فى المقال السابق تحدثنا عن «السباب»، وفى هذا المقال نتحدث عن «المماحكة» التى هى الطابع الأعظم لحديثهم حتى تكاد تكون لحمته وسداه، ونعنى بالمماحكة الفرار من الرد الموضوعى وتجاوز الحقيقة باللجوء إلى الحديث العام، أو إضافة ما لم يقله القائل، أو تجاهل كلام ذكره أو خلق شكوك حول واقعة مؤكدة أو ذكر معلومة خاطئة، اعتمادًا على أنه لن يكون هناك رد وأن عامة القراء لا تعرف الحقيقة عنها. ومن هذه المماحكات ما قاله بعضهم، هل يعرف جمال البنا أحكام الحيض والنفاس وأيمان الطلاق وتوزيع الميراث.. إلخ، فواقع الحال أننا لا نصدر فتاوى ولا نعالج القضايا «الفروعية» فى الفقه، نحن نقدم الإسلام كرسالة تحرير وإنقاذ الإنسان من الظلمات إلى النور وتخليصه من الإصر والأغلال، نحن نقدم الإسلام كأصل لقيم الحرية والعدالة والمساواة والمعرفة، نحن لا نقول كان أسلافنا، ولكن نريد أن نُعْمِل عقولنا، وأن نقدم إضافتنا، نحن لا ننظر بعيون ميتة، ولا نتجه نحو الماضى ولكن نُعْمِل عقولنا وننظر نحو المستقبل، ونرى أن هذا هو الإسلام وأنه قضية «المفكرين» وليس «الموظفين». والمجال الرئيسى للمماحكة هو السُنة، فالسيد سمير الجمل يقول إن جمال البنا «قرآنى وبس»، فهل ذكر جمال البنا له هذا أو كتبه، وعلى أى أساس أقام حضرة الناقد الذى يفترض أنه يعرف أصول النقد حكمه ؟ على الظن والأقوال التى يذيعها خصومه وقد انزلق هو ومجموعة كبيرة من أهل الذكر (الأزهريين) إلى هذا الحكم لأنهم يجهلون أن جمال البنا أصدر سنة 1982 كتابًا كبيرًا بعنوان «الأصلان العظيمان.. الكتاب والسُنة» درس فيه السُنة دراسة مسهبة وخرج بنتائج خرج ببعضها الشيخ الغزالى بعد عشر سنوات من إصدار الكتاب. ومن المماحكات التى يصولون فيها ويجولون ادعاء أن السُنة دونت فى عهد الرسول، ويتمحكون بما يروونه من أن الرسول أذن لعبدالله بن عمرو بن العاص وأنه قال «اكتبوا لأبى شاة» وهو رجل يمنى سمع خطبة لرسول الله فطلب من الرسول كتابتها، فأجابه، وينسون أن هذا فى حد ذاته دليل على أن الأصل عدم الكتابة التى تتطلب استثناءً لا يخل بها لأنه حالة فردية، وقد قتلت هذه القضية بحثاً، وأجرى فيها السيد رشيد رضا دراسة مسهبة وقارن بين الرأيين المتعارضين وقطع بعدم تدوين السُنة فى عهد الرسول، وعندما تأخذهم الوقائع التاريخية عن عدم تدوين أبى بكر أو عمر أو عثمان أو على للسُنة يقولون إن ذلك كان خوف الاشتباه بالقرآن، وعدم التمييز بينهما فهل يقول بهذا عربى، إن أسلوب القرآن لا يشبهه أى أسلوب آخر، وأحاديث الرسول هى كأقوال البشر، وأين أقوال البشر من تنزيل القرآن وإعجازه. ومن وسائل المماحكة والتمويه أن يتحدثوا عن بداءة السُنة وأولوياتها التى لابد أن يعلمها من يقرأ كتابًا واحدًا عن السُنة، ولكنهم يعرضونها كأنها من المضنون به على غير أهله، وهم يدعون أن جمال البنا يجهلها وهو حلس السُنة والذى راجع مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيبانى وأتم شرح الجزأين 23 و24 عندما توفى والده قبل أن يتم هذا الشرح، وقد سمع من فم والده- رحمه الله- أحاديث لم يجدها لدى غيره، بعد هذا يقول أحدهم إن جمال البنا لا يعرف الناسخ والمنسوخ، ويقول آخر إنه لم يلم بقاعدة العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب، وهم يماحكون، لأن لجمال البنا كتابًا عن «تفنيد دعوى النسخ فى القرآن» بيّن فيه أن الآية «مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا» (البقرة : 106)، لا يمكن أن تستخدم فى نسخ نص، لأن القرآن لا يستخدم كلمة آية إلا كمعجزة أو قرينة وأورد ثمانين موضعًا جاءت كلها بهذا المعنى، ومع هذا يقولون إنه يجهل الناسخ والمنسوخ. وأدى بهم شنآن العداوة وسطحية الفكر للوقوع فى أخطاء كالتسوية بين السُنة والقرآن، باعتبار أن كليهما وحى، فيقول الشيخ فريد واصل «السُنة القولية» تستقل بالتشريع بنص القرآن فى قوله تعالى «وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»، فهل فات عليه أن الآية فى سورة الأنفال وأن المقصود بها الغنيمة بدليل قوله «فَخُذُوهُ»، إن الإسلام هو أبرز الأديان فى توحيديته، وأن الرسل ليست لهم وظيفة إلا البلاغ أو التبيين، وأن السُنة لم تأت بجديد فى التشريع إلا فى حالات معدودة وعلى أساس من القياس، فضلاً عن القضية المحورية وهى أن القرآن قطعى الثبوت، وأن السُنة ظنية الثبوت، وأن الحديث الصحيح إنما هو صحيح «لغلبة الظن» أنه صحيح وليس لأنه صحيح على وجه اليقين، وهذا ما قاله الشيخ شلتوت الذى كان فلتة بين شيوخ الأزهر، وأن المتواتر الذى يعدونه كالقرآن لا وجود له، وإذا وجد فعن موضوعات هى إلى الخرافة أقرب، مثل المهدى المنتظر أو الدجال أو مثل شق صدر الرسول.. الخ. وأين هم من الفتوى الصادرة من لجنة الفتوى بالأزهر فى 11/2/1990 وأوردها الشيخ محمد الغزالى فى كتابه «تراثنا الفكرى» عن أن السُنة لا تستقل بالتشريع، ومن ذهب إلى هذا لا يُعد منكرًا لما علم من الدين بالضرورة، حيث إن أحاديث الآحاد ظنية والمتواتر محل خلاف شديد. ولكن هذا كله لا ينال منهم لأنهم قد أقاموا فهمهم ووضعهم على أساس أحكام الأسلاف، وتصوروا أن كل من يجهل الناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، ومن لم يحكم اللغة العربية فإنه لا يعرف القرآن، ونحن نقول «إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً»، وكيف يكون العلم بالناسخ والمنسوخ وأسباب النزول مؤهلا لفهم القرآن، وهو افتئات على القرآن، وثمرة قصور فى فهم الأسلاف بحكم عصرهم، فإنهم تصوروا أن القرآن قد نزل لهم، فوجود أحكام متفاوتة عن حالة واحدة أمر لا يفهم، وقد تصوروا أن هذا يتطلب ناسخًا ومنسوخًا، وحقيقة الحال أن القرآن نزل لجميع العصور، وإنه لا يمكن إنزال جميع العصور على حكم مثل حد السيف، وأنه لابد من مرونة، ولابد من تعدد، ولابد من بدائل، وهذا ما قدمه القرآن بحيث يمكن لكل عصر أن يأخذ بما يلائمه، هذا فى الحقيقة هو معنى أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأى واحد يمسك بآية يكون على هدى ولا يرد عليه بأن هناك آية مخالفة ؛ لأن القرآن لا يضرب بعضه بعضًا، ولكن يكمل بعضه بعضًا. عجز الأسلاف عن تصور هذا فأبدعوا النسخ وكل ما أطلقوا عليه علوم القرآن، وهو لا يقدم ولا يؤخر، لأن إعجاز القرآن فى حروفه وآياته وسياقه ونظمه الموسيقى، فلا أحد يمكن أن يزيد عليه أو ينقص منه. وأشهد أنى لم أجد من أساتذة الأزهر وكبار علمائه شخصًا واحدًا لديه التهذيب والذوق والكياسة ما يجعله يعرف أن جمال البنا من ناحية السن مثل أبيه تقريبًا، وأنه من ناحية الأصل يمت إلى عائلة عريقة أسهمت فى خدمة الإسلام، وأنه هو نفسه كتب أكثر من ثلاثين كتابًا إسلاميًا، وأن هذا بدأ من سنة 1946، وهذه عوامل تجعل كل منصف يتقبله ويقدره، وله أن يقول بعد هذا أنا أختلف معك، ولكن جمال بالنسبة لهم الرجل الذى يريد أن يأخذ اللقمة من فمهم، ومن ثم فهو مرفوض ثلاثاً وهو جاهل، وهو دخيل.. إلخ وليس ما يبرر هذا، إلا الجهالة وإلا الحرص «العضوض» على المنصب ومقتضياته من جاه ومال.. إلخ، وجعلنى هذا أستبعد أى أزهرى فى لقاء بالتليفزيون. عندما كتب محمد فريد وجدى الشاب كتابه عن «الإسلام والمدنية»، وكان فى العشرين من عمره احتفى به السيد رشيد رضا، وكتب عنه فى «المنار» بأن هذا الشاب أوتى حكمة الشيوخ، وقد حدث هذا لأن رشيد رضا لم يكن أزهريًا يدافع عن المنصب، ولكن كان داعيًا إلى الله وخادمًا حقيقيًا للإسلام. أقول لمعشر السبابين أنتم تدعون أن البخارى أصح كتاب بعد كتاب الله وأقمتم على حسه تجارة لا تبور، ونحن نقول إن البخارى قد خدر الأمة الإسلامية لألف عام لأنها اعتبرت أن كل حديث فيه صحيح، ورتبت عليه حكمًا، وقد أصدرنا كتابنا «تجريد البخارى ومسلم من الأحاديث التى لا تُلزم» واستبعدنا 630 حديثاً كلها تجافى القرآن وتخالف روح الإسلام، فلماذا لا تكونون لجنة لدراسة هذا الكتاب وتفنيده بدلاً من أن تلجأوا إلى القضاء وتستعينوا بالسلطة أو تهيلوا الدعاوى على جمال البنا ؟ ولعلكم تعلمون أن هناك قضية تلزم شيخ الأزهر ووزير الأوقاف بتنقية السُنة مما دُسّ فيها، وأنه عند نظر القضية قال محامى الأزهر إن الذين يطالبون بتنقية السُنة هم أعداء السُنة، فرده رئيس المحكمة ردًا شديدًا، وطالبه بأن يقوم الأزهر بهذه المهمة، وعندما ماطلوا أوقع عليهم غرامة، وأعتقد أن القضية لازالت أمام القضاء. فلماذا تتهربون، أو تتسترون على هذا الكتاب ؟ ألا يُعد هذا «إجماعًا» سكوتيًا- كما تقولون- عليه، أو هو فرار جماعى منه.. تعالوا إلى حلبة الفكر.. واتركوا حلبة السباب.. فى نهاية المقال أقول إظهارًا للوجه الآخر للصورة إننى أجد تقديرًا قلبيًا حارًا من شخصيات عديدة بارزة فى مجالات الفكر وإن لم يقتعدوا المناصب أو يهيمنوا على فضائيات يرتع فيها معشر السبابين والجوقة التى تتبعهم من هواة التعليقات للادعاء و«التريقة»، إنى أنتهز هذه الفرصة لأشكرهم، وبوجه خاص الأستاذ سليمان جودة، صاحب عمود «خط أحمر»، والدكتور خالد منتصر والأستاذة سحر الجعارة والأستاذ محمد الباز كما أقول إنى استمتعت بالكلمة التى كانت تكتبها القاضية الأديبة د. نهى الزينى فى جريدة الشروق عن المرابطين وكان أجمل ما ضمته صفحتين إسلاميتين فى كل عدد من الجريدة.