مكاسب فاروق حسنى من انتخابات اليونسكو أكثر من خسائره.. فقد كسب احترام من صوتوا ضده هناك، وكسب احترام من عارضوا ترشيحه هنا. وقد تابع المصريون جولات التصويت الخمس باهتمام لم أكن أتوقعه، وأدركوا أن فاروق حسنى قد تمكن من خوض معركة مشرفة بكل المقاييس، ورغم أن النتيجة لم تحسم لصالحه، فقد فهم الجميع من خلال المتابعة أن الخسارة لم تكن لتقصير منه أو لعدم اقتناع دول العالم به، ولكنها كانت بسبب تكتلات قادتها إسرائيل وشاركت فيها الولاياتالمتحدة ودول أوروبية أخرى.. وفى هذا الأمر إدانة للمجتمع الغربى الذى يعجبنا منه تحضره، وتصدمنا فيه عنصريته. وأنا أعرف شخصيات كثيرة تختلف مع فاروق حسنى لأسباب شخصية أو منهجية، ولم تستطع أن تفصل بين خلافاتها معه كوزير ثقافة، وكونه مرشحا لمنصب دولى رفيع، وبعضهم كان يتخوف من شبح صفر المونديال، وكاد هؤلاء يجزمون بأن الأفضل لمصر ولفاروق حسنى أن ينسحب.. وقد استمر الحال هكذا حتى بدأ التصويت، وفور أن حصل على 22 صوتا فى أول جولة بفارق كبير جدا عن أقرب منافس، بدأ التعاطف والالتفاف حوله، وأصبحت متابعة جولات التصويت التالية محل اهتمام الجميع، وفرح الكل بارتفاع أصواته إلى 23 فى الجولة الثانية، ثم 25 فى الجولة الثالثة، حتى انسحب المرشحون الأقل حظا وعلى رأسهم المرشحة النمساوية بينيتا فريرو، وذهبت أصوات مؤيديهم لصالح المرشحة البلغارية إيرينا بوكوفا التى تبقت فقط أمام فاروق حسنى، ورغم ذلك تعادلا وحصل كل منهما على 29 صوتا.. وزادت المعركة إثارة حينما أصبحت هناك جولة خامسة فاصلة وحاسمة، والتى شعر فيها جميع المصريين بحزن شديد، فقد تمكنت الضغوط السياسية من خطف صوتين من فاروق حسنى لصالح المرشحة البلغارية التى لم تكن قد حصلت إلا على 7 أصوات فقط فى الجولة الأولى.. وكان مرد الحزن إلى قناعة تامة بأحقيته بالفوز عن سائر المنافسين.. وقد بادر فاروق حسنى بتهنئة المرشحة البلغارية بعد فوزها، فهكذا تقضى قواعد اللعبة الديمقراطية، ولكن علينا أن نستفيد من دروس أربعة لتلك المعركة من وجهة نظرى. أولا : أن هناك تطرف وتعصب واضح لدى دول غربية ضد العرب والمسلمين تجلى بشكل واضح خلال المعركة، وهى ظاهرة تستدعى أن نتوقف عندها بنفس القدر الذى نتوقف به عند موجات التطرف الداخلية التى تعانى منها مجتمعاتنا.. فلا يمكن أن نتهم أنفسنا فقط بأننا سبب الجفوة بين الإسلام والغرب دون الالتفات لنزعات التطرف الغربية التى ربما تفوق نزعات المتطرفين لدينا.. وهذه نقطة يجب أن نركز عليها فى الحوار بين الإسلام والغرب.. فإذا أردنا حوارا مثمرا بين الحضارات، يجب أن يواجه كل طرف الآخر بعيوبه، ويجب أن يكون لكل طرف التزاماته وواجباته وحقوقه، فلا مبرر لحوار يسعى طرف فيه للاقتراب من آخر لايريد نفس الاقتراب.. وظنى أن هناك قوى غربية لديها الاستعداد والتأثير على مراكز صناعة القرار. ثانيا: أن معاهدة السلام التى تربطنا بإسرائيل لم تمنعها من لعب أدوار قذرة ضدنا فى كل المناسبات، وآخرها معركة اليونسكو، فقد وقفت إسرائيل ضد المرشح المصرى علنا فى بادئ الأمر، وطبعت كتيبات ضده وزعتها على السفارات الأجنبية فى معظم دول العالم، وتمكنت من شحن قوى كبرى على رأسها الولاياتالمتحدة ضده.. وبعد أن وعد رئيس الوزراء الإسرائيلى بعدم تشويه صورة المرشح المصرى، لم تف إسرائيل بعهدها كعادتها، واستمرت فى حربها ضد المرشح المصرى، كما تحولت لأسلوب الابتزاز عن طريق الترويج لفكرة أن مصر تسىء للآثار اليهودية الموجودة لديها.. وهنا يجب التأكيد على أن التعامل مع إسرائيل لايجب أن يخلو من حذر شديد، ويجب أن يكون مشروطا ووفق أسس نضعها نحن، ولاتفرضها هى علينا.. فالتطبيع مثلا أمر مرفوض جملة وتفصيلا عند الغالبية العظمى من المثقفين المصريين قبل العرب، ولا يجب أن تخطو الدولة المصرية أى خطوة فى هذا الاتجاه تحت زعم أن ذلك سيساهم فى تخفيف حدة التوتر فى المنطقة أو يساعد فى حل الأزمات مع الفلسطينيين.. فهذا وهم كبير، وقد قامت إسرائيل على الغصب والاحتلال، ويقوم أمنها على البغى والابتزاز والعدوان والألاعيب القذرة.. وهى مبادئ ثابتة لديها. ثالثا: أن الديمقراطية لها مذاق مميز حتى لو حدثت خسائر.. ورغم أن منصب مدير عام اليونسكو كان بعيدا عن اهتمام الشارع المصرى، إلا أن متابعة المصريين لعملية التصويت أولا بأول، وفهمهم لطبيعة الصراع ونسب التصويت، وإلمامهم بتفاصيل المعركة وأسماء المرشحين، وتوقعاتهم بأن شيئا ما يدبر فى الخفاء، ينفى تماما أى ادعاء بأن الشعب المصرى غير ناضج ديمقراطيا، وأنه غير مؤهل للعملية الديمقراطية.. فمن عجب أن الانتخابات السياسية المصرية لاتحظى بأى نسبة من الاهتمام الذى أحاط بالعملية الانتخابية فى اليونسكو من جانب المصريين.. وهذا الاهتمام ليس لأن المرشح الأفضل كان مصريا، ولكن لأن مواطنا مصريا دخل عملية انتخابية حرة أمام العالم كله، وخاضها ببراعة.. ومن السهل جدا أن يهتم المواطن المصرى بالانتخابات البرلمانية القادمة مثلا إذا شعر بأنها نزيهة خالية من التزوير. وأخيرا: أن كثيرين ممن عارضوا ترشيح فاروق حسنى كانوا يتخوفون من صفر مونديال جديد.. ولكن كان هناك فارق كبير بين مستوى الإعداد والتخطيط والإدارة للعملية التى خاضها فاروق حسنى فى اليونسكو، وتلك التى خاضها المسؤولون عن نكسة صفر المونديال منذ سنوات.. فالدخول للمحافل الدولية له آلياته وأصوله، ولايمكن أبدا أن تخوض مع دول العالم فى انتخابات أو مسابقات بالتدليس وبأسلوب الثلاث ورقات.. فحينما تعد العدة وتبذل الجهد، تكون الخسارة بشرف.. والواضح أن فى مصر أشخاصا قادرين على الخوض فى المحافل الدولية ببراعة. عموما لقد كسب فاروق حسنى رغم عدم حصوله على المنصب.. ولكن تبقى الدروس والعبر. [email protected]