فى مكان لا يبعد كثيرا عن معبدى الأقصر والكرنك بمدينة الحضارة الفرعونية، أثمر تعاون أربع جهات حكومية مع مانحين أجانب عن تجربة رائدة، نتيجتها كانت الغابة الشجرية النموذجية فى الأقصر، والتى تمتد على مساحة تصل إلى 100 فدان، مزروعة بالكامل على مياه الصرف الصحى المعالجة. هنا أبدع مهندسو الزراعة والبيئة والإسكان والمجلس الأعلى للأقصر بدعم من المعونة الأمريكية طريقة مثلى للتخلص الآمن من مياه الصرف الصحى فى مشروعات ذات عائد اقتصادى، بدلا من زراعتها بالخضروات والفواكه كما هو الحال فى القاهرة والدلتا. وعلى مدار الساعة يوميا، ينافس العمال الزمن للتوسع فى استصلاح عشرات الأفدنة حول محطة الصرف الصحى بالأقصر مستخدمين أحدث أنظمة الرى، وما سيشق التربة الصحراوية هنا ليست شتلات المانجو والفواكه، أو بذور الجرجير والبقدونس، وإنما أجود أشجار «الكايا» أو الماهوجنى الأفريقية، التى تمتاز بجودة أخشابها، ونباتات الهوهوبا والجيتروفا المستخدمة فى استخراج الوقود الحيوى، إلى جوار نباتات الزينة والورد البلدى المطلوب للأسواق المحلية والخارجية. «المصرى اليوم» زارت الغابة الشجرية بصحبة المهندس الزراعى عوض شفيق، الذى أمضى 15 عاما فى هذا المكان الموحش قبل أن يتحول إلى جنة خضراء، يقول «شفيق» المسؤول عن مشروع الغابة الشجرية الإرشادية، كما توضح اللوحة المثبتة على مدخل المزرعة، إن التجربة أثبتت ملاءمة المناخ والمياه لنمو الأشجار الخشبية فى الأقصر بمعدلات تفوق النسب العادية، خاصة لنباتات الجيتروفا والهوهوبا التى تستخدم فى الصناعات الطبية وإنتاج الوقود الحيوى على نطاق واسع. ويشرح كيف كانت البداية حين قرر جهاز شؤون البيئة بالتعاون مع جهات تنفيذية أخرى إقامة هذه المزرعة البحثية التجريبية لاختبار مدى ملاءمة البيئة المصرية لهذه الزراعات، ومع نجاح التجربة بدأ التوسع فيها فى محافظات الظهير الصحراوى الأخرى. ويقول: «أنشأ جهاز شؤون البيئة النواة الأولى للمزرعة، وكانت 10 أفدنة مزروعة بالكازورينا والكايا والماهوجنى الإفريقى، ثم تسلمت الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحى بواسطة فرعها فى الأقصر المشروع من وزارة البيئة، وعملت على زيادة المساحة المزروعة، حتى وصلت إلى 100 فدان من الجيتروفا، ومثلها من الماهوجنى والتوت والكافور، وتم بيع غابة الكافور بالكامل، بعد أن وصل عمر أشجارها إلى 5 سنوات. أما باقى الأشجار، كما يضيف شفيق، فإن الاستفادة منها بشكل تام لم تتحقق بعد، والسبب هو غياب التنسيق وعدم توفر التكنولوجيا اللازمة، وكمثال على ذلك، فإن الجيتروفا تثمر عند عمر 3 سنوات، وبالفعل يتم جنى المحصول فى مزرعة الأقصر، وتوريده إلى مركز البحوث الزراعية، لكن لا أحد يستخدم الزيت المنتج منه، لأننا نفتقد التكنولوجيا الخاصة بذلك». ويتابع: «نحن جهة تنفيذية، ويقتصر دورنا فى الإكثار من شتلات الجيتروفا وغيرها من الأشجار الخشبية لاستخدامها فى غابات شجرية جديدة، ليس أكثر». بهذه الصورة، تحولت مزرعة الأقصر إلى غابة اصطناعية تكسو الصحراء بمساحات خضراء، لكن الاستفادة منها بشكل تجارى تعتبر التحدى الأكبر الذى لم يتحقق حتى الآن. وعن ذلك، تقول الدكتورة مواهب أبوالعزم، رئيس جهاز شؤون البيئة، إن تحقيق الغابات الشجرية لعائد اقتصادى يحتاج إلى قدرات مالية خاصة ومساحات ضخمة، مؤكدة أنه من المهم مشاركة القطاع الخاص، ضمن المشروع القومى للاستخدام الآمن لمياه الصرف الصحى فى الغابات الخشبية ،لأن هذا المشروع أكبر من قدرة صغار المزارعين الذين تقع أراضيهم حول محطات الصرف الصحى، ويبحثون عن الربح اليومى، ولا يمكنهم انتظار الأشجار الخشبية لعشر سنوات حتى تنمو بالقدر الذى يمكنهم من الاستفادة منها بصورة اقتصادية. على أية حال، الحكومة ماضية فى المشروع الذى يستهدف استخدام مياه الصرف الصحى فى الزراعات الخشبية، وهو المشروع الذى تشرف عليه وزارة البيئة، وطبقا لتصريحات الوزير ماجد جورج، فإن جدوى المشروع تكمن فى استخدام هذه المياه، التى تعتبر إضافة جوهرية إلى مصادر المياه بالجمهورية، حيث تصل كميتها إلى 2.4 مليار متر مكعب من الصرف الصحى كل عام يستخدم جزء كبير منها فى زراعات مخالفة أو يتم إهداره دون فائدة. ويوضح الدكتور مصطفى الحكيم، مستشار وزير البيئة للغابات والتشجير، أن هذه الكمية من المياه لم يكن يستفاد منها على الإطلاق، بل كانت تمثل عبئاً كبيرا لما تسببه من تلوث بيئى عند محاولة التخلص منها، سواء بإلقائها فى مياه نهر النيل أو البحار أو الصحارى أو تركها تنفذ إلى باطن الأرض لتلوث مخزون المياه الجوفية وتزيد من ارتفاع مستوى الماء الأرضى، ومع التقدم والفكر العلمى المتطور وزيادة الوعى البيئى أصبح تعظيم الاستفادة من هذه المياه حتمية استراتيجية. ويشير «الحكيم» إلى أن وزارة البيئة فى محاولة منها لتحقيق الاستفادة الآمنة من هذه المياه وضعت خطة لزراعة 440 ألف فدان بجوار محطات الصرف الصحى التى لها ظهير صحراوى فى مدن وعواصم جميع محافظات الجمهورية، وهى المساحة التى يمكنها استيعاب2.4 مليار متر مكعب من مياه الصرف الصحى المعالج، تمثل مشكلة بيئية، وبدلا من إهدار حجم المياه الكبير هذا، يمكن استخدامه اقتصاديا حتى لا يتم صرف هذه المياه على نهر النيل أو زراعة الخضروات عليها، مما يؤدى إلى التلوث البكتريولوجى والفيروسى والكيماوى للمياه بالإضافة إلى تدهور النظم البيئية الخاصة بالثروة السمكية النهرية، موضحا أن البديل الذى يتمثل فى صرف هذه المياه على الصحراء المكشوفة سيؤدى إلى تلوث خزان المياه الجوفية السطحى والعميق. وتابع: كان أفضل الحلول هو استغلال هذه المياه فى إقامة المشروع القويم للاستخدام الآمن لمياه الصرف الصحى المعالجة فى زراعة الغابات الشجرية، وتعويض حجم المساحات الخضراء التى فقدت من زحف الصحراء أو الزحف العمرانى، والمساهمة فى تنقية ملوثات الهواء، مع تحقيق أهداف اقتصادية مباشرة، تتمثل فى عائد بيع الأخشاب والمنتجات الحيوية الناتجة من الغابات الخشبية. وعما تحقق حتى الآن من المشروع القومى العملاق، يقول مصطفى الحكيم إنه حتى نهاية عام 2007 بلغت المساحات التى تم زراعتها من الغابات 15 ألف فدان فى 34 غابة فى 17 محافظة، أغلبها محافظات الصعيد والوادى الجديد وسيناء، بالإضافة على الغابات التى يجرى العمل بها حاليا ومساحتها 17 ألف فدان فى 8 محافظات، من بينها الحزام الأخضر حول القاهرة الكبرى، ويقر الحكيم بأن المساحات هذه تعتبر إنجازا ضئيلا للغاية مقارنة بحجم المساحة المرصودة والمياه التى تكفى لرى 440 ألف فدان لم يتم زراعة سوى 10% فقط منها حتى الآن. الأسئلة التى تتبادر إلى الذهن هنا هى : لماذا بدأت الحكومة فى تنفيذ مشروعها فى محافظات لا تعانى من مشكلة زراعات المحاصيل الزراعية على مياه الصرف الصحى، ولماذا لا تنفذ المشروعات حول محطة زنين وأبورواش والخانكة والجبل الأصفر والصف وغيرها من مناطق القاهرة الكبرى، أو محافظات الدلتا التى تعانى من زراعة الخضروات على مياه المجارى؟ ويجيب «الحكيم»: «بعثنا فى جهاز شؤون البيئة بخطابات للعديد من هذه المحافظات لتوضيح مساحات الظهير الصحراوى التى تصلح لتنفيذ المشروع القومى للاستخدام الآمن لمياه الصرف الصحى فى الزراعات الخشبية، لكنها لم تعط أى إفادة». ليست المحافظات فقط هى من لم يستجب بالصورة المثلى مع المشروع، فقد وضعت وزارة الاستثمار خريطة بمحطات الصرف الصحى التى يمكن زراعة الأشجار الخشبية فى الأراضى المحيطة بها، وأدرجتها فى دليل فرص الاستثمار الخاص بها لعام 2008، لكن أحدا من المستثمرين لم يتقدم لاستغلال هذه المناطق حتى هذه اللحظة.