رن جرس الهاتف.. المتصل يبلغ رئيس القناة الفضائية الخاصة أن الرئيس سيهاتفه حالاً، ارتبك رجل الأعمال المقرب من الحزب الحاكم، وباغتته غصة فى الحلق، وغابت قدرته على الكلام، وبعد أن استجمع شتات نفسه، كان الرئيس قد بدأ الحديث، لكن الخوف الجلل واحترامات «الخضة» دفعت الرجل إلى تكرار هستيرى لكلمة «نعم يا فندم.. أيوه يا فندم»، قاطعه الرئيس قائلا «كفاية كده على....»، أوقف هذه الحلقة فوراً، قالها غاضباً فى إشارة الى ضيقه. الضيف «أحد المعارضين للنظام» الذى بدأ فى حديث معارض متطرف بعض الشىء، هذه المكالمة لم تكن الأولى. فالرئيس إن كان قد بدا غاضباً من هذه الحلقة وحلقات أخرى لكنه لم يتحدث بشكل مباشر إلا نادرا، فالرسالة تنتقل عبر المساعدين فى القصر الرئاسى خاصة من خلال كبيرهم ذى النظارة الكبيرة، والحقيقة السابقة ترتبط بها حقيقة أخرى وهى أن الرئيس أثنى على حلقات فى برامج عدة على بعض القنوات الخاصة عندما صادف الحديث هوى لديه، القصة السابقة من واقع خيال كاتب السطور يحكيها للدلالة على سبب كتابة مقاله الذى بين أيديكم، فما أبغيه من كلماتى هو الإشارة إلى ظاهرة لا تخطئها عين فى مصر، فوسائل الإعلام أصبح لها «أنياب» مثل الديمقرطية على الطريقة الساداتية. فالمتابع لما يجرى على ساحة الإعلام يدرك تغول وسائله، وخروج قادة رأى منها يحركون الجماهير ويدغدغون مشاعرهم، ويلعبون على أوتار حاجتهم إلى حل مشاكلهم، فيظهر الإعلامى متجاوزا دوره فى إمتاع الناس، وعرض مشاكلهم، والتماس معها، إلى وظيفة أخرى لا توجد على الإطلاق سوى فى الحالة المصرية وتغيب عن أعرق أكاديميات ومؤسسات الإعلام العريقة، وهى تمثيلهم مع أن هناك برلمانات وأحزاباً ومؤسسات مدنية مهمتها أن تستوعب هذه الطاقات، هذا هو النموذج فى دول العالم المحترمة. أما فى مصر فكل شىء مختلف، ففى ظل هذا الخلل، الرئيس ونظامه وحكومته يبحثون عن صورتهم فى الإعلام، ولا يبحثون عن أدائهم فى ظل هذه الظاهرة المقلقة، فلا يجتهد المسؤول فى التصدى إلى مشاكل وزارته، فقط يجتهد أن يبحث عن برنامج «توك شو» يمنحه معرفة بالقطاع الذى يديره، فتظهر الاستجابات الفورية فتكتمل الدائرة ويشعر الإعلامى بأنه حقق نصرا مؤزرا، حتى ولو كانت المشكلة بسيطة لا يستفيد منها سوى أشخاص، ومن ثم تدار عجلة العمل فى الدولة بهذه الطريقة، إعلام يسلط الضوء، ومسؤول يضع يده على «الريموت كنترول» ليطلع على مشاكل وزارته، وفى خضم هذه الدائرة تغيب القضايا الكبرى، ويستمر الجميع فى غيهم، الإعلامى يستمر فى تحقيق انتصاراته أمام الملايين، والمسؤول يسعى إليه بمستشاريه لتبييض الصورة، وإظهاره بمظهر المسؤول المتفانى المبدع المنتصر لهموم الناس. ولنا فى قضية مياه المجارى المثال لهذه الظاهرة، فبعد أن تلقف الإعلام ما نشرته «المصرى اليوم» عن الكارثة، بدأت الحكومة فى التحرك لدرجة أن أحد الوزراء أثنى على الصحافة وقال لصحفى إن وكلاء الوزراة ضللوه وحجبوا عنه هذه المشكلة رغم أنها بدأت منذ سنوات. ومع هذا الخلل بسبب غياب المؤسسات والنظام السياسى برمته، ملأ الإعلام الفراغ، وأنتج قادة للرأى منهم الفهلوى والمدعى والمتثاقف والمتذاكى والمنافق والفاسد والأنوى والمتسلق، وحمل هؤلاء معهم تشوهاتهم وتشوهات مجتمعهم، فصارت الصورة هكذا، شخص يؤثر فى الرأى العام بلا خلفية معرفية وبأفكار ليست أفكاره ووجهات نظر نقلت إليه من آخرين، ليساهم فى مزيد من التسطيح لعقول الجماهير، وتنتهى الأمور إلى يد واحدة تصفق مع توقف آلة التصفيق الجماعية، ومن ثم نكون أمام دولة راسبة مسخ، لا نرى فيها الأشياء الجميلة سوى افتراض، والسابق ليس ذنب الإعلام ولكنه نتاج تحولات وسياسات تراكمت لعقود لدولة لم تتحرك من الجراج حتى لا يحرر لها الآخرون المخالفات. مسك الختام: سألوا الكواكبى عن أصل الداء؟ فقال «إنه الاستبداد السياسى». [email protected]