علّق الأستاذ حمدى يوسف على مقالى السابق متسائلاً ماذا يفعلُ مع طفلته الصغيرة التى تطلبُ منه أن يأتيها بفأر أبيضَ لتربيَه؟ هو يكره الفئرانَ؛ لأنَّ لديه ميراثًا مريرًا معها، فيما طفلتُه لم تكوّن بعد ميراثَها الخاصَّ مع الفئران. كلُّ ما تعرفه أنها كائناتٌ ذكيّةٌ خفيفةُ الظلّ، تذكِّرها ربما بالفأر «جيرى» فى الكارتون الشهير. هذه الطفلةُ الجميلة، وكلُّ أطفال الدنيا، يشبهون ذلك الكائنَ الفضائىَّ الذى تكلمنا عنه فى المقال السابق، من حيث أنَّ لا ميراثَ لديه مع الصرصار أو الفأر أو الفراشة أو سواها من كائنات الأرض، جميلها وقبيحها، حسب تقييمنا البشرىّ. لهذا السبب، الأطفالُ علماءُ كبار. لديهم نظرةٌ صافيةٌ بِكرٌ للأشياء، لم تلوّثها بعدُ المعرفةُ المنقولةُ عن الآخرين. يمكن لطفلٍ صغير، إذا ما رأى صرصورًا، أن يركضَ وراءه بفرح، محاولاً الإمساكَ به واللعب معه. سوف تنهره أمُّه، ثم يبصرُها وهى ترفعُ حذاءَها، وعلى وجهها سيماءُ التقزُّز والنفور. هنا سيتعلّمُ الطفلُ شيئًا جديدًا.. درسَه الأولَ حول تقييم الموجودات من خلال أعين الآخرين وعقولهم. سيتعلّم أنَّ هذا الكائنَ مُنفِّرٌ وغيرُ مرغوبٍ فى وجوده بيننا، نحن بنى الإنسان. تمامًا مثلما سيتعلم، عبر ابتسامة الراحة والنشوة فى وجه أمه، وهى ترقبُ فراشةً ملوّنة غافلتِ النافذةَ ودخلت غرفتَها، أن الفراشةَ كائنٌ عَذْبٌ جميل. هنا يبدأ الطفلُ فى تكوين إرثه المعرفىّ حول الأشياء. هو إرثٌ نَقْلىّ غيرُ عقلىّ تقريبًا. ذاك أنه يرانا، نحن الكبارَ الناضجين، نكرهُ ونحبُّ، فيتعلم، لا إراديًّا، أن يكرهَ ويحبَّ. والمؤسفُ فى الأمر أن معظم معارفنا نَقْليةٌ بامتياز، لا محلَّ للعقل فيها إلا أقلّ القليل. كلُّنا يقلّد أباه وأمّه ومعلّمَه وشيخَه وكاهنه وحبرَه، ولا نُعْمِلُ عقولنا إلا قليلاً! وهنا، أنا لستُ أدعو إلى وأْد التراث، بل إلى تأمله جيدًا والتبصّر فيه. تجاربُ الآخرين توفّرُ لنا الوقتَ وتختصرُ الجهدَ، دون شك، لكنها تحرمنا لذّةَ الكشف الأول. لابد أن نخوضَ التجاربَ كى نفرحَ باكتشافاتنا واندهاشاتنا. للاندهاش متعةٌ فريدة لا تمنحها لنا النصائحُ الجاهزة المُعَلَّبة. لماذا لا نترك أبناءنا يخبرون كشوفَهم ويصادفون اندهاشهم بالأشياء، طالما أمِنّا عليهم من المخاطر؟ لذا، ربما سأقترحُ على عزيزى الأستاذ يوسف، ليس فقط أن يأتى طفلتَه بفأر أبيض، ويتركها مع دهشتها الفَرِحَة الأولى به، بل سأدعوه أن يجرِّبَ معها كشفَها الخاصَّ الطازجَ بالفأر الصغير، ربما غيّرت الصغيرةُ إرثَه السلبىَّ القديم، ربما صالحته على كائنٍ تعسٍ لم يحبّه يومًا اسمه «الفأر». وطبعًا على الفأر، أيضًا، أن يقدِّمَ أوراقَ اعتمادٍ جديدةً تجعله كائنًا جميلاً غير مقزز، وهو ما لا أضمنه أنا، لكننى، بكلِّ يقين، أضمنُ للأب والطفلة تجربةً جديدة تحملُ كشوفًا لا تخلو من متعة ودهشة. أظنُّ أن الفنانين التشكيليين هم أوّلُ من أدركَ فرادةَ «عين» الطفل من حيث التقاطها البِكْر للموجودات من حولها. لذلك راح الفنانون يحاولون إبصارَ الأهداف التى يرسمونها من خلال عيون الأطفال الصافية. فى المراحل المتقدمة من تجربته الفنية، راح بيكاسو يرسمُ العالم كما لو بريشةِ طفل يلهو بالفرشاة ويعبث بالألوان. وقال فى هذا: «هل كان علىّ أن أعيشَ ستين عامًا لأرسمَ كما يرسم الأطفال؟» كذلك الشعراءُ يحاولون ألا يكبرَ الطفلُ الصغير فى أرواحهم، من أجل أن يقبضوا على جمرة الدهشة الدائمة، تلك التى تموتُ موتًا بطيئًا كلما تقدمنا فى العمر، ونضجَ وعيُنا بالأشياء. أنْ تظلَّ تندهشُ مما قد لا يُدهِشُ الآخرين، أنْ تجدَ الجمالَ فيما يراه الناسُ قبيحًا، أن تفتِّشَ بين خبايا الشىء عمّا لا يراه الآخرون، أن تظلَّ تُبهجُكَ ورقةُ الشجرة، وريشةُ الطائر، وشَقٌّ ضئيلٌ فى صخرة، ومَيْلٌ طفيفٌ فى ساق نبات، ونملةٌ صغيرة تسعى نحو جُحْرها، فأنتَ طفلٌ، وأنت عالِمٌ، وأنت، بالضرورة، شاعر. [email protected]