تراكمت أمامى صور سياسية عديدة تجاهد لتأخذ مكانها عبثاً فى صدارة المشهد، فقد طغت على العيون سحابة أنفلونزا الخنازير، وتراجعت كل الموضوعات فى العالم مؤقتاً. المعنى الرئيسى لهذا بديهى، إنها غريزة حب البقاء سيطرت على البشرية فأنست كثيراً من الناس الصراعات الاجتماعية والدولية، وأحيت لديهم حافز الصراع ضد الطبيعة وقواها الغاشمة، الممثلة هذه المرة فى الفيروسات أو الكائنات متناهية الصغر، ذات القدرات العملاقة على الغزو وتدمير أجساد البشر. دعونا نبدأ فى قمة العالم حيث يجلس الرئيس الأمريكى أوباما الطيب الذى استقبلته الكرة الأرضية بالتفاؤل والترحاب، فقد شاع قلق أن يكون هذا الرئيس قد أصيب بالفيروس القاتل، حيث كان الرجل قد زار المكسيك قبل وقت قصير. ما هذه الدراما السوداء؟ هل استطاعت قوى الشر والجشع والحقد والعنصرية أن ترسل طاقاتها الخبيثة إلى الطبيعة فتنتج هذا السلاح الذى يمكنه التسلل إلى البيت الأبيض وإلى ما تحت السترة الواقية من الرصاص، ليبدد حلم انتصار الإنسان على العنصرية وحلم سيادة التعقل على المغامرة فى السياسة الدولية وحلم إنصاف القضية الأكثر تجسيداً للظلم القومى فى العالم، وهى القضية الفلسطينية؟ تأملوا هذه الدراما، خاصة إذا علمتم أن حراسات الرئيس أوباما تبلغ ثلاثة أضعاف الرؤساء السابقين بسبب الخوف على حياته من العنصريين والمتهوسين الرافضين أن يحكم أمريكا رجل أسمر اللون. لقد وزعت وكالات الأنباء -بعد النفى الذى صدر عن البيت الأبيض حول احتمال إصابة الرئيس بالمرض- خبراً يشير إلى أن هناك خشية من أن يكون الفيروس قد وصل إلى واشنطن، بعدما تأكدت إصابة عضو فى الوفد الذى رافق الرئيس أوباما إلى المكسيك، وشارك فى عشاء مع الرئيس الأمريكى فى مكسيكو. إذن لقد نجحت الطبيعة فى الوصول إلى مشارف بدلة الرجل المحاط بأعظم حماية فى العالم وقطف الفيروس حياة أحد المقربين منه. ألم يقل لنا المولى عز وجل إن الموت سيدركنا ولو كنا فى بروج مشيدة؟ وألم يقل لنا إن الإنسان إذا دنا أجله فإنه سيبرز أى يخرج جبرياً إلى المكان المحدد أن تقبض فيه روحه؟ إن للدراما البشرية زوايا عديدة لا يمكن إغفال الإضاءة الدينية لها. لمحة درامية أخرى فى قمة العالم واشنطن. لقد أراد نائب الرئيس الأمريكى بايدن أن يحمى الناس من الفيروس القاتل فأصابهم بالذعر مما اضطر السلطات للتدخل لتخفيف تصريحاته وآثارها. فلقد نصح بايدن مواطنيه بتجنب ركوب الطائرات وقطارات الأنفاق، فدب الذعر فى كل مكان إلى أن سارع مدير المراكز الأمريكية للمراقبة والوقاية من الأمراض ريتشارد بيسر إلى الإعلان عن أن السفر بالطائرة أو المترو لا يشكل خطراً. من المؤكد أن نائب الرئيس لم يطلق تصريحه اعتماداً على خبرته الشخصية، ولابد أن يكون قد حضر اجتماعاً استمع فيه إلى خبراء الوقاية، ولابد أنهم أشاروا إلى دور الأماكن المغلقة فى انتشار الفيروس، وبالتالى أطلق نصيحته. وهذا جانب آخر فى دراما البشر، فالناس لا تريد الاستماع إلى نصائح تعطل مصالحها، وهو ما اضطر السلطات إلى نفى الأمر على الأقل فى المرحلة التالية. هذا الجانب الخاص بالحرص على المصلحة الخاصة إلى حد المخاطرة رأيناه فى الصراع حول مزارع الخنازير المصرية حيث أصحاب المزارع وعمالها يرون فيها مصدر ثرائهم وأرزاقهم، وبالتالى فقد دافعوا عن بقائها إلى أن تمكن المقاتل المصرى الجميل عمرو أديب من أن يرسل كاميراته لتكون الأولى التى تصور أوكار الفيروسات والميكروبات فى قلب القاهرة، والمسماة حظائر الخنازير. وكم أدهشتنى محاولة بعض الكتاب الدفاع عن هذه الأوكار التى تهدد الصحة العامة باعتبارها مفاعلاً لإنتاج كل الأمراض فى هواء القاهرة والمحافظات. بل وأدهشنى أن إحدى الكاتبات شككت فى دوافع قداسة البابا شنودة عندما نصح بعدم أكل لحوم الخنازير، وقال إنها تسبب الأمراض فى تصريحات نشرتها «المصرى اليوم». قالت الكاتبة إن أقوال البابا تأتى من باب المجاملة للحكومة والمسلمين. إنه جانب آخر من دراما البشر للمشاكسة والمعاكسة وتطبيق المثل القائل «خالف تعرف»، جانب آخر من الدراما تجسده منظمة الصحة العالمية، فقد أطلقت اسم أنفلونزا الخنازير على الفيروس (سواين فلو) وذاع الاسم فى العالم وراح الناس يتعاملون به وراحت شبكات الفضائيات تذيع صور الخنازير مع الأخبار المتصلة بالمرض. وفجأة وبعد أن قررت مصر التخلص من الخنازير بالذبح أعلن أحد مسؤولى المنظمة العالمية أن الخنازير لا تصاب بالفيروس وهو ما أعطى بعض الأقلام والأصوات فى العالم فرصة للتجاسر وانتقاد قرار مصر بالتخلص من الخنازير.. ترى هل تصل الدراما إلى ذروتها ونكتشف أننا أمام عملية نصب دولية لإشاعة الذعر وتنشيط صناعة الأمصال والأدوية وتحقيق مليارات الدولارات لهذه الصناعة باستخدام اسم الخنازير. هنا أتساءل: هل يمكن أن يصدق الحس الشعبى الذى عبرت عنه المساعدة المنزلية «أم أيمن» فى بيت صديقى الجنرال سعد المصرى. لقد وجهت أم أيمن انتقاداً لربة البيت لأنها أقلعت عن شراء الدواجن الحية وأصبحت تعتمد على الدجاج المجمد بعد التحذيرات من أنفلونزا الطيور، وأكدت لها بمناسبة أنفلونزا الخنازير أن كل هذا الكلام أكاذيب بدليل أن الطيور الحية مازالت تباع فى الأسواق والناس تشتريها وتأكلها دون أى ضرر، وختمت أم أيمن بيانها بقول يصلح عنواناً لمسرحية هزلية قائلة لرب البيت «تعمل إيه فينا الخنازير ده إحنا اللى أكلنا العدس بالأوشعاع»، فى إشارة إلى العدس التركى الذى قيل إنه مصاب بالإشعاعات ودخل إلى مصر. لمحة إقليمية فى الدراما. أتصور أن أسعد مخلوق على وجه الأرض بسحابة الخنازير الدولية هو رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو الذى سيزور واشنطن فى الثامن عشر من الشهر الحالى. لقد سحبت أنظار العالم التى كانت مركزة على سياساته اليمينية المتطرفة إلى موضوع آخر. ورغم أن الطواقم الفنية فى البيت الأبيض والخارجية الأمريكية من ناحية، ووزارات الخارجية العربية من ناحية أخرى، لن تغفل عن الموضوع، فإن انشغال الرأى العام ووسائل الإعلام يخفف الضغوط عليه فى سياساته لهدم منازل الفلسطينيين فى القدس وتهويدها وفى اختراع صيغ السلام الاقتصادى للتهرب من السلام السياسى وابتداع ألاعيب ومناورات للهروب من إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. لا يمكن أن نستبعد أن تكون الأجهزة الإسرائيلية مشغولة حالياً بكيفية تضخيم المخاوف فى الشرق الأوسط من انتشار الفيروس حتى تطالب الشعوب حكوماتها بالتعاون مع السلطات الصحية الإسرائيلية لمنع انتشاره، خاصة بعد الإعلان عن وجود إصابتين فى إسرائيل.. إنها دراما متعددة الأبعاد جديرة بالمتابعة.