تشتهر مجلة «ساينتيفيك أمريكان» بأنها أهم المجلات العالمية المتخصصة فى العلوم بفروعها المختلفة، وتتابع الاكتشافات والأفكار الجديدة فى المجالات العلمية، كما تحرص على تقديم عدد سنوى يحمل محورا واحدا وهو العدد الذى ينتظره العالم بشغف، وهذا العام خرج العدد السنوى من نفق الموضوعات العلمية إلى موضوعات أكثر رحابة، وحمل عنوان «البداية» أو بمعنى آخر من أين انطلق كل ما حولنا فى الحياة، بداية من دبابيس الورق وتعبيرات وجه الإنسان مرورا بالشيكولاتة، الحلوى الأكثر شعبية فى العالم وحتى أقراص الدواء التى نستخدمها الآن فى العلاج كأمر مسلم به رغم أنها لم تظهر كعلاج رسمى إلا منذ عام 1960. تبدأ موضوعات العدد بنشأة الكون الذى يعود تبعا لتفسيرات العلماء لنظرية الانفجار الكبير «بيج بانج» الذى وقع منذ 13 بليون سنة وأدى إلى تكون 100 مليون من المجرات داخلها 100 مليار نجم وأقمار وكواكب، وتتداخل فى نظريات العلماء الفلسفة بالطبيعة حيث يقف الجميع دون تفسير لسبب هذا الانفجار وفى النهاية يرجعونه إلى ما يسمى بالطاقة المظلمة. من هذه النقطة يبدأ القسم الثانى من «البداية» وهى الحياة على كوكب الأرض حيث وجد الباحثون وسيلة يمكن من خلالها فهم كيفية تطور الحياة على سطح الأرض من خلال تجميع جزئيات rna الموجودة فى أقدم العناصر الكيميائية على سطح الأرض وذلك لاستنساخ بعض أشكال الحياة ومتابعة تطورها فى المعامل، فكل خلية حية مهما كانت بسيطة فهى مليئة بالجزيئات التى تتحرك فى أشكال مختلفة سواء بالاهتزاز أو الدوران حول الخلية وتدخل هذه الجزيئات فى سلسلة من التفاعلات مع الإنزيمات والبروتين حتى تكون سلسلة من الجينات التى تكون بمثابة خريطة لصفات الكائن الحى. ورغم كل النظريات العلمية فإن علامات الاستفهام لا تتوقف، أما سؤال هل جاء الإنسان كتطور لهذه السلسلة من التفاعلات أم أن للإنسان وضعا خاصا خارج إطار نظريات نشأة الحياة خاصة أنه الكائن الأكثر تطورا وتميزا عن بقية الكائنات بقدرته على التفكير، وعلى مر العصور كانت هذه النقطة تحديدا تثير دهشة العلماء فقد كان التصور الأول أن المخ هو ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات لكن الأبحاث أثبتت وجود هذا العضو فى الكائنات الأخرى. وفى الوقت الذى أصر فيه العالم تشارلز دارون على عدم اختلاف مخ الإنسان عن غيره من الكائنات فإنه لم يفسر أبدا سبب الرقى الإنسانى عن غيره من الكائنات الأخرى وبدأ العلماء فى محاولة للجدال مع دارون وعقد المقارنات بين العقل الإنسانى وعقول الحيوانات منها مثلا أن الحيوانات تفهم ولكنها لا تستوعب سوى الأشياء الملموسة عكس الإنسان القادر على استيعاب الأفكار المطلقة والمفاهيم الروحية، كذلك تمتلك بعض الحيوانات القدرة على العد لكنها لا تستطيع إجراء العمليات الحسابية وهذه العملية تحديدا هى التى مهدت الطريق لواحد من أهم الاختراعات التى أحدثت ثورة فى العالم وهى أجهزة الكمبيوتر. كان الهدف الرئيسى لأجهزة الكمبيوتر هو إجراء العمليات الحسابية، وتاريخيا بدأت الفكرة عقب الثورة الفرنسية حينما وضع نابليون بونابرت نظاما حسابيا لتحصيل الضرائب يمكن أن نطلق عليه الكمبيوتر اليدوى ويعتمد على 80 شخصا يقومون بإدخال الأرقام فى صفوف الجداول الحسابية الضخمة، وفى عام 1832 طور عالم الرياضيات الإنجليزى الفكرة واخترع أول جهاز ميكانيكى لتنظيم إجراء العمليات الحسابية، وحتى منتصف القرن الماضى كان استخدام أجهزة الحاسب الآلى يقتصر على العلماء حتى انتهت الحرب العالمية الثانية وبدأت جهود تطوير هذه الأجهزة الضخمة التى صارت الآن بحجم كف اليد. ترصد المجلة ظهور شبكة الإنترنت التى تعتبر النقلة الحقيقية فى وظيفة أجهزة الكمبيوتر، وترجع فكرة الإنترنت إلى العالم الإنجليزى تيم برنارز الذى وضع مشروعا يهدف لمحاولة تنظيم انتقال المعلومات بين العلماء داخل مركز سيرن للأبحاث النووية فى جنيف واقترح برنارز إنشاء شبكة عنكبوتية عرفت باسم world wide web عام 1989 لربط أجهزة الكمبيوتر داخل المركز ومنذ عام 1993 أصبح بإمكان الجمهور استخدام هذه التكنولوجيا المعروفة باسم الإنترنت. لم يقتصر العدد على بحث بدايات الكون والإنسان وتطورهما بل كان الجزء الأكثر متعة هو بداية ظهور كثير من الأشياء التى نستخدمها كما لو كانت من المسلمات فى حياتنا، ففكرة طهى الطعام لم تظهر إلا بعد أن استطاع الإنسان الأول أن يتحكم فى استخدام النار منذ حوالى 2 مليون سنة، كما أن وظيفة الطهى غيرت التركيب التشريحى للإنسان فمثلا حجم أسنانه أصبح أصغر بعد أن قل استخدامها فى مضغ اللحم النئ وكذلك بدأت استفادة الإنسان من العناصر الغذائية. أما الشيكولاته فلم تكن مجرد حلوى لذيذة لكنها كانت تستخدم عند الشعوب الوثنية مثل شعب المايا فى طقوس التضحية بالبشر لصالح الآلهة، أو كطعام عند بعض الشعوب الأخرى وفى العصور الوسطى كانت الشيكولاته الممزوجة بالماء الساخن أحد المشروبات المنتشرة فى أوروبا حتى فكر العالم الإنجليزى «هانز سلون» فى أن مزج الكاكاو المحلى لاذع الطعم بالشيكولاتة سيعطى طعما أفضل، وسريعا انتشرت وصفة سلون فى أنحاء أوروبا بل إن كل الدراسات التى أجريت على الشيكولاتة الصلبة أشارت إلى أن الأغلبية تفضل الممزوجة باللبن عن مثيلتها السادة. أما بالنسبة لحجر الماس فقد كان يعد أحد الأحجار شديدة الندرة حتى اكتشفه رجال التعدين البريطانيون فى مناجم جنوب أفريقيا عام 1870 واتفقوا على ضرورة التحكم فى هذا الحجر الثمين حتى لا ينخفض سعره وكونوا اتحادا يحمل اسم دو بيرو والذى استمر يضع القواعد الصارمة فى بيع أحجار الماس حتى جاء عام 1932 وبدأ الاتحاد فى تنفيذ حملات ترويجية لهذا الحجر الكريم استخدمت فيها الصحف والمجلات واستعين فيها بنجوم السينما للترويج لفكرة مفادها أن حجر الماس دليل على الحب والارتباط اللانهائى ومن هنا نشأت فكرة خاتم الزواج الذى يحمل فص الحجر الكريم. وقد يحدث فى بعض الأحيان أن يقود التفكير فى اختراع إلى ظهور اختراع آخر كما حدث فى حالة التليفون والفونوغراف فقد اخترع إدوارد ليون سكوت عام 1857 جهازا يمكن بواسطته تسجيل الموسيقى وإعادة سماعها معتمدا على وجود بوق لتجميع الموجات الصوتية ونقشها على مادة سوداء وبالفعل نجح فى تسجيل الصوت لكن دون القدرة على إعادة الاستماع إليه وفى عام 1874 عمل ألكسندر جراهام بيل على تطوير هذا الاختراع لكن التجارب قادته إلى اختراع التليفون عام 1876 ،بعدها بعام واستنادا لاختراع جراهام بيل تمكن توماس أديسون من اختراع الفونوغراف. كل الأشياء الصغيرة والمحيطة بنا نستخدمها كأنها موجودة منذ الأزل ونتعامل معها باعتبارها من مسلمات الحياة رغم أنها قطعت شوطا كبيرا من التطور والمعاناة من الأسلاف حتى وصلت لنا بالصورة التى نراها الآن، وهو ما كشفت عنه مجلة «ساينتيفيك أمريكان» فى عددها السنوى الأخير.