ألقت الأزمة العالمية بظلالها على صناعة الأثاث الدمياطى، وخيمت تداعياتها على قلعة تصنيع الموبيليا فى مصر، التى تواجه حالة ركود وصفها البعض بأنها «مدمرة»، فيما اعتبرها آخرون «عارضة» رغم أنها تسببت فى «وقف حال» معظم الصناع والتجار ومكاتب الشحن.. و«الشيالين» أيضاً. ولم تقف آثار الأزمة العالمية عند هذا الحد، بل طرحت العديد من «الأسئلة الصعبة»: هل انهارت قلعة الأثاث فى مصر؟ وما أبعاد الخسائر التى طالت الورش والمصانع؟ وهل أصبحت سمعة الأثاث الدمياطى فى خطر؟ وإلى أى مدى أنقذت التخفيضات الأخيرة فى أسعار الموبيليا «الدمياطى» مئات المصانع والورش من الإفلاس؟ «الناس مش هاتبطل جواز لكن العرسان بقوا يسترخصوا فى تأثيث البيت».. بهذه الكلمات عبر محمد عامر، أحد مصنعى الأثاث فى دمياط، عن حال سوق الموبيليا بالمحافظة حالياً، موضحاً أن الأزمة العالمية أثرت على حركتى البيع والشراء سلبياً، خاصة فيما يتعلق بتصدير الأثاث. وأضاف عامر: المشكلة أن معظم الدمايطة يعتمدون فى دخولهم على الورش، سواء كانوا صنايعية أو أصحاب رؤوس أموال، وحركة السوق حالياً تعانى ركوداً بنسبة 50٪ تقريباً، الأمر الذى أثر على حركة التشغيل، ودائرة الإنتاج، ودخول العمال أنفسهم، إلى جانب أرباح أصحاب رأس المال. وتابع: حركة تصدير الموبيليا أصابتها الأزمة العالمية فى مقتل، موضحاً أن أوروبا وأمريكا ومعظم دول العالم تأثرت كثيراً بالأزمة، وهذا الوضع انعكس حتى على عمل مكاتب التصدير و«الشيالين» وأصحاب سيارات النقل والسائقين والدهانين و«الأستورجية»، وكل من له علاقة بهذه الصناعة التى ضربت فى مقتل، خاصة أننا الآن نتردد فى قبول سداد بعض قيمة الأثاث المصدر بعد فترة، خشية عدم تمكن المستوردين من سداد التزاماتهم، بعد أن كانت الأمور سابقاً تسير ب«كلمة شرف»، فالوضع الحالى يجعلنا أكثر تردداً وخوفاً من البيع «المؤجل». وعن العمالة وتأثرها بعملية الركود يقول عامر: «العمال غلابة، وظروفهم صعبة لكن آدى الجمل وآدى الجمال»، ويوضح: من الطبيعى أن تستغنى بعض الورش عن العمال الذين يرى صاحب المال أنهم عبء على العمل، وهو ما حدث بالنسبة لمئات العاملين فى دمياط، بعد فترة الركود الأخيرة، مؤكداً أن باقى الورش التى لم تستغن عن عمالة لديها أخذت بفكرة الصبر، على أمل تحسن الأوضاع، وهذا ذكاء من أصحاب هذه الورش، ليضمنوا أن يكون لديهم إنتاج كاف، عند عودة الأمور إلى مجراها الصحيح من جديد. ويوضح عامر أنه رغم انخفاض سعر الخامات، فإن الانخفاض كان بنسبة لا تتواكب مع زيادة أجرة «الصنايعية» وتكاليف النقل، وكمية الإنتاج، الأمر الذى لا ينعكس على أسعار الموبيليا بالانخفاض. أما الحاج طه أبوصير، من أقدم مصنعى الأثاث فى دمياط، فيقول: إن حركة التصدير تأثرت سلباً بالأزمة العالمية، إلى جانب تراجع الطلب على الأثاث فى السوق المحلية بسبب الغلاء وتراجع معدلات الزواج، مقارنة بالماضى، رغم أن الجودة الآن أعلى بكثير، واصفاً السوق بأنها «نائمة»، ويتابع: «الناس زمان كانوا يهتمون بالموبيليا وخاماتها، أما الآن فيبحثون عن أى أثاث، بغض النظر عن جودته، المهم هو أن يكون سعره رخيصاً. يضيف أبوصير: «الناس فاكرانا بنكسب ملايين مع أن الحقيقة غير ذلك، ومتر الخشب الزان الذى نصنع منه الصالونات وصل إلى 3500 جنيه، وهناك ارتفاع مستمر فى أسعار الدهانات»، ويستطرد: «هانزّل سعر الموبيليا إزاى وإحنا مغلوبين على أمرنا؟». وعن التصدير يقول: إن المصنعين لا يصدرون الآن فى «كونتينرات» مثلما كان يحدث فى فترة انتعاش السوق، والأمر يقتصر الآن على شحن المطلوب فقط وغالباً ما يكون قطعة فقط أو عدة قطع صغيرة، وهو ما أثر بالطبع على الأرباح وحجم العمالة فى الورش التى بدأ معظمها الاستغناء عن بعض عمالته لترشيد نفقاته، خاصة مع تراجع حركة البيع. وعن عزوف أبناء الدمايطة عن العمل فى مهنة آبائهم وهجرة الشباب من بعض المحافظات القريبة للعمل فى دمياط، يقول طه: «للأسف المهنة لم تعد كما كانت.. زمان كان فيه انتماء وإخلاص فى العمل، أما الآن فالدخلاء فرضوا أنفسهم على (الكار)، خاصة مع دخول الكهرباء إلى كل مكان تقريباً فى مصر، حيث أصبح بإمكان أى أحد أن يفتح ورشة ويقول: «إنه يصنع الأثاث مع أن السلع التى ينتجونها رديئة جداً، وكل همهم هو المكسب وخلاص». يضيف طه، الذى عاصر عدة أزمات ركود، شهدتها سوق الأثاث: «إن الأزمة الحالية أعنف من أى أزمة سابقة»، موضحاً أن أقصى ركود كانت تمر به السوق لا تتجاوز مدته شهراً أو شهرين، أما الآن فالوضع ليس سهلاً، مؤكداً صعوبة التنبؤ بالفترة الزمنية، التى ستستغرقها الأزمة العالمية، حتى تعود السوق إلى سابق انتعاشها». وعن الفارق بين جودة الموبيليا الآن وما كانت عليه فى الماضى، يوضح محمد، ابن الحاج طه، خريج كلية التجارة: «موديلات الموبيليا الآن تشهد طفرة كبيرة، وهو ما جعلنا ننافس فى الأسواق الأجنبية، التى غزاها إنتاجنا»، ويضيف: «المشكلة أن الشباب الطموحين فى مجال تصنيع الأثاث، يواجهون عقبات كثيرة، عند تنظيم معارض لإنتاجهم فى الخارج، مثل اشتراط استخدام 30 عاملاً فى الورشة، ووجود رصيد فى البنك، وهذه هى شروط الغرفة التجارية، التى أرى أنها تخدم فئة معينة هى كبار المصنعين الذين يستفيدون من الدعم، مع أن صغار المصنعين فى أمس الحاجة له. يضيف محمد: «هذه الشروط رغم أننا نراها (تعسفية) وتعوقنا كثيراً فإنها تحمى السوق من (النصابين)، فمن الممكن أن يتلاعب بعض من يدعون أنهم صناع أثاث، بالمشترين الذين قد يوهمونهم بقدرتهم على توريد موبيليات بشروط معينة أو كميات معينة، لكنى أطالب فى الوقت نفسه بدعم صغار الصناع، حتى يستطيعوا المنافسة، فى سوق عالمية تحولت إلى (غول) بفعل ضعف الإقبال على الشراء. وعن حركة التصدير يقول محمد: «زمان كان معرضنا فى الخارج يطلب قطع أثاث زيادة على المطلوب منه، ويتولى هو تصريفه، أما الآن فالطلب يكون محدداً، وفق المطلوب منه فقط. وبحسرة شديدة يقول محمد العوادلى، أحد مصنعى الأثاث القدامى: «إن السوق تغيرت والحال لم يعد كما كان، موضحاً أن أخلاق التجار الشرفاء، لم تعد كما كانت، وأن التجار الحاليين، خاصة تجار الخشب، يقومون بعمل (رباطية) بينهم، يحددون من خلالها سعر الخشب، حتى لو كان هذا السعر خيالياً، رغم أن الخشب الموجود فى الجمارك درجة (سابعة)، ويعلق بقوله «ربنا يغنيهم.. تجار الخشب عملوا ملايين، لكن المفروض إنهم يفيدوا ويستفيدوا عشان السوق تمشى». ويعلق رأفت العراقى، أحد قدامى مصنعى وتجار الأثاث فى محافظة دمياط، على سوق تصدير الموبيليا إلى الدول العربية والأجنبية، فى ظل الأزمة الراهنة، بقوله: «إن الأزمة الاقتصادية أثرت بشكل كبير على تجارة الموبيليا، موضحاً أن نسبة 80٪ تقريباً من إنتاج الورش والمصانع كانت تصدر إلى دول أوروبا، وأمريكا والدول العربية، وتبقى نسبة 20٪ للسوق المحلية، سواء كان التصدير لخشب مدهون دون تنجيد أو إكسسوار، أو منتجاً نهائياً كاملاً». وعن الدول المستوردة قال: «إن فرنسا وإيطاليا وإسبانيا هى أهم الدول المستوردة وتعتمد شركاتها على أنماط معينة من الأثاث، خاصة الذى يحوى أشغالاً يدوية». ويضيف العراقى: المشكلة هى أن الدمايطة يعملون فى «جزر منفصلة»، فالتاجر منعزل عن المصنع، رغم أن التكامل بين هذه الوحدات سيكون فى مصلحة الإنتاج المحلى، وبخاصة أن التجار هدفهم الربح فقط. وعن التغيرات التى لحقت بصناعة الأثاث الدمياطى يوضح أن الوضع الحالى على مستوى الفن والموديلات أفضل بكثير من الماضى، حيث أتيح فى السنوات الأخيرة، سفر الشباب إلى الخارج، واحتكوا خلال زياراتهم بالشركات الأوروبية والموديلات الحديثة، وبدأوا يتعلمون فى مدارس مختلفة، حتى إنه الآن يوجد من يسمى «مصمم»، لم يكن موجوداً من قبل، حيث كان الجميع يعتمدون على التقليد. وعن آثار الأزمة على حركة تصدير شركته، قال: «إن مبيعات شركته تقلصت فى العام الماضى، موضحاً أن شركته فى أوروبا كانت تستورد «2 كونتر» شهرياً، بينما أصبحت تطلب «كونتر واحداً» كل 3 شهور. ويوضح أن التصدير إلى البلدان العربية نوعان، الأول طلبيات بالمقاس والثانى هو الأثاث المتعارف عليه، وكان العميل أو الشركة يطلبون 3 غرف أو 6 والآن يطلبون غرفة واحدة، وكان عندى عميل معدله «2 كونتر» فى الشهر، والآن أصبح كل 3 أو 4 شهور يطلب «كونتر» واحدا، لدرجة أننا أصبحنا «مرعوبين» مما قد يحدث غداً، إذا استمر «وقف الحال» على ما هو عليه. وعن تأثيرات الأزمة على السوق المحلية أوضح أن المستهلك المحلى «خايف» ومنتظر انخفاض الأسعار، رغم انخفاضها الملحوظ فى الآونة الأخيرة، والعميل أصبح «قلقان» من الشراء بسعر قد يشترى بأرخص منه بعد فترة، وأعتقد أن السوق المحلية لم تتأثر كثيراً بالأزمة العالمية. وحول تأثيرات الأزمة على مكاتب الشحن والعاملين فى هذا المجال، قال عز الدمك، صاحب مكتب نقل وشحن برى وبحرى وجوى: «منذ أيام قليلة وعند مراجعتى الأوراق الموجودة فى مكتبى اكتشفت أن معدلات الشحن والتفريغ انخفضت بنسبة 80٪ خلال الشهور الستة الماضية، ويوضح: «بعد أن كنا بنطلع 10 طلبيات فى الأسبوع أصبحنا بنطلع 2 بس، وهو ما حدث مع باقى المكاتب تقريباً، على مستوى النقل البرى والبحرى والجوى أيضاً، وعلى مستوى التصدير والنقل فى السوق المصرية». وعن تبعات خفض أسعار الأثاث فى الآونة الأخيرة، على حركة البيع والشراء، قال «الدمك»: عملنا زى راجل مريض قعدنا نحقنه ب«منشطات» تقوية، لكنها فى النهاية «مسكنات» مؤقتة للمشكلة، التى لن يحلها خفض الأسعار، وبخاصة أن هذه التخفيضات ليست فى صالحنا، فى ظل ارتفاع أجور الصنايعية وتكلفة النقل والخامات. وعن تأثير هذه التخفيضات قال: قبل التخفيضات بأيام قليلة كان بعض المصنعين والتجار يحاولون البحث عن مهن أخرى، يتكسبون منها أكل عيشهم، لأن الحالة كانت «تصعب على الكافر»، لكن بعدها مباشرة بدأ المؤشر يتحسن بشكل طفيف، أشعرنا بأن هناك أملاً فى الاستمرار. ويرى الحاج مجدى دافع، صاحب ورشة تصنيع أثاث فى دمياط، أن الأزمة الاقتصادية العالمية، أثرت على البلد بأكمله، مؤكداً أنه رغم تراجع حجم المبيعات فى السوق المحلية وانخفاض معدلات التصدير، إلا أن معظم المصنعين والتجار لم يستغنوا عن العمالة الموجودة لديهم، وبخاصة أنهم يعملون معهم منذ سنوات طويلة، وعن أجورهم أكد أنها مازالت كما هى رغم الركود وارتفاع أسعار الخامات، حتى إن معظمهم يطالب بزيادة أجورهم، بسبب غلاء المعيشة. ويضيف: «الحركة لم تتأثر كثيراً بالنسبة للمنتج الشعبى، لكن الإنتاج السوبر تراجع الطلب عليه، بنسبة النصف تقريباً، والمشكلة حالياً فى رداءة الخامة نفسها، فكثيراً ما تؤدى إلى تصنيع منتج سيئ، وبخاصة أنه لا يوجد خشب نمرة واحد فى مصر.. حتى الزان الموجود ليس على المستوى المطلوب، ورغم ذلك نتكلف كثيراً حتى نُصنع منتجاً نهائياً محترماً، إذ نضطر لأن نجفف الخشب ونصل به إلى المستوى المطلوب، لأن المسألة سمعة فى النهاية، وعن الصعوبات الأخرى يؤكد أن ارتفاع أسعار الكهرباء أحد أهم هذه العقبات، حيث يجد صاحب المصنع نفسه مطالباً بسداد آلاف الجنيهات شهرياً للكهرباء، رغم حالة الركود الموجودة و«وقف الحال». «الخشب أصبح فيه لخبطة كبيرة والخامة فيها نسبة رطوبة عالية ومافيش مخازن مناسبة فتتحول الخامة إلى «شوربة» لا تصلح لإنتاج أى شىء».. بهذه الكلمات علق إبراهيم بازين، صاحب ورشة تصنيع أثاث، على ما آلت إليه أوضاع الخامات وعمليات تخزين الخشب، وأضاف: الخشب أصلاً بيكون عاوز تجفيف، وحين نشتريه يقسم لنا البائع أنه خشب «مبخر»، ولأن الخشب موجود فى الشمس نتأكد من صلابته وبعد شرائه وفحصه نتأكد من أن بداخله «عجين». وتابع: «هناك عشرات التجار باعوا منتجاتهم بالخسارة بسبب حالة الركود، وأنا شخصياً كنت أبيع بعض الغرف ب9 آلاف جنيه، أعرضها الآن ب6 آلاف فقط». وعن الأخشاب المستوردة قال: «معظم الخشب الموجود فى دمياط «ردىء»، ورغم تراجع المبيعات مازالت أسعار الأخشاب مرتفعة جداً، ف«متر خشب الزان» وصل سعره الآن إلى حوالى 2000 جنيه للنوع الردىء و3 آلاف للزان «المبخر». من جانبه، أوضح عبدالحليم العراقى، سكرتير عام الغرفة التجارية فى دمياط، أن إنتاج دمياط من الأثاث، يمثل حوالى 85٪ من حجم إنتاج الأثاث المصرى، موضحاً أن الربع الأول من العام الحالى شهد زيادة فى معدلات التصدير، بنسبة 26٪ من حجم التصدير، فى العام الماضى، رغم الأزمة الاقتصادية العالمية. وأضاف العراقى: «حضرنا مؤخراً معرضى باريس وميلانو، ورغم ضعف الإقبال، إلا أننا وقعنا عدة تعاقدات جديدة». وأوضح: «نحن نواجه الأزمة العالمية، بفتح أسواق جديدة، حتى نحافظ على تواجدنا عالمياً، ونستطيع تصريف إنتاجنا». وطالب المصريين بالتكاتف وتشجيع شراء المنتج المصرى، لتستعيد صناعة الأثاث مكانتها وتوازنها من جديد.