«جنس الفئران هو مرآة الجنس البشرى. حياتهم صورة مقلوبة لكن متشابهة!» هذه هى خلاصة تجربة سنة كاملة قضاها الكاتب الأمريكى روبرت سوليفان فى زقاق ضيق غير نظيف فى مدينة نيويورك، لكى يلاحظ حياة الفئران وعاداتهم وتفاعلهم مع بيئتهم. وهى التجربة التى سجلها فى كتابه «الفئران: ملاحظات حول تاريخ وأماكن سكان المدينة غير المرغوب فيهم «Rats: Observations on the History and Habitat of the City's Most Unwanted Inhabitants الصادر عام 2004. الحرب المستمرة التى يخوضها الإنسان ضد وجود الفئران حوله قد توحى بأن الصراع يوجد فقط عندما يتداخل عالم الإنسان مع عالم الفئران وكأنه من المفروض أن يعيش فى الغابات والصحارى. ولكن العكس هو الصحيح، كما يقول سوليفان، فوجود بعض الحيوانات الدببة مثلا فى مكان ما يعتبر مظهرا لسيطرة الحياة البرية وأنه لا وجود لمجتمع إنسانى، بينما وجود الفئران مرتبط دائما بوجود حياة إنسانية. تاريخيا، انتقلت أجناس الفئران بين أنحاء الأرض مع قوافل وسفن التجارة والحرب. ودائما كانت بقايا ومخلفات الإنسان فى المدينة أو بعض ما يزرعه فى الريف هو الغذاء الأساسى لها. وقد يكون أحد مظاهر التشابه فى مرآة الفئران هو تمتع فأر المدينة عادة بأنواع مختلفة وكميات كبيرة من بقايا الطعام التى يحرم منها فأر المزارع. فى إحدى حكايات أيسوب الحكيم يدور حوار بين فأر المدينة وفأر القرية فيفضل الأول الرفاهية مع الخطر مطاردات سكان المدينة وحيواناتهم بينما يفضل الثانى الأمن على الرفاهية. المدينة بالتأكيد أكثر انزعاجا من الفئران، ولذلك تعيش الفئران الحياة المقلوبة للحياة الإنسانية. فهى تنتعش فى المناطق الأفقر التى تعيش فى ظروف اقتصادية واجتماعية أقل. يفضل الفئران الحياة فى الأماكن التى يكرهها الإنسان، فى مقالب القمامة والبدرومات القذرة وشبكات الصرف والمبانى المهجورة والأسطح غير النظيفة للمنازل. الأزقة الأضيق التى لا يدخلها ضوء الشمس هى البيئة الأفضل لهم، حيث الظل والظلام والمساحة الصغيرة التى تتيح لهم العودة إلى الجحور عندما يهاجمهم البشر. يتحرك الفئران ليلا لكى يقللوا احتكاكهم بالإنسان، رغم أن بصرهم ضعيف، ولكن حاسة الشم واللمس والسمع عند معظم أنواعهم قوية جدا. وأجسادهم معدة لتتمكن من العيش والحركة فى أماكن غير تقليدية. يمكن للفأر أن يضغط جسده لكى يمر عبر فتحة ضيقة أو لكى يختبئ فى جحر صغير يقل كثيرا عن حجم جسده العادى وقد يصل إلى ثلاثة أرباع بوصة (أقل من 2 سنتيمتر) وأقدامه قوية وتتحمل الجرى السريع والتسلق والتشبث بالأسطح المائلة وهى مستعدة للسباحة والغوص أيضا. أسنانه تفوق الألومنيوم والنحاس والرصاص صلابة وفى بعض الأنواع تقترب صلابتها من الحديد الصلب، لذا فإنها تتيح له القرض فى الخرسانة المسلحة لكى يعد لنفسه جحرا. القطيعة بين الإنسان والفأر إذا تركنا التقزز أو الخوف جانبا سببها الأكثر رعبا هو نقل الأمراض، ويكفى مرض الطاعون الذى قضى على ثلث سكان أوروبا فى القرن الرابع عشر. ولكن رغم ذلك فالفأر أسدى خدمات جليلة للإنسان، باعتباره الحيوان المفضل ليكون محل التجارب بدلا من البشر. ليس التجارب العضوية فقط باعتباره من الثدييات، ولكن النفسية أيضا، حيث يرى بعض علماء النفس أن جانبا من سلوكياته قريبة من الإنسان. مثلا، معدل ضربات قلب بعض أنواعه عند الخطر مشابهة لنظيرتها عند الإنسان. ينقل سوليفان أيضا نتائج بحث أجراه عالم الحيوان مارتن شاين عام 1953 وجد فيه أن الفئران فى بالتيمور يقبلون أكثر على أنواع الأطعمة المفضلة لدى أهل البلدة! ربما بسبب اعتيادهم على بقاياها ويضيف سوليفان أن فئران نيويورك يقبلون أيضا على الفطائر الأكثر رواجا فى المدينة. ولكن علماء آخرين يرون الفئران أكثر إقبالا على المزروعات وأعوادها، وهذا هو سبب انقضاضهم المستمر على ما يشبهها من الأسلاك والأنابيب الصغيرة. يشير سوليفان إلى دراسات أمريكية تقول أن 26% من أعطال أسلاك الكهرباء و18% من أعطال أسلاك التليفون و25% من الحرائق هى بسبب هذا السلوك عند الفئران، وهو بالتأكيد عامل آخر يثير حفيظة الإنسان خاصة فى المدينة وسبب كاف لمحاولته المستمرة إبادة الفئران. ولكنها المحاولة العبثية إلا إذا تمكن من إيجاد طريقة لتنظيف كل شبر وجحر فى المدينة بالبخار، ولذلك فإن الجيرة بين الناس والفئران تستمر رغم الانزعاج المتبادل.