مع كل خطوة أتقدمها يسفر لى المسجد/ المدرسة، عن جزء منه، من هنا يقبل علىّ، وبعد خروجى منه واستمرارى فى الطريق يدبر عنى، لا يختفى فجأة، إنما يتوارى على مهل، حتى يسلمنى إلى مسجد آخر، هذا ما نلحظه فى الطريق، مئذنة تفضى إلى مئذنة، قبة تسلمنا إلى أخرى، على امتداد هذا الطريق وحتى بوابة الفتوح، ثم شارع الحسينية وانتهاء بميدان الجيش، لا يمكن للعين إلا أن تقع على مئذنة أو قبة أو مدخل أو لوحة خط أو جدار منمنم، وتلك حالة تختص بها القاهرة القديمة. ها هى القبة تبدو بكاملها، تبهرنى فيها زخرفتها.. تلك الخطوط الملتوية التى تنطلق من قاعدتها لتتيح انحناءة القبة منتهية عند ذروتها، حركة قوية فيها جرأة وإبداع. شكل من الزخرفة غير مسبوق فى أى مكان من العالم، تكرر هذا فى قبة أصغر حجماً، قبة مدرسة ومسجد الأمير أيتمش البجاسى القريبة من باب الوزير، حركة صاعدة من أسفل القبة إلى أعلاها تبدأ من دائريتها وتلتقى الخطوط كلها عند ذروتها. القبة رمز للكون، كما أنها إشارة إلى الأبدية، تعنى القبة أن تحتها مرقداً / ضريحاً، إما لولى حميم أو صاحب سلطة، وفرق كبير بين مراقد الصالحين ومآوى الحكام عند المصريين، وهذا ما سأتوقف عنده مطولاً، خاصة فى مسجد الرفاعى، ومسجد فجماس الإسحاقى الشهير بأبى حريبة. يحلو لى التطلع إلى المئذنة الرشيقة، العلاقة بينها وبين القبة، ذلك التناسق الخفى الذى يبث نغماً فى الفضاء، لكم تأملت الصلة بين المستقيم الصاعد، الواحد، وبين الدائرى، الدائرة. هذه الصلة بلغت الذروة القصوى فى مسجد قايتباى بصحراء المماليك، تناغم لا مجال للاهتزاز فيه، المئذنة تشد القبة والعكس، تكامل الليل والنهار، الأصل بالظل، الذكر بالأنثى، فكأنه الكمال المنتج للاستمرارية والضرورى للبقاء. أمامى تناسق آخر، مئذنة مصرية حميمة وقبة عليها إبداع فريد، لكن يخيل إلىّ أن المئذنة فيها استعلاء ما على القبة، وأحياناً يخيل إلىّ أن كلاً منهما بمفردها، بعكس مسجد قايتباى الذى لا يمكن أن أتخيل فيه القبة بمفردها بمعزل عن المئذنة. أقترب من المسجد/ المدرسة، نوافذه تكشف لنا المداخل، الواجهة الرئيسية غربية تطل على الطريق، مثل العمارة المصرية المملوكية، قمة اكتمال الشخصية المصرية فى العمارة.. يقوم المبنى على التدرج. لنتذكر: لا شىء يولد مكتملاً، لا شىء يجىء إلى الوجود تاماً، لابد من خطا يكتمل فيها وعبرها المخلوق، نباتاً كان أو حيواناً أو إنساناً، كذلك النهر الذى يبدأ فيضانه بنقطة، مجرد نقطة، هكذا العمارة المصرية الصميمة، فرعونية كانت أو قبطية أو إسلامية مملوكية، العصر المملوكى هو الذى شهد اكتمال الرؤية المصرية الإسلامية، العصر الفاطمى غلب عليه التصميم المغربى، هكذا الأزهر، والأنور (الحاكم بأمر الله) والأقمر، لا تدرج فى العمارة، كذلك الأيوبى. فى المملوكى استعاد المصرى رؤيته إلى الكون، وما من شىء عبر عنها مثل العمارة. مدخل أُلْجاى اليوسفى لا يكشف الصحن الداخلى، كأنه مكتمل، العتبة تحيطها الأساطير، من يعانى أمراضاً مستعصية يمكنه أن يلحس العتبة فيبرأ، أما الجانب الأيسر من الباب فلحسه يؤدى إلى الشفاء من الإدمان. هذا ما أخبرنا به المقيمون إلى جوار المسجد. أتوقف فى المدخل، بالطبع لا يمكن المقارنة بين مدخل السلطان حسن المهيب وبين هذا، غير أن الرؤية واحدة فى كليهما، الرؤية القائمة على التدرج، أتمهل هنا مستعيداً سيرة من أمر بتشييد هذاالمسجد المستكين أول الطريق الأعظم، وسط سوق السلاح. أعود إلى العصر المملوكى، أتوقف عند الأمير أُلْجاى اليوسفى، أما دليلى ومرشدى فهو المقريزى فى موسوعته «المواعظ والاعتبار فى ذكر الخطط والآثار». المنشئ اسمه أُلْجاى (بضم الهمزة وتسكين اللام) ابن عبدالله اليوسفى، لقبه سيف الدين، بدأ مملوكاً صغيراً، ثم راح فى الخدمة، ثم وقعت فتنة قُتل فيها الأمير يلبخا الخاصكى العمرى، فى شوال سنة ثمان وستين وسبعمائة، قبض على أُلْجاى مع عدد من الأمراء، قرر الأمير استدمر الناصرى القوى المتنفد إرسالهم إلى الإسكندرية التى كانت بمثابة منفى لأمراء المماليك وقتئذ، وكان يوجد بها سجن بشع مخصص لهم، سجنوا إلى عاشر صفر سنة تسع وستين، فأفرج الملك الأشرف شعبان عنهم، أمر بترقية ألْجاى إلى رتبة إمرة مائة، وجعله أمير سلاح، ثم قرره أمير سلاح أتابك العسكر وناظر المارستان المنصورى مستشفى قلاوون عوضاً عن الأمير «منكلى بُغا» هكذا تحول وضع الأمير ألْجاى من مسجون إلى مركز قوة، أصبح مهاباً جليلاً، هنا نتوقف أمام هذه السمة المملوكية التى لاتزال سارية حتى الآن فى مصر، إنها العنصر الشخصى فى السلطة، فالمهم قرب الشخص وليس مقدرته، وهذا القرب يمكن أن يتوقف على المزاج الشخصى، لذلك توقفت كثيراً أمام هذه العبارة التى تتردد فى حوليات التاريخ خاصة عند ابن إياس.. «وفيه تغير خاطر السلطان عليه..» وفيه، أى فى يوم كذا، أما تغير خاطر السلطان فقد حدث هذا كثيراً بالنسبة لأمراء كبار كانوا من أركان الدولة، أفحش بعضهم فى الثراء، حتى إنهم جمعوا المال والتحف وكل ما هو نفيس، أحدهم جرى استعراض ثروته لمدة ثمانين يوماً فى المدينة بعد أن تقرر عرض موجوده أى ممتلكاته على الناس، إن تغير خاطر السلطان على شخص قد يجرى لأسباب تتعلق باكتشاف مؤامرة أو دلائل تشير إلى قلة الولاء، أو اقتناع السلطان بهمس آخرين، أصبحت المسافة بين أفواههم وأذن السلطان قصيرة، إن العلاقات بين الحواس الإنسانية لها دور مهم فى علاقات السلطة، فكلما كان فم إنسان ما أقرب إلى أذن المسؤول الأعلى ازدادت أهميته وقويت مكانته، وفى لحظة معينة تتأثر حواس السلطان بحاسة السمع فيقع تغير الخاطر على الشخص الذى كان مقرباً جداً، وربما يحدث هذا التغير دون سبب، فقد كان بعض السلاطين متقلبى المزاج، قد يتغير خاطر أحدهم لمجرد أن شكل الأمير لم يعجبه، إن تغير خاطر الحاكم تعقبه إجراءات خطيرة، لنر تتابعها، أولها، الترسيم عليه (أى اعتقاله) وثانيها: الحوطة على موجوده (أى مصادرة أمواله وكل ما يمت إليه، بما فى ذلك حريمه من زوجات وجوار وعبيد) ثم الشك فى الزنجير: أى تقييده فى سلاسل، ثم إرساله إلى سجن الإسكندرية الرهيب ليلقى حتفه. إن عبارة «تغير خاطر السلطان عليه» من العبارات الحاكمة، الدالة على طبيعة السلطة المملوكية حيث الشخصنة عنصر أساسى، نعود إلى مشيد المكان، الأمير ألْجاى، لقد كان سعيد الحظ، نجا من السجن وترقى فى مناصب الدولة، لم يصبح قريباً فقط من السلطان شعبان، إنما حظى بقرب نادر لم يتفق لمثله، لقد تزوج أم السلطان نفسه، الأم كانت شخصية قوية، ويبدو أنها كانت محبة لفنون الحياة، اسمها خوند بركة، والطريف أن أهالى الدرب الأحمر المقيمين بجوار مسجدها الجميل يتحدثون عنها بسلبية، أحدهم قال لى: «لا مؤاخذة يا أستاذ أصل مشيها كان وحش» ولا أدرى مصدر هذا، ربما حكايات متوارثة من الزمن القديم، وليت أحد الباحثين يهتم بالتاريخ الشفهى غير المكتوب ويقارنه بالمدون، ولعل المثال الأوضح ما يتعلق بالملك الظاهر بيبرس الذى حوّله الشعب المصرى إلى بطل ملحمة أسطورية شفاهية مثل الهلالية، وقد أعدت طباعتها فى خمسة مجلدات صدرت عن الهيئة المصرية للكتاب، إنه السلطان المملوكى الوحيد الذى تحول إلى بطل أسطورى فى مخيلة الشعب، حالة نادرة جداً. إذن.. مازالت الألسن تلوك سيرة أم السلطان شعبان التى تزوجت الأمير ألْجاى فعظم قدره واشتهر ذكره، وكما يقول المقريزى: «فتحكّم فى الدولة تحكماً زائداً..». ماتت خوند بركة أم السلطان، وعندئذ بدأ تمرد الأمير ألْجاى الذى أظهر العصيان، لبس آلة الحرب، واستنفر مماليكه، كان يريد الحصول على ميراث أم السلطان (زوجته)، رفض السلطان وقرر مواجهته، جرى قتال شديد بين الطرفين، انتهى بهرب الأمير ألْجاى إلى قليوب وأثناء المطاردة ألقى نفسه فى النيل راكباً فرسه وغرق، الغريب أن الفرس سبح ونجا أما ألْجاى فهلك، بعث السلطان الغطاسين للبحث عن جثمانه، وجدوه وحملوه فى تابوت إلى مدرسته هذه وغُسل وكُفن ودُفن بها، أم السلطان ترقد فى مدرستها القائمة حتى الآن على مقربة فى شارع الدرب الأحمر، وحديث المقريزى عنها عكس ما يتوارثه الناس، إذ يقول عنها إنها كانت «خيرة عفيفة، لها بر كثير ومعروف معروف، تحدث الناس بحجتها عدة سنين لما كان لها من الأفعال الجميلة فى تلك المشاهد الكريمة، وكان لها اعتقاد فى أهل الخير، ومحبة فى الصالحين، وقبرها موجود بقبة المدرسة، وأسف السلطان على فقدها، ووجد وجداً كثيراً لكثرة حبه لها». داخل المدرسة التفت إلى الطريق قبل انتقالى إلى الداخل، إلى الصحن، على الناحية الأخرى حارة الشماشرجى، وتلك وظيفة من العصر العثمانى، إنه ذلك الرجل الذى يجرى مفسحاً الطريق أمام الأمير الذى يركب خيلاً أو عربة، قرب الحارة كان يوجد حتى سنوات قريبة آخر ورشة لصناعة السلاح فى السوق، السلاح المقصود هو الخناجر والسيوف وما شابه. أخطو إلى الداخل، شيئاً فشيئاً يتسرب المكان إلىّ ويبدأ اندماجى به، نتبادل المواقع، يصير المكان عندى وأصبح جزءاً منه، أما الحال الغالب، النابع من التصميم فهو التوازن، توازن مدهش، لم أعرف له مثيلاً. الإيوان فى مواجهة الإيوان النافذة تقابلها أخرى الدائرة فى مواجهة الدائرة هنا تبزغ سورة الرحمن، فكأن المعمارى الذى خطط استلهم ذلك التوازن الكونى من السورة التى أشعر داخلها وأثناء ترتيلها بنظام تسيير الكون من أصغر ذرة إلى أكبر فلك طبقاً لقانون خفى يحقق الانسجام والتوازن، لذلك أغمض عينى وأرتل السورة ترتيلاً فأرى سر البنيان كله، بما فى ذلك حركة القبة الغربية من خلال زخرفها الفريد. عَلَّم القرآن خلق الإنسان عَلَّمه البيان الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا فى الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان فبأى آلاء ربكما تكذبان.