعات من إنفاق يجرى على بناء الإنسان! وكان الطبيعى جداً، فى ظل وضع كهذا، أن يجد الاتحاد السوفيتى نفسه، فى لحظة، مفككاً على الأرض، وعاجزاً عن القيام، لأن فواتيره كانت فى اتجاه واحد، من الخزانة العامة، إلى كل هذه الأوجه من الإنفاق، وفى الوقت ذاته كانت الخزانة فى دول السوق الحرة إجمالاً، ترسل فواتير، وتستقبل فواتير، وكان جهاز الأمن، بكل مستوياته وأشكاله، ينفق عليه دافع الضرائب، فى دول الغرب، ثم تنفق عليه الدولة فى المقابل من لحمها الحى فى دول الشرق، وكنا إجمالاً، أمام نمط للأولويات لا تخطئه عين.. نمط تبدأ أولوياته فى الاتحاد السوفيتى والدول التى دارت فى مداره، بالإنفاق على الأمن والمؤسسات السيادية، وتنتهى الأولويات بالإنفاق على المؤسسات نفسها، على عكس نمط أولويات مختلف، كان سائداً فى الولاياتالمتحدة والغرب، وكان يتجه إلى الفرد وكل ما يرتقى به كإنسان! وكنا، والحال هكذا، وكأننا أمام عائلتين فى ريف مصر.. واحدة قررت أن يعتمر عائلها سنوياً إلى آخر قيراط أرض سوف تبيعه، من أجل تحقيق هذا الهدف، ثم عائلة أخرى قررت إنفاق كل ما لها من أجل تعليم آخر فرد فيها، فتنتهى العائلتان بالضرورة، إلى أن تنتج الأولى أحفاداً من المتسولين وقطاع الطرق، وتنتج الثانية أجيالاً من العلماء والمفكرين! وحين انهار الاتحاد السوفيتى، فإن انهياره، فى حقيقة الأمر، لم يكن انهياراً لإمبراطورية، بقدر ما كان انهياراً لنمط فى الأولويات ينبغى أن يزول، وهو إذا كان قد زال من عندهم فى موسكو، فلايزال قائماً عندنا، بصورته القديمة التى نقلناها عنهم، بالقلم والمسطرة، وأصبحنا أمام وضع تشجع فيه الحكومة قطاعها الخاص، فى دول السوق الحرة، وتروج له، ونحن فى وضع تنافس فيه الحكومة قطاعها الخاص، فتكون النتيجة أنه ينسحب عند الدقيقة الأولى من بدء المنافسة، وتبقى الحكومة، ونعود للوراء عقوداً من الزمان! وإذا كان الدكتور يوسف بطرس قد انتبه إلى شىء من هذه المعادلة الجهنمية، حين قرر إحياء ثقافة الضريبة بين الناس، حتى لا نذهب كدولة، ضحية «فواتير عادية» أطاحت بإمبراطورية كاملة، من قبل، فإن هذا فى حد ذاته لا يكفى، لأن الوسائل المبهرة والجديدة، التى اخترعها يوسف بطرس، وهو يمارس الدعاية لحملته عن الضرائب، والتى انتهت من تأدية دورها، لا يمكن أن تسعفنا وحدها، ولابد إلى جوارها أن يتغير نمط الأولويات ذاته، وأن يدور حول ذلك كله حوار فيه من الرقى بمقدار ما فيه من الجدية والالتزام!.. وإلا فسوف نسقط ضحايا للفواتير!