«أنت تعيش فى مجتمع طائفى بامتياز».. تلك حقيقة لم تعد تحتاج برهاناً، والواقع أمامك هو اليقين ذاته. دعك من العبارات الإنشائية حول الوحدة الوطنية والتسامح الأفلاطونى، وتلك الصور التى يُقبّل فيها البابا شيخ الأزهر، والمشاهد التليفزيونية الساذجة التى تحرص بإصرار على تصدير صورة التسامح بشكل يظهر «بطحة» الاحتقان. أنت محتقن فى داخلك.. ترفض الآخر، وتتحين الفرص لإيذائه، وتتصيد الأخطاء للإيقاع به، حتى لو بدت ابتسامتك أكثر اتساعاً، وخطابك المعلن أكثر تسامحاً، وعيناك تغرورقان بالدموع من فرط طيبتك الظاهرة، ومحبتك المثالية. أنت منافق إذن.. تُظهر فى العلن ما تُبطن عكسه فى مجالسك الخاصة، حديثك فى المقهى غير حديثك فى المسجد.. ورأيك الذى تعلنه فى النادى غير رأيك الذى تعلنه بين جدران الكنيسة، ما تكتبه فى الصحف وتقوله لوسائل الإعلام غير ما تقوله وتفعله فى قدّاسك أو فى صلاة الجمعة. لست وحدك الطائفى والمحتقن والمنافق.. فقد رزقت بنظام مثلك وحكومة على شاكلتك، ودولة تقول ما لا تفعل.. تأمر الناس بالمعروف وتنسى نفسها.. تنكر مصيبتها وتحاول أن «تخفى عارها، فإذا ببطنها المنتفخ بالعار يفضحها».. تتحسس بطحتها عند كل حركة وعند كل قرار، تفتش عن ظواهر الأشياء ولا تقترب من جذور المشكلات.. تصبُّ الماء على النار فتطفئها تاركة الجمر مشتعلاً تحت الرماد. ترانى غارقاً فى تشاؤم لا يستحق تهويلاً كذلك.. وأراك غارقاً فى تفاؤل يتجاهل النار أسفل أرجلنا.. تشعر بوهجها وتتقافز فى مكانك من لسعاتها.. وإلا فما تفسيرك لتحول قضية صحية عالمية مثل «أنفلونزا الخنازير» إلى مسألة طائفية شديدة المحلية؟ هل عندك تفسير لهذا الكمّ من الشماتة والتربص والتشكيك الذى فجرته الأزمة؟ لماذا تفتش وزارة الزراعة عن الأطباء البيطريين الأقباط بين صفوفها تحديداً لزرعهم أمام المجازر والمزارع للإشراف على عملية الذبح ؟ أليس هذا تفكيراً طائفياً يسيطر على الدولة؟ لا تقل لى إنه مراعاة لمشاعر وعقائد الأقباط، إلى غير ذلك من الكلام الذى تردده دون اقتناع.. الدولة غارقة فى الطائفية، لذلك لم تستطع وزارة الزراعة أن تتصرف كمؤسسة مدنية قومية وترسل أطباءها إلى مواقع العمل دون النظر فى هوياتهم الدينية، ودون تفتيش عن الصلبان فى معاصمهم. لا تقل لى أيضاً إن حملة «الشماتة» التى تراها على المنابر، تتحدث عن عظمة الإسلام الذى حذر من الخنازير، وعن آيات الله التى تنتصر لعباده المسلمين لا تعبر عن طائفية واضحة وبغيضة، خاصة تلك الأصوات التى حفزت من البدء على إعدام الخنازير، وتحدثت باستخفاف عن آلاف أو عشرات الآلاف الذين يستفيدون من الخنازير، وترديد عبارات فى ظاهرها الرحمة وفى باطنها العذاب على شاكلة: «مش المهم نضحى بمليون واحد.. لحماية 80 مليون».. فلم يكن ذلك هو رأى هذه الأصوات عند تفشى «أنفلونزا الطيور»، حتى إن هذا الفيروس الذى يصيب الطيور، رغم وضوح وتأكيد وجوده فى مصر والإعلان رسمياً عن وفاة 24 شخصاً به غير عشرات المصابين، مازال هناك مَنْ يشكك فيه ويعتبره مؤامرة على صناعة الدواجن.. ومن نفس تلك الأصوات التى طالبت من اللحظة الأولى بإعدام الخنازير وتشريد المتعيشين منها، متحفزون بشماتة طائفية أكثر من مجرد قلق صحى عام. الغريب أن هناك من حولك مَنْ يصدق أن «أنفلونزا الخنازير» جاءت كعقاب من الله للمسيحيين، وانتصار للإسلام، وكأن الإسلام هو الدين الوحيد الذى يحرّم لحم الخنزير، وهؤلاء لا يقولون لمن كان يوجه العقاب فى «أنفلونزا الطيور»: وإلى أى دين انتصر هذا الفيروس المنتشر فى مصر؟ وإلى أى دين انتصر «جنون البقر»؟ إذا كنت لا ترى أن إقحام نفسك فى إبداء آراء شخصية وتغول نقدى فى عقائد الآخرين تخطٍ لخط أحمر، لا علاقة له بحرية الرأى ولا غيرها، فأنت تمهد لكارثة حين تصبح العقائد فريسة أمام النقد والمقارنات والتعليقات المستخدمة سياسياً ومن غير أصحابها. انظر كذلك إلى الحملة التى يشنها أقباط المهجر على الدولة وادعاءاتهم باستهداف المسيحيين من وراء هذه الأزمة لإضعافهم وإفقارهم وتجويعهم، وغير ذلك من أحاديث الاضطهاد والتنكيل التى يروجون لها، لتعرف أن هذا الاحتقان السائد عملية ذات طرفين، كلاهما يمسك إحدى ذراعى الوطن، ويشد فى اتجاه معاكس للآخر.. والنتيجة متوقعة. لا «أنفلونزا الخنازير» جاءت انتصاراً من عند الله للمسلمين فى مواجهة المسيحيين، ولا الحكومة تذبح الخنازير نكاية فى الأقباط واضطهاداً لهم.. الحكاية وما فيها تطرف وتعصب أعمى.. جانبان كلاهما يستخدم الكارثة فى خدمة خطابه الطائفى، وبين الاثنين دولة «مبطوحة» لا تمارس دورها كما يجب، وفشلت فى إقناع رعيتها بمدنيتها وتجردها من الأهواء الطائفية، كما تفشل عادة فى إجراء أى حوار حقيقى مع شعبها.. وتتخبط بين ردود الفعل دون إنجاز.. فلا هى نجحت فى القضاء على أنفلونزا الطيور، ولا هى حافظت على صناعة الدواجن، والأمر كذلك سيحدث مع «الخنازير».. ببساطة هى حكومة أقرب للفشل، وهذه المرة فشلها بطعم الفتنة. [email protected]