بعد مرور 39 عاماً على رحيل جمال عبدالناصر، الرجل الذى لم يعش فى السلطة أكثر من 18 عاماً فقط، منذ قيادته للثورة فى 23 يوليو عام 1952 وحتى رحيله فى 28 سبتمبر عام 1970 نستطيع أن نقول إن التاريخ المصرى وربما التاريخ العربى كله لم يشهد ولم يعرف حملة تشويه وإساءة متعمدة ومدبرة على النحو الذى تعرض له جمال عبدالناصر، الشخص والزعيم والدور والمشروع، لكننا نستطيع أن نقول أيضاً إن هذا التاريخ لم يشهد مثل هذا الصمود وهذا الحضور الأسطورى لزعامة جمال عبدالناصر ومشروعه على مدى الأعوام الطويلة التى شهدت رحيله. البعض يتصور، أو كان يتصور، أن الرحيل سيكون نهاية عهد جمال عبدالناصر، وربما يرجح هذا التصور أن الرجل ربما يكون قد تعرض لجريمة قتل كى يرحل عنوة، ويترك الساحة خالية لمن يريدون وراثتها، ولكن سواء كان الرحيل طبيعياً أم اغتيالاً، فإن ما تعرض له جمال عبدالناصر الزعيم والمشروع والدور من تشويه فاق كل أنواع الاغتيال التقليدية، لكن الصدمة الكبرى أن ما كان متصوراً أن يتحقق من الرحيل وهو الغياب حدث نقيضه تماماً وهو الحضور، والحضور المكثف وبالذات فى فترات الأزمات الكبرى.. فقد اعتاد الناس أن يتساءلوا فى ذروة الأزمات، خاصة الأزمات التى كان يقف فيها الوطن عاجزاً وضعيفاً ومتردداً، أو كانت تقف فيه كل الأمة مشلولة عن الفعل: ماذا لو كان جمال عبدالناصر موجوداً؟! ونظراً لأن الوطن (مصر) والأمة (العروبة) أضحت أزماتهما تشغل معظم أيامهما فإن افتقاد جمال عبدالناصر تحول إلى حالة، وأصبح حضوره فى عقول وقلوب الناس متصلاً بقدر افتقادهم له. هنا بالتحديد تتكشف حقائق أسطورة جمال عبدالناصر وهى أن الناس اعتادت وجوده معهم بمعنى وجود الفعل ربما لأنه «رفع معنوياتهم وحولهم إلى أمة مقاتلة» على نحو ما ذكر ديفيد بن جوريون مؤسس الكيان الصهيونى وزعيمه.. ففى معرض تبريره لقرار العدوان الإسرائيلى على مصر عام 1956 قال بن جوريون أمام الكنيست (البرلمان): كنت أخشى دائماً قيام شخصية كتلك التى قامت من بين الحكام العرب فى القرن السابع، أو مثل كمال أتاتورك الذى قام فى تركيا بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى، فقد رفع معنوياتها وحوّلهم إلى أمة مقاتلة، لقد كان لايزال هناك خطر أن يكون ناصر هو هذا الرجل! لقد شهد العالم عبر تاريخه الطويل شعوباً راكدة عاجزة عن الفعل بقدر عجزها عن الحلم تأكل كما تأكل الأنعام، كما شهد شعوباً حية ناهضة تمتلك القدرة على الفعل كما تمتلك القدرة على الحلم.. وبقدر ما استطاعت أن تمتلكه تلك الشعوب من قدرة. محمد السعيد إدريس رئيس وحدة دراسات الثورة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية