انطلاق دورة تدريبية لمديري المدارس بالإسماعيلية    زلزال قوي يضرب ولاية تبسة شرقي الجزائر    لاريجاني: إسرائيل كانت تراهن على عزلة إيران    جوزيف عون: عدم الموافقة على «الورقة الأمريكية» تعني عزلة لبنان    بداية متواضعة.. ماذا قدم مصطفى محمد في مباراة نانت ضد باريس سان جيرمان؟    رضا عبد العال: فيريرا لا يصلح للزمالك.. وعلامة استفهام حول استبعاد شيكو بانزا    «الأداء والعقود والصفقات».. اجتماع هام بين الخطيب وريبيرو في الأهلي (تفاصيل)    رياضة ½ الليل| الزمالك يغادر.. سقوط مصطفى محمد.. انتصار فرعوني جديد.. وألمانيا سيدة العالم    اتحاد الكرة يعلن حكام مباريات افتتاح الجولة الثالثة للدوري    مصطفى محمد يشارك في خسارة نانت أمام باريس سان جيرمان بانطلاق الدوري الفرنسي    ننشر أقوال السائق في واقعة مطاردة فتيات طريق الواحات    قرار هام بشأن البلوجر «شاكر محظور دلوقتي» في اتهامه بقضية غسل الأموال    اليوم.. أولى جلسات محاكمة المتهمين في واقعة مطاردة طريق الواحات    4 أبراج «مرهقون في التعامل»: صارمون ينتظرون من الآخرين مقابل ويبحثون عن الكمال    منى عبد الغني تنعي تيمور تيمور: «عاش بطلًا ومات شهيدًا في سبيل إنقاذ ابنه»    حماية المستهلك: نلمس استجابة سريعة من معظم التجار تجاه مبادرة خفض الأسعار    تنسيق الثانوية العامة 2025 المرحلة الثالثة.. كليات التربية ب أنواعها المتاحة علمي علوم ورياضة وأدبي    عيار 21 الآن في الصاغة.. سعر الذهب اليوم الإثنين 18 أغسطس بعد الانخفاض الأخير (تفاصيل)    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية قبل بداية تعاملات الاثنين 18 أغسطس 2025    هزة أرضية بشدة 5.8 درجات تضرب شمال شرق الجزائر    القيادة السعودية تعزي باكستان في ضحايا الفيضانات    الاحتجاجات في إسرائيل محدودة التأثير وحكومة نتنياهو لا تصغي للشارع|خاص    رغم وفاته منذ 3 سنوات.. أحمد موسى يكشف سبب إدراج القرضاوي بقوائم الإرهاب    فاجعة وفاة تيمور تيمور.. 10 إجراءات بسيطة قد تنقذ حياتك من الغرق    وزارة الأوقاف تنفي شائعات بدء التقدم لمسابقة العمال والمؤذنين    حماية المستهلك عن البيع الإلكتروني: تعديل قانوني مرتقب يُشارك شركة الشحن مسئولية الغش التجاري    قلق بشأن الأوضاع المادية.. توقعات برج الجدي اليوم 18 أغسطس    وائل القباني عن انتقاده ل الزمالك: «ماليش أغراض شخصية»    تحقيقات موسعة في واقعة مقتل لاعبة الجودو على يد زوجها ب الإسكندرية    تامر أمين: حادث سيارة الفتيات بالواحات يكشف عن أزمة أخلاقية عميقة في المجتمع    وزير قطاع الأعمال يشهد حفل تخرج دفعة جديدة من كلية الدراسات العليا في الإدارة بالأكاديمية العربية    هل يجوز ارتداء الملابس على الموضة؟.. أمين الفتوى يوضح    أمينة الفتوى توضح علامات طهر المرأة وأحكام الإفرازات بعد الحيض    جراحة دقيقة تنقذ أنف طفلة من تشوه دائم ب"قها التخصصي"    وزير الخارجية يؤكد لرئيس الوزراء الفلسطيني: نرفض تهجير الفلسطينيين من أرضهم    سكك حديد مصر تسيّر القطار الخامس لتسهيل العودة الطوعية للأشقاء السودانيين    الهباش: قرار وقف الحرب بيد الإدارة الأمريكية وإسرائيل تهدد استقرار المنطقة    4 ملايين خدمة صحية مجانية لأهالي الإسكندرية حملة 100 يوم صحة    4 ملايين خدمة صحية مجانية لأهالى الإسكندرية ضمن حملة 100 يوم صحة    جامعة بورسعيد تطلق مبادرة كن مستعدا لإعداد الشباب لسوق العمل    الرئيس.. من «جمهورية الخوف» إلى «وطن الاستقرار»    صور | «العمل» تجري اختبارات للمرشحين لوظائف بالأردن في مجالات الزراعة    إطلاق حملة «إحنا مصر» لترويج وتعزيز الوعى السياحى لدى المواطنين    قبل بدء الفصل التشريعى الثانى لمجلس الشيوخ، تعرف علي مميزات حصانة النواب    حلاوة المولد، طريقة عمل السمسمية في البيت بمكونات بسيطة    المفتي السابق يحسم جدل شراء حلوى المولد النبوي والتهادي بها    فيديو.. خالد الجندي: عدم الالتزام بقواعد المرور حرام شرعا    رئيس جامعة الوادي الجديد يتابع سير التقديم بكليات الجامعة الأهلية.. صور    جبران يفتتح ندوة توعوية حول قانون العمل الجديد    الثقافة تعلن إطلاق المؤتمر الوطني حول الذكاء الاصطناعي والإبداع    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    رجيم صحي سريع لإنقاص الوزن 10 كيلو في شهر بدون حرمان    حقيقة انتقال هاكان للدوري السعودي    الخارجية الروسية تتوقع فوز خالد العناني مرشح مصر في سباق اليونيسكو    حظك اليوم وتوقعات الأبراج    موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 بحسب أجندة رئاسة الجمهورية    هيئة الأركان الإيرانية تحذر الولايات المتحدة وإسرائيل: أي مغامرة جديدة ستقابل برد أعنف وأشد    «أوحش من كدا إيه؟».. خالد الغندور يعلق على أداء الزمالك أمام المقاولون    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



39 عاما على أيلول الأسود..«فلسطينيو الأردن».. بين نعيم «التجنيس» وجحيم «التوطين»
نشر في المصري اليوم يوم 30 - 09 - 2009

هم جزء لا يتجزأ من التركيبة الوطنية للشعب الأردنى، ومكون أساسى انصهر بعضه بشكل كامل، وواجه بعضه الآخر صعوبات للاندماج كليا، مع المجتمع الأردنى، لذلك فهناك «هبات» بين الحين والحين، كأحداث «أيلول الأسود»، التى وقعت فى سبتمبر 1970، تدفع- لا الحكومة فقط- وإنما الديوان الملكي بثقله، للتحذير من مغبات تجاوز الخطوط الحمر واللعب على وتر الفتنة الطائفية.
الفلسطينيون في هذا البلد، من أحفاد جيل 48، وأبناء رعيل 67، وخلافا لسائر الدول العربية الحاضنة لهم، اقتنوا جنسيتها، وحملوا جواز سفرها، وتمتعوا بالعشرات من مزاياها، بيد أن هناك من يخشى عليهم من أن يُلقى بهم هذا النعيم إلى جحيم «التوطين»، ونسيان الوطن، لاسيما وسط تصاعد الحراك الاستيطانى الإسرائيلى الحالى المريب فى القدس والضفة، ومع خروج الملك بنفسه ليؤكد رفضه القاطع ل»التوطين»، وكل ذلك بالتزامن مع الذكرى ال 39 لأحداث «أيلول»، التى شكلت ذروة التوتر بين الفلسطينيين والأردنيين.
الأردن.. شعبٌ «70%» من مواطنيه أردنيو الجنسية.. فلسطينيو الهوى
مفارقة لافتة، بدأت منذ اللحظات الأولى للهبوط على أرض عمان، فما إن تهاجمك غريزة حب الاستطلاع، فتسأل مواطناً، موظفاً كان بالمطار، أم حامل حقائب، أم سائقاً، عما إذا كان أردنياً - أردنياً أم أردنياً- فلسطينياً (أى من جذور فلسطينية)، حتى يأتيك بأحد ردى فعل متباينين لا ثالث لهما، فلو كان فلسطينياً، تبسم وقال: «فلسطينى»، أما لو كان أردنياً، فقد يعبس لوهلة ثم يبدى لك دهشة مصطنعة وهو يجيب: «شو يعنى؟ كلنا أردنيين»، ليصد عليك أى محاولة يتصور أنها ل«زرع الفتنة» بين المكونين الأساسيين للشعب، الذى تؤكد غالبية الفلسطينيين أنهم يشكلون 70% منه، فى حين تقلل المصادر الرسمية كثيراً من تلك النسبة.
غير أن كليهما بالنهاية يفتح لك قلبه - وبيته - بكرم ومحبة، قد يكونا من أكثر ما يوحدهما تحت سماء هذا البلد، ذى الطبيعة الجبلية، بشوارع ترصعها بيوتٌ بيضاءُ متناثرة تتخللها أشجار الصنوبر الخضراء على طول طرقاته الملتوية انخفاضاً وارتفاعاً، فى تكوين بديع يستدعى للأذهان طيف المدينة المقدسة، قدس الأقداس. فتلك الضفة الشرقية ليست فى النهاية سوى امتداداً تضاريسياً للضفة الغربية، الواقعة على مرمى العين المجردة، فى نهار صاف مشمس خال من السحب.
ساعات وبدأت أميز أيهما فلسطينى مجنس، وأيهما أردنى خالص، لأكتشف أمراً مشتركاً ثانياً يوحدهما، بخلاف الجنسية - بل وربما يوحد العرب جميعهم - هو أن كليهما يميل إلى المبالغة فى التعبير عن حبه للملك.
علق إبراهيم (36 عاماً)، سائق أردنى - فلسطينى، من محافظة مادبا، على ذلك قائلاً: «أتفق معك أن هذه المشاعر تعكس خوفاً أكثر منها حباً، الناس مجبورة تظهر الحب، حتى الأردنيين الأصليين يظهرون حب الملك على البغضاء، لأنه أولاً ما فى ديمقراطية، وثانياً، بسبب السياسات المتبعة فى حماية الدولة العبرية وحماية الحدود مع العدو، وهذه من أكثر الأشياء التى تثير استياء الناس من النظام، فحماية الحدود مع إسرائيل والسكوت على جرائمها من ضمن السياسات الداخلية المرفوضة».
وأوضح إبراهيم: «يعنى فيه محاولات تسلل لأردنيين من أجل المقاومة، لكن يتم منعها من قبل الحكومة، ويتم القبض عليهم، ويبقون فى السجون الأردنية مدداً طويلة، وعند خروجهم يكونون غريبى الأطوار»، فى إشارة إلى تعرضهم لأنواع تعذيب شتى، ودلل إبراهيم على «هوس» الحكومة بمسألة حماية الحدود لدرجة أنها منعت تنفيذ مشروع سياحى يربط بين جبل «نيبو» التاريخى بمحافظة «مادبا»، والأراضى المحتلة عن طريق «تلفريك»، رغم كل ما كان سيدره مثل هذا المشروع من عائد مادى، خوفاً من تسلل الفدائيين.
وعن تعايش الفلسطينيين والأردنيين، قالت يسرا سلامة، فلسطينية تعمل موظفة فى بيت طالبات بالقرب من الجامعة الأردنية، إن الانصهار أخذ - ومازال - وقتاً طويلاً، نظراً ل«طبيعة المرحلة الصعبة التى عاشها الجانبان أيام الملك الراحل حسين»، فقد كانت تلك الفترة مليئة بالمشاحنات والتوترات السياسية والاجتماعية، رغما عن الجميع، لأن «الجيل الأول من الثورة الفلسطينية انظلم (من الاحتلال) وكان، رغماً عنه، يعبر عن ظلمه داخل الأردن، وداخل أى أرض أخرى عربية استضافته.. لذلك كان الجيل الأول هايج»، ومضت يسرا قائلة: «لكن مع الملك عبدالله الثانى، لما إجى، كان الجيل الثانى من الفلسطينيين بدأ يهدأ سياسياً، ويتأقلم مع أوضاعه، تماما مثل فلسطينيى الداخل».
زميلتها، الموظفة فى الفندق، كانت مثلها فلسطينية - أردنية ومثلها تدعى «يسرا»، قالت يسرا التميمى: «بعد مرحلة التوتر السياسى، نجح الفلسطينى - لأنه جاء من بلده متعلماً - مع الوقت فى أن يأخذ كل المناصب بجدارة، فسعى الملك عبدالله عندئذ إلى عملية (إعادة أردنة للمؤسسات) منذ بداية عام 1999»، واصفة بذلك ما يشير له البعض من محاكاة لخطاب الملك حسين الراحل الذى ألقاه فى 5 نوفمبر عام 1974 وأعلن فيه «أردنة المملكة»، وفصل الضفتين.
أما أبوسالم، فيجلس أمام ورشة النجارة الخاصة به فى وسط البلدة القديمة بعمان. هو من القلة التى تأبى ذاكرتها نسيان موطنها الأصلى، اللد، فى أراضى 48، كما أنه يرفض أن يغادر الأردن إلا لو كان سيعود إلى اللد نفسها. ولأن الصبية الفلسطينيين الذين يعملون لديه مضربون عن العمل، للمطالبة بزيادة أجورهم، فقد كان لديه من الوقت ما سمح لى بالتسامر معه، فحكيت له عن صحفى أردنى قابلته قبل ساعات ووصف لى أحداث أيلول بأنها «أيلول الأبيض»، وطلبت تعليقه، فرد بحكمة المسنين: «الفلسطينيون اتنمردوا.. هاى قتلوا، وهاى قتلوا فى أيلول الأسود، لكن الفلسطينيين هم اللى بدأوا، لم يرضوا بوضعهم، ولم يكتفوا برفع أعلام فلسطين والتلويح بها فى المظاهرات، بل رفعوا معها السلاح، فكانت هذه هى القشة التى قصمت ظهر البعير».
سناء لا تحلم بالعودة.. والتوطين لا يزعجها
«سدينا الشوراع.. طلعنا نرمى بطاقه التموين.. شلنا البارود وسيرنا، وأعلنا لا لا لا للتوطين.. لو اعطيتونا الدنيا بكنوزها وملايينها، ماتساوى حبة رمل من ترابك فلسطين».
لا تعدو كلمات تلك الأغنية كونها حبرا على ورق، وألحانا تمت تعبئتها فى شرائط، يتداولها سكان «البقعة»، إذ إن هناك من أبناء المخيم من يتمسك بالصلاحيات التى توفرها له وثائقه الأردنية، بل يبدو كأنه لا يعبأ كثيرا بفكرة «العودة».
هذا المضمون عبرت عنه سناء، فتاة مخطوبة لشاب أردنى، أكدت بصراحة صادمة أن حلم العودة للضفة الغربية، التى ينحدر منها والدها، لا يراودها، لأنها سعيدة فى البقعة، ولا ترى ما يوجب رحيلها، على حد قولها.
فجرت سناء صاروخها فى جلسة عائلية لأسرة بسيطة من أبناء المخيم، فلم يصب من شظاياها سواى، إذ أكدت قريبتها الأكبر، صباح محمد (ربة بيت) «فيه خدمات كثيرة فى المخيم، باحب الملك عبد الله وأبوه.. لا عمرنا حسينا بالتمييز، آه والله، آه والله».
هكذا كررت صباح قسمها بشكل تلقائى لافت، متابعة «سناء بدها تتجوز أردنى، الآن هذا الزواج أصبح عادى.. الكل يتجوز من كله.. ممكن ناس تسأل ليه خدت أردنى؟؟، لكن بالآخر كله بيعدى»، وهنا أكد الباقون أن الوضع لم يكن كذلك قبل سنوات، وقال يوسف عبد العزيز، سائق فى مصنع ألومنيوم، إن قلة من الأردنيين المتشددين مازالوا يعايرون الأردنية التى تتزوج من فلسطينى، ويسخرون منها قائلين «يا بلجيكية».
وبعد كثير من الحوار دار حول ما إذا كان الفلسطينيون، حاملى الجنسية، يشعرون بأى تمييز فى دخول الكليات العسكرية وفى أداء الخدمة العسكرية، عادت صباح لتدخل فى الحديث بحماس بعد طول تحفظ: «أهل إربد يكرهوننا». وسرعان ما غيرت نبرتها: «لكن الكرك يحبوننا، وحياة الله بحب الأردن وبفديها بدمى».
وبابتسامة متحدية وصوت هادئ ساخر، قطع شقيقها عبدالرحمن قسمها قائلا «إربد يغيرون منا لإن احنا نعمر الصحرا»، ليردد جميع من فى الغرفة وراءه بتصديق «صح صح صح صح صح»، بمن فيهم النساء اللائى آثرن الصمت معظم الوقت، خاصة عندما دار الحديث حول ذكرياتهم لأحداث «أيلول الأسود»، فى سبتمبر 1970، والتى كان من الواضح أن أكثرهم، رجالا ونساء، يتحاشون التطرق إليها، فتراوحت إجاباتهم بين «ما بافتكر»، «كنت صغيرة»، «اللى عارف يحكى»، «كيف بدى أعرف»،
فى حين اكتفى محمد جبريل، الذى تجاوز سنه ال50، فلم يتسن له الادعاء بعدم معاصرة الأحداث، بقوله «الخلاف الرئيسى بيننا وبين الأردنيين من زمان إننا أشطر منهم.. علمناهم كل شي»، ثم مضى معلقا على الأحداث بآرائه السياسية التى فتح فيها النار على الجميع باستثناء الملك عبد الله، ف»أبو عمار قضى على فتح قبل ما يموت»، و»حركة حماس صناعة إسرائيلية»، و»أبو مازن عميل للموساد»، وبسؤاله عن السبب، أكد بقناعة تامة «لأنه بهائى».
لم يكن هذا الحوار أكثر صدمة لى من تعليقات الطفلة تالا (6 سنوات) التى تدرس فى مدارس الأونروا «ترفيع أول»، والتى أخذت والدتها تلقنها بصوت خفيض «كيف بتحبى الملك يا تالا»، لترد الفتاة بخجل طفولى «باحبه كتير»، عندئذ دخلت والدتها غرفة صغيرة، فاقتربت من تالا وسألتها عن السبب فأجابت بعد تفكير وحيرة «لأنه بيضحك على اليهود»، هنا خرجت الأم وألبستها شالا فلسطينيا حول عنقها، وهى تخبرنى «طبعا تالا عم تحب الملك لأن الجيش عطاها هاى اللفحة فى احتفالات ولى العهد»، فنظرت لتالا مرة أخرى وسألتها «تعرفى فلسطين يا تالا؟» فنزل صمتها على رأسى كالماء البارد فى ليلة شتوية.
مخيم «البقعة».. ترمومتر الشتات الفلسطينى بالخارج
من بين جدران «الزينكو» القديمة، ومن تحت أسقفها الموصلة للهيب الحر صيفاً، والمسربة لمياه الأمطار شتاءً، شق رجال فلسطينيون طريقهم، مخترقين ثقوبا حفرتها عوامل التعرية فى أكواخهم الصفيحية بمخيم «البقعة»، والتى تناوبت عليها محاولات التحديث، قبل أن يخرج منها- رغم الفقر والتضييق السياسى والاجتماعى- المهندس والطبيب ورجل الأعمال، بل منهم من برهن على «شطارة» الفلسطينى فى لعبة المال وبيزنس التجارة، حتى بات منهم من يشكل اليوم جزءًا لا يتجزأ من أعمدة الاقتصاد الأردنى.
وائل أبودية، محاسب فى شركة استثمارات مالية خاصة، تذهلك أناقته، ببذلته الرمادية، وربطة عنقه الأرجوانية، عندما يفصح لك بأنه أحد شباب مخيم «البقعة»، أحد المخيمات الفلسطينية ال 10، التابعة لوكالة «الأونروا» فى الأردن.. «بعلمنا وكفاءتنا بنوصل للى بدنا إياه فى القطاع الخاص.. لإنه فى القطاع العام لا يمكن أن نصل إلا بالواسطة»، هكذا رد وائل على نظراتى المتسائلة، موضحا أن اللاجئين الفلسطينيين فى الأردن بشكل عام سواء من أبناء المخيمات، أو الأردنيين من أصول فلسطينية، يعانون من تلك الآفة، رغم حصولهم على الجنسية الأردنية، التى يؤكد أنها منحتهم عشرات المزايا، وجعلت وضعهم أفضل من سائر فلسطينيى الشتات سواء فى سوريا أو لبنان أو داخل الأراضى المحتلة.
أضاف وائل (26 عاما) أنه رغم عدم وجود نص يحظر على الفلسطينيين تقلد وظائف حكومية إلا أن مسؤولى القطاع العام يفضلون عادة وبشكل غير معلن تعيين الأردنيين على الفلسطينيين، الأمر الذى دفع الفلسطينيين فى المقابل ممن علا شأنهم وأصبحت لهم شركاتهم الخاصة إلى الرد عليهم بحرمان الأردنيين منها، وقصر وظائفها على الفلسطينيين، لتعويض فرص العمل الضائعة منهم فى القطاع العام.
«وائل» شاب مكافح منحدر من قرية عجرر بالخليل، يصر على النجاح، ذو عينين تلمعان ببريق طموح لا يعرف حدوداً، أغلب حديثه يتركز على مهارة وكفاءة كل فرد فى المخيم فى تنمية وتطوير نفسه: «يكفينى أن جنسيتى أردنى، أسافر كيف ما باريد، بدى أسافر وأتعلم وأتثقف، أخويا كمان داخل هيتعلم هندسة فى مصر»، وبين كل عبارة وعبارة يؤكد: «كل واحد لازم يدور كيف بده يطور نفسه».
ومن الخاص إلى العام، يتحول اهتمام وائل فجأة، ونحن على أعتاب إحدى حارات المخيم، ليشير بيديه إلى منزل متهالك قديم، لا تتوقع أن بشرا مازالوا يسكنونه إلى أن تفاجئك رؤوس مطلة من ثنايا نوافذه: «هذا بيت من صفيح الزينكو، بعد أن أدخلت عليه بعض التجديدات، فمنذ بناء المخيم، مرت البيوت بعدة مراحل، بدأت من خيم الطوارئ المصنوعة من القماش، مرورا بأكواخ الزينكو تلك، والتى طورها الأهالى بجهود ذاتية فيما بعد إلى جدران أسمنتية ولكن بقيت الأسقف من الصفيح، إلا من فتح الله عليه وتمكن من صب البيوت الحديثة المعروفة بالعقدة».
وبفخر تؤكد رقية (أم عبود)، الموظفة فى الجامعة الأردنية، أن «الناس أصبحت غنية وعندها دش وإنترنت، وكثيرون منهم يخرجون من المخيم، ليشتروا شققاً فاخرة فى عمان، لكنهم لا ينسون أبدا المخيم».
وتحدثت رقية، التى عانت فى بداية عملها من تذمر زملائها الأردنيين لكونها مشرفة عليهم قبل أن تثبت «جدارتها» عن «شطارة» الفلسطينيين، وقاطعها وائل بحماسة أكبر: «المخيم كمان عم يطلع رجال أعمال، مثل محمد عقل، النائب البرلمانى»، وقال بابتسامة لا تخلو من مغزى: «أعمدة الاقتصاد فلسطينيون»، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر عبدالحميد شومان، مؤسس البنك العربى.
سعادتهما بالإنجازات التى نجح الفلسطينى «عن جدارة» فى تحقيقها فى الأردن، ذكرتنى بتأكيدات العاهل الأردنى الملك عبدالله الثانى، المتكررة والرافضة، ل»التوطين». ازدحم رأسى بالأسئلة، وباغتُّهما: «وماذا عن العودة؟»، فسكتت رقية دون تعليق، بينما رد وائل بنبرة أقل حماسة وإن كانت أعمق ألماً: «لو عطونى الكرة الأرضية كلها بمشرقيها ومغربيها، بجبالها وقطبيها لتكون بديلا عن فلسطين فلن أقبل.. لكنه استدرك «لكن مستحيل، عشان هيك نحنا واقعيين، نتعاطى مع الواقع، ونتعايش كالأردنيين».
ومن وائل إلى محمود قابيل صاحب محل كاسيت الذى أكد أن مخيم «البقعة» فى الماضى كانت مشاكله كثيرة، فإذا قامت الانتفاضة فى الأراضى المحتلة، خرج أبناء المخيم فى مظاهرات، ولو اشتعلت الحرب «يخرب»، لذا فقد أطلق عليه «ترمومتر» الشارع الفلسطينى، «للاطلاع على واقع الشتات الفلسطينى بدك تيجى على البقعة»، فهو يجس نبض الفلسطينيين فى جميع أنحاء العالم.
ويرى محمود أن الوضع فى المخيم أفضل من المخيمات الأخرى، وأن نجاح الفلسطينيين وشطارتهم جعلاهم يشعرون بالانتماء «لو سألت أى حد من وين هو، يقول لك من البقعة، نسيوا اللد والرملة والفلوجة»، ورغم إقراره بأن «العنصرية على مستوى الشارع مش موجودة»، أكد أنه «أحياناً تأتى هبات»، فى إشارة إلى التوترات التى تحدث بين الحين والآخر بين الفلسطينيين والأردنيين.
ومثلما فقد وائل الأمل فى العودة للضفة، يعرب محمود، الذى خرج أجداده من أراضى 48 إلى مخيمات الضفة، ثم اضطروا مجددا للرحيل بعد 67 إلى البقعة، عن حزنه لما يجرى فى «الداخل»، ويقول: «الشارع هنا وصل لمرحلة اشمئزاز مما يحدث بين فتح وحماس، أدخلونا مزبلة التاريخ».
قال هذه العبارة بأسىً حقيقى ارتسم على جميع قسمات وجهه الذى دفنه فى دفتر استعاره منى ليرسم عليه خطا زمنيا لأحداث فلسطين، فسألته بصوت خفيض: وماذا عن حلم العودة؟ فرفع رأسه ببطء ورد بابتسامة حزينة لم تفارق عينه التى ثبتها فى، وهى تلمع «بِيْضَلُّه حُلُم»، ثم انفعلت ملامحه قليلا وهو يقول: «يتحدثون عن عودة أو تعويض.. تعويض عن إيه؟.. أنا يا أرجع الفلوجة، يا بلا.. بديش أرجع مخيم فى فلسطين.. ما أنا هون فى مخيم».
«فتيات 48» يهربن من «التمييز» الإسرائيلى إلى الجامعات الأردنية
المجتمع الفلسطينى فى الأراضى الأردنية لا يقتصر على لاجئى المخيمات أو فلسطينيى الجذور من حاملى الجنسية، إنما يصادفك عدد لا بأس به من طلبة فلسطينيين من عرب 48 (عرب إسرائيل)، الذين مكنتهم اتفاقية سلام «وادى عربة» عام 1994، من «اللجوء» بدورهم إلى الجامعات الأردنية ليتلقوا فيها تعليمهم، هرباً من «التمييز» الذى تمارسه الحكومة الإسرائيلية فى حقهم، بوضعها العراقيل التى تحول دون التحاقهم بالجامعات العبرية.
فى المدينة السكنية التابعة للجامعة الأردنية، وداخل أحد البيوت الفندقية المقامة خصيصاً لاستقبال المغتربين والمغتربات من طلبة الجامعة، التقت روزالين شاهين، وريهام علوش، وكلتاهما من عرب 48، فجمعتهما، إلى جانب زمالتهما فى كلية الطب، صداقة حميمة، تجعلهما أحياناً - إذا ما كانتا وسط أصدقاء عرب - تفضلان التواصل بالعبرية لتبادل القفشات أو الأسرار.
بدأت محاولة التعارف بسؤال روزالين عن الوسيلة التى تمر بها من الأراضى المحتلة، فردت ببراءة شديدة إنها تأتى برا عبر الضفة الغربية، «من خلال معبر... شو اسمه.. رفح؟!»، لم أرد بدافع الفضول لمعرفة نتيجة تفكيرها العميق، الذى انتهى بعد كثير من التشويش وهى تكرر سؤالها بشكل معكوس «هو معبر جسر اللنبى هو اللى ع مصر؟!! مش هيك؟»
كان لابد من الحديث هنا عن المناهج التى يتلقونها فى إسرائيل، وما إذا كانت تتضمن تاريخ وجغرافيا الأراضى المحتلة، فقالت روز: «كانوا بيعلمونا فى المدرسة عن الفلسطينيين والهولوكوست، لكن المناهج بالأخير كانت تضعها وزارة المعارف الإسرائيلية، صحيح أن المدرس كان عربياً، وكان أحياناً يبدو مقتنعا بما يحكى، وأحيانا لا، لكن كان لا يُسمح له بالتعليق إلا بما هو مسموح»، وبينما أكدت أنها قرأت ذات مرة فى كتب المدرسة عن أحداث «أيلول الأسود»، ضحكت مستدركة: «بس خلاص كله نسيته».
هنا قاطعتها ريهام قائلة: «عندنا كان فيه شباب فى الفصل يجادلون مع المدرس»، موضحة أن هؤلاء الشباب كانوا قلة، وكان باقى الطلبة من عرب 48 ينظرون لهم باعتبارهم «مثقفين وواخدينها جد»، بمعنى إنهم «غاويين وجع دماغ»، وأضافت «بعضهم كان يصر على إنه يعرّف نفسه فى الفصل قائلاً أنا عربى – مسلم – فلسطينى ساكن فى إسرائيل»، مشيرة إلى أن الغالبية كانوا يريحون أنفسهم ويستسهلون القول «أنا إسرائيلى».
وبسؤالهما عن اختيارهما الدراسة فى الأردن، بادرت روزالين بالقول إن كلتيهما مستفيد من «منحة» يقدمها العاهل الأردنى الملك عبدالله، بموجب اتفاق بين الجامعات الأردنية والإسرائيلية، تم عبر أعضاء الكنيست العرب، لذا فإن ريهام بدورها رأت أن عرب 48 استفادوا من التطبيع مع الأردن: «عشان نتعلم.. فرصنا هون أحسن من الجامعات الإسرائيلية».
ثم بدت ريهام وكأنها تتذكر موقفاً أضحكها، فقالت «الشباب هون دمهم خفيف.. مرات يحبوا يعاكسونا بالعبرى فى الجامعة.. بتذكر مرة شاب أردنى حاول معاكستنا فقال بالخطأ بصيغة المذكر (آت يافيه دودا)»، موضحة لى أن معناها «إنتَ يا حلو»، فى حين أن العبارة الصحيحة فى صيغة المؤنث هى (آت يافا دودا).
شاركتها روزالين الضحك لكنها كانت أكثر جدية فعادت لتقول إنه «رغم التمييز الذى يمارس ضدنا، فإن حالنا أحسن بكثير من فلسطينيى الضفة وغزة والشتات.. أبسط شى مثلاً الاختيار عندنا من سن 67 المعاش».
هنا بدا أن الملل بدأ يتسرب إلى ريهام، فغيرت دفة الحديث قائلة: «تعرفى إن عندنا فى منطقة المثلث فيه شباب مسلم يتزوج يهوديات ويجعلهم مسلمات، لكن فى مدن مثل حيفا وعكا، العرب بقوا مثل الغرب، يعيشوا سوا، وينجبوا دون زواج».
قالتها بابتسامة غامضة وهى تهم بالرحيل فجأة مشيرة لصديقتها بأن تلحقها، فتبادلنا تحية وداع، وقالت بالعبرية بصوت عال «بالى ليشون»، فاستوقفتها للسؤال عما قالت، لتجيب بضحكة أعلى وهى تصعد السلم «يعنى جاى ع بالى أنام!».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.